جذور الأزمة بين فرنسا والجزائر

كلنا نعرف عبارة «في البداية كانت الكلمة» ولو طلب مني توصيف حدة الأزمة الدبلوماسية الراهنة بين فرنسا والجزائر، لاستخدمت عبارة «في البداية كانت الأزمة». ومن المعروف أن ‘البداية» في سياق كتاب «سفر الخلق» لا تقع تحت التحديد الزمني. طبعا، في السياق الفرنسي الجزائري، الأزمة متجذرة في التاريخ. تاريخ طويل من الكبوات والعثرات التي تصاعدت من جملة عوامل معروفة لا ينفع استحضارها. ما يهمني أكثر هنا دخول أجهزة التواصل الرقمي على الخط، في سابقة لم تترك لتاريخ الاتصالات مجالا للارتياح.
ها إذن موضوع «المؤثرين» قد فرض نفسه، وقد بات موضوعا مبتذلا أصبح تداوله «يؤثر» على مجريات العلاقات السياسية والدبلوماسية، بل على العلاقات الدولية. كمحلل سياسي تصله أخبار ما يحدث بين فرنسا والجزائر حالياً، كنت مقسما بين أن أخوض في تحليل «طبيعي» يدين بشدة لا مسؤولية مؤثرين، أطلقوا كلمات تقع تحت طائلة القانون، وأبحث مرة أخرى في مأتى هذه الأفعال، وهل يمكن ربطها بمواقف فرنسا التقليدية من دعم منطقي لقضايا عادلة ..لكن بين التعقيب على أحداث آنية ومحاولة «ترقية» الموضوع إلى البحث في جذور أزمة، ملت إلى اعتبار الطرح الأخير أجدر وأنفع.

في السياق الفرنسي الجزائري، الأزمة متجذرة في التاريخ. تاريخ طويل من الكبوات والعثرات التي تصاعدت من جملة عوامل معروفة لا ينفع استحضارها.

العلاقات الفرنسية الجزائرية معقدة.. معقدة لأنها تمزج بين الذاكرة والحاضر، بين روح الاستقلالية ومنطق التبعية، بين الفخر والاعتزاز والعجز عن البقاء في عزلة عن التعاملات الاقتصادية العالمية. وأعتقد أن جذور الأزمة هنا. جذور الأزمة في عدم خوض الجزائر بطريقة مواكبة لعصرنا، في تطوير أكبر ورقة تملكها وهي ورقة الطاقة. دور الوكالة الوطنية لتثمين المحروقات (النفط) الموكول إليها التعامل والتعاون وثيقا مع الشركة الوطنية سوناطراك عامل أساسي ومحوري. وإذا قمنا بتشخيص وضع استثمارات شركات الطاقة الأجنبية في الجزائر، فسنلاحظ أن أقل من عشرة شركاء استثماريين من أصل 77 شريكا موجودون حاليا، فماذا عن رحيل أشهر الشركات العالمية من المعادلة؟ «إكسون موبيل»، «شيل»، «بريتيش بتروليوم»، «توتال إنيرجي»، «أناداركو»، «أناكوندا»، كل هذه غادرت بمفعول ما يصفه أرباب هذه الشركات بـ»تعقيدات البيروقراطية»، ولم تبق سوى إيني الإيطالية تواصل المسار.
ويمكن المضي في البكاء على الأطلال مذكرين ركود الإنتاج منذ حوالي عشرين عاماً بحوالي «200 مليون طن مكافئ البترول»، وهذا عين التشخيص الذي صادق عليه نائب رئيس شركة سونطراك الأسبق علي حاشد سنة 2021 في حديث إلى مجلة «مغرب إيميرجانت» (المغرب العربي الصاعد) بقوله: «إن لم نفعل شيئا فلن يكون الغاز متوفراً لإنتاج الكهرباء في أفق 2030!»
وفعل شيء، حسب إجماع الاقتصاديين، يكمن في إعادة التفكير في سياسة دعم الأسعار. أحد مسببات المشكلة الأساسية يكمن في تسويق أسعار الوقود والغاز وأيضا الكهرباء الذي يتم إنتاجه انطلاقا من الغاز بقيمة أقل من تكلفة الإنتاج، والكل يعلم أن رفع الدعم أو على الأقل تقليصه مفتاح من مفاتيح التنافسية. إلا أن الأخيرة لن تتم، من دون سياسية تحفز القدرة الشرائية وتخلق الطلب وتوفر العرض. مبادئ يعرفها الجميع لولاها يضمن البقاء داخل حلقة مفرغة.
لم أزر الجزائر بعد وأتمنى ان أزورها، أتمنى أن انغمس في ثقافة بلد قدمت ولا تزال تقدم إنتاجا فنيا مميزا. الجزائر بلد سينما رفيعة الجودة، كفانا حديثا، على سبيل المثال لا الحصر، عن عملين أثرا فيّ تأثيرا قويا: «حريم مدام عثمان» لنذير مكناش الذي برع في رواية قصة مجاهدة سابقة لا تزال متشبثة بهويتها ترفض أن تسحقها أحداث التسعينيات، وقبله عمل عبد الحميد بن هدوقة صاحب رواية «ريح الجنوب» الذي اقتبس منه المخرج محمد سليم رياض فيلمه الشهير. وكم تنطبق دعاء بطلة الرواية «نفيسة» على أحداث راهنة وما وراء الراهنة : «ربي ارزقهم خبزا قبل أن تطلب منهم أن يكونوا فضلاء». وعاشت البلد كما «عييش» عبر القادر شاعوا والديه في واحدة من روائعه التي سجلت أول عهدي بالـ«شعبي».
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بوراس السعيد:

    الازمة الجزائرية الفرنسية الاخيرة ليست بسبب اعتراف فرنسا بمغربية الصحراء الغربية و قد سبقتها إسبانيا ولم تتأثر هذه العلاقة بهذا الشكل . أصل الازمة هي وليدة عدة تراكمات منها ملف الذاكرة الوطنية وتصريحات ماكرون عن الأمة الجزائرية و اخير تصريحات صنصال واليمين المتطرف ولهذا استغل الاعلام الفرنسي قضية الصحراء الغربية للضغط على الرأي العام الفرنسي.

  2. يقول رد:

    فرنسا لا تحترم الا من يقول لا.

اشترك في قائمتنا البريدية