جدّي (غشيم)..

غالباً ما أحمد الله وأشكره لأن لي جداً اسمه (غشيم)، عرفته إثر حملات التأطير السكاني والجرد الحزبي، والنبش في سجلات العراقيين المدنية للتأكد من تبعيتهم (العثمانية) التي تقوم بها أجهزة نظام صدام بين الحين والآخر، منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، واستمرت حتى نهايته، بأساليب و(فنون) لا مثيل لها في البحث عن الأرومات (الأصيلة). فهناك شكوك دائمة في عراقيتنا ووطنيتنا، كأننا شعب بلا تاريخ، ولا أصول، شعب مقذوف إلى الحاضر من اللاـ مكان واللاـ زمان. حينذاك كنا نسبّح بحمده أنهم لم يجدوا في أصولنا اسم (أغا)، أو (جيهان) أو اسم (شاه)، لا في سلالتنا (الصافية المصفّاة)، وحمدت الله مرة ثانية أنهم عثروا على(غشيم) والد جدي (علي)، الذي لا مثيل لاسمه في السجلات المدنية العراقية، فحملنا الامتياز وحدنا، تمسكنا به، خشية ألا يضيع من بين أيدينا.
كنا ننصت إلى الأصوات الآتية من الماضي، فلم نفلح في استرجاع صوت (غشيم) ولا صورته.
على الرغم من سعينا القفز على (غشيم) في حالات لا تتطلبها الإجراءات الرسمية، فنذهب إلى الجدّ الذي يليه (حمد) أبيه، الأجمل (ما عبّد وحمّد) بين الأسماء، عملتها أكثر من مرة للالتفاف على اسم جدي غشيم، حين ينتابني شعور بالخجل أثناء المناداة على اسمي في جمع من الناس، لا شك أني أتمنى لحظتها أن يكون أسم جدي (نبيه)! لكنه يلازمنا، لا فكاك من ظلّه في كل الأحوال .
لم يكن (غشيم) ابن مدينة، كان إنساناً مشتعلاً بالحرمان – كما يروي أبناؤه- تلفحه رياح الفصول، ينام ويصحو على فقره، يقيم في أرض يشبّ البؤس والجوع فيها، لا غيم يهطل ولا شفة تتوحم بالماء. كل زاده من الدنيا بضع نعجات يقتات من لبنها، فهو غير (زبالة) ابن بغداد العاصمة، الذي عبرت شهرته الأفاق بـ(شربته) المصنوع من الزبيب، وغير (جريو) الذي تنسب له العائلة النجفية المشهورة والكريمة، فقَدر (غشيم) وقدرنا، أنه عاش حياة بسيطة في الأماكن التي يتناسل فيها الجراد، الوصول إلى تفاصيلها غير مأمون الجانب، وتاريخ هذا النمط من الناس مرشح دائماً للنسيان، حين لا نجد أثراً أو معنى للاستذكار.
قدرنا الآخر أن اسمه على الأغلب لا يكتبه موظفو السجل المدني بصورة صحيحة، فتذهب نشوة (الامتياز)، والزهو بـ (الغشمنة)، لتحضر المتاعب بديلاً عنها، تذكّرنا بمساحات مجهولة ما زالت مستكينة في أعماقنا، فـ(غشيم) جاء صحيحاً في بطاقتي المدنية، و(غثيم بالثاء) عند شقيق لي، و(غتيم بالتاء) لدى شقيقة لي، وعند شقيق آخر هو (غنيم). و(عتيم)، و(هشيم)، وهكذا (غشيم) لا يعرف الثبات، بل هو(متحول) في السجلات الحكومية، ربما هو الآخر يريد أن يزيح هذا العبء الثقيل في البحث عن إلفة وتعاطف مع الأسماء المجاورة، لكن البداية تبقى معلقة بالجذر.
قد يبدو للبعض أن للاسم طاقة تفعل فعلها فينا، وربما حالة كهذه يستطيع علم النفس أن يفسرها، هذا الفعل إن صحّ، ترسّخ في مخيالنا وذاكرتنا، الأمر الذي دعانا أن لا نقاوم الهواجس المبالغ فيها، بتأويل ما نتعرض إليه من إخفاقات وخسارات في الحياة والعمل والسياسة والعلاقات، فنردّه إلى (غشمتنا) التي ورثناها من (غشيم)، نحن لا نخوض المغامرات، ولا عرفنا المقامرة، أغلب الأحيان لا نمتلك الجرأة في خوض المنافسات، أو شراء بطاقات اليانصيب تكون فيها النتائج محسومة لأصحاب الحظوظ العظيمة، فلا حرج علينا نحن ذرية (غشيم) إن سهونا وتناسينا وغفلنا أو خسرنا أو فقدنا أحبتنا في موت مفاجئ !
هذا الإحساس يتدخل أحياناً في تشكيل بعض استجاباتنا لهذا المعنى، دون أن نصدّق صوَرهَ وحالاته اللامنطقية، نتندر بها مع التكرار، ونتصرف على أساسها دون وعي، و(طاقة الاسم) التي يزعم البعض أنها تؤثر في شخصية الإنسان وتصرفاته، تبدو ماثلة أمامنا في حالات معينة لا تشكل قاعدة لما أشرنا إليه، لكنها تبدو متطابقة مع ما يحمله الاسم من دلالات في بعض المواقف والإخفاقات .
فالطالب (برغوث) يعاني من سخرية زملائه، وابتعادهم عنه، خشية من لدغة الحشرة (برغوث)، وهمْ المخاوف منه قادته إلى الخجل من اسمه، ثم الهروب والعزلة والانطواء، وبالتالي الوحدانية كأمراض نفسية تصعب معالجتها، لم يدرك المسكين في بداية علاجه أن لاسمه أثراً في حالته، لكنه اعترف مع الوقت بأنه أصبح يقولب مفهومه عن ذاته تدريجياً، كما يتعامل معه الآخرون .
نعم قد يتحول الطفل إلى شرير حقاً حين يناديه أقرانه بـ(الشرير)، ويتعزز لديه المعنى، ويتحول إلى سلوك، لكن ماذا عن آخر اسمه (حرب)؟ وهو إنسان رقيق ومسالم، وماذا عن اسم (چلوب )، أو ( بعر)؟ إذن أين التفسير الذي يذهب إليه الزاعمون بـ (طاقة الاسم)، وتأثيراته الماورائية؟
فلتهدأ مخيلتنا إذن، فما عادت التداعيات التي تأتينا تمسك بالطبيعة الإنسانية التي تمتلك قوانينها، وما عادت تثنينا كذلك من التمسك بجدّنا (غشيم). وما يهون على احفاد غشيم مشكلتهم مع الاسم، انهم أصبحوا جزءا من كل، من شعب غشيم بكامله، يمرر عليه الساسة الفاسدون ألاعيبهم وسرقاتهم وتفاهاتهم.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية