■ فضّلت القصة القصيرة، في الجزائر، أن تتخذ مكانا قصيا لها، في الظل، أن تسترخي في عزلتها ولا تُزاحم الأجناس الأخرى حقها في الكلام، وبات من النادر أن نُصادف، في السنوات الأخيرة، مجموعة قصصية تُنبهنا إلى أن هناك شيئا ما يتحرك، ورغبة في تقطيع حبل العزلة بمشرط السرد والإمتــــاع، وتأتي مجمــــوعة «جسم طائر غير معرف» (بوهيما، الجزائر 2018) لسامي حباطي، لتخبرنا أن القصة القصــــيرة لا تـــزال تتنفـــس بصعوبة، ولكن الروح تسري فيها، وتعشش في أمكنة نمر عليها، كل يوم، بدون أن نلقي لها بالا، فقد التقط قصصه من الأرصفة، ومن الأمكنة المغلــــقة، قليلة الإنارة والتهوية، من جلسات المقاهي ومن وشايات الجيران، من رسائل العشاق ومن نوادر الجـــدات، خلق شخصيات فشلت في تقبل ذواتها، لكنها نجحت في تحــويل تفصيلات صغيرة إلى حكايات، شخصيات يربط بينها نزوعها إلى الجنون، إلى الانشطار من المجتمع الذي تعيش فيه، كما لو أنها تود أن تهمس لنا: أن العقل هو في عدم امتلاك عقل.
«جسم طائر غير مُعرف» هي قصص تفضح قبحنا، وميلنا لتفضيل الغيب على المنطق، ففي قصة «حبة التين»، نُصادف سعيد بن الإسكافي، الذي خاصمه جيرانه لأنه يشرب خمرا، يدوس على أعراف أبناء الحي، الذي يسكنه، ويجلب إليه الغرباء. لكنه ينجح في التحايل عليهم وعلى مؤامراتهم ضده، فيظنون أنه ولي من أولياء الله، ويتحول حقدهم عليه إلى طاعة وشفاعة، في صورة ساخرة إلى ميل الجزائري تصديق ما يُروى له، لا تراه بعينيه. قصص الجنون والشعوذة والتلاعب بمشاعر الناس هي شريان المجموعة، فالكاتب يركز على الاضطراب الذي تعيشه شخصياته، وقابليتها للانتقال، بين النقيضين، في وقت قصير، وميلها إلى الإيمان بالكلام لا بالعلم. وسامي حباطي يصرف وقتا مهما، في مجموعته، في بحث نفسي، في محاولة فهم مزاج شخصياته، المشحونة بالعواطف، ويضعنا أحيانا في مواجهة مشاهد مؤلمة، يختلط فيها الواقع بالمتخيل. ففي قصة «الهول»، نُصادف مختلا عقليا، يُدعى حميد «يقولون إنه أصيب بالجنون عندما تم اغتصابه بشكل جماعي في السجن»، ونقرأ بورتريه لهذه الشخصية، من السهل إسقاطها على أشخاص يشبهونها، في أكثر من مكان، ورغم ما يُعاني منه من أمراض نفسية، فإن حميد يتحول إلى الضحية المفضلة للأصحاء، يطاردونه، يسخرون منه، والأغرب أنهم كل مرة يبتكرون قصة جديدة له، يتلهون بها في أوقات فراغهم.
في كل قصة هناك إيقاع متغير، أو بالأحرى موسيقى تُرافق طفرات الأحداث وانتقالاتها، وتربط بينها بحبل رقيق، مع حقنة سريعة من الفلسفة الوجودية.
في هذه المجموعة، يشعر القارئ كما لو أنه في ماراثون حكائي، لا تنتهي حكاية حتى تبدأ أخرى، لا ينتهي حدث حتى ينطلق آخر، فالقاص هنا لا يهتم كثيرا باللغة والزخرفة الشعرية، كما تعودنا عليه في القصة القصيرة الجزائرية، بل تهمه القصة، بتفصيلاتها الثانوية، يحولون أشخاصا عاديين إلى شخصيات، يمزج بينها، كي يتم نصوصه، يخلط بين مصائرها، يقربها من بعضها بعضا، كي تتشابك حيواتها، في نفس سردي طويل، يجعلنا نركض في مطاردة الوقائع والأسماء والوجوه، كي نعرف الخواتم وما حصل لهم. في قصة «جسم طائر غير معرف»، التي جعل منها عنوانا للمجموعة، يستعين سامي حباطي بالخيال العلمي، ويحكي ما جرى لمُختار، الذي سكنه الحلم بالطيران مذ كان طفلا صغيرا. ابتكر طائرة شرعية، وانطلق بها من أعلى نقطة في المدينة، لكن حلمه سيتحول إلى حالة طوارئ في مدينته الخاملة، فبمجرد أن لمح الأمن جسما طائرا في السماء حتى أُعلنت حالة استنفار، انطلقت مروحيات في مطاردته، وسيارات شرطة في الأسفل تتابع مسار الجسم الطائر، معتقدة أنه جاسوس أو عميل لقوى أجنبية. وانطلقت البرقيات العاجلة على شاشات التلفزيون، «منهم من اعتقد أنه من الجن وآخرون اعتقدوا أنه غزو من الفضاء».
استغل مجرمون حالة الفوضى، وأتموا سرقاتهم، وانتهى الأمر بإطـــلاق نار عليــــه، وأسقطوه أرضا. «انشق رأس مختار إلى نصفين، ورفعــــوا أجــزاء من مخه من أرض المكان». وحين عرفوا أن الأمر لا يتعدى اختراعا، وأن مختار من هواة الطيران، نسجوا في الحين رواية أنه كان يحمل قنبلة وبائية، ليبرروا ما حصل، وانتهى، كل شيء، بأن صدّق الناس، كعادتهم، تلك الرواية الكاذبة.
في هذه المجموعة القصصية، لسنا فقط بصدد قراءة نصوص، وتتبع مصائر شخصيات، وما يؤولون إليه، وكي تنتهي حياتهم، في الغالب بشكل درامي أو تراجيدي، كما حصل مع بطل «رواه عطرك»، الذي يلقي بنفسه من جسر عقب سوء فهم مع حبيبته، بل أيضا بصدد مشاهدة صور تتوالى، فالمؤلف يفرد مساحة واسعة في توصيفات طويلة، كما لو أنه يرسم المشهد، لا يكتبه، يشرك القارئ في ما تراه عيناه أو ما يتخيله من أحداث تقع بعضا منها في مدينة جسور، تُشبه قسنطينة، كما أن الكلمات ليست بريئة، بل تتعدد دلالاتها وإسقاطاتها، يمكن أن نزيح قصة ما من مكانها، الذي كُتبت فيه، ونسقطها على مكان آخر، بدون أن يختل المعنى، هكذا تصير قراءة واحدة من قصص المجموعة مفتوحة على جملة التأويلات، وتحتمل أكثر من تفسير واحد.
مجموعة «جسم طائر غير مُعرف» تقف في منطقة صغيرة تفصل بين مثالية الشخصيات، وبدايات انحدارها إلى الجنون وصحوة اللاوعي ـ المتأخرة ـ التي تحاول أن تبرر الحاجة للجنون.
وتلك القصص قد تقرأ، بسهولة، إذا اكتفينا بقراءة أولية سطحية، وستتعقد كلما حاولنا تفكيكها، وفهمها في مستوياتها المختلفة. ففي كل قصة هناك إيقاع متغير، أو بالأحرى موسيقى تُرافق طفرات الأحداث وانتقالاتها، وتربط بينها بحبل رقيق، مع حقنة سريعة من الفلسفة الوجودية. مع نبرة ساخرة، لكنها تبدو مترددة، فالكاتب يسخر من شخصياته، من رواة القصص أحيانا، بشكل مبطن، بدون أن يفصح على ذلك.
«جسم طائر غير معرف» هي كتابات متقاطعة، وصور مكثفة، عن عالم يختل، عن أفراد وعائلات، يبحثون عن خيط يحيلهم إلى يقينيات تريحهم، ويفشلون في الإمساك به. شخصيات تحاول أن تحوز نظرة مستقلة عن واقعها، وسرعان ما تسقط السادية في ممارسة اللذات العنيفة، لكنها تعجز عن الخروج من منطق الجماعة، والتحرر من رغبة الكتل الاجتماعية في التواري خلف الجنون، كي تبرر خيباتها.
٭ كاتب من الجزائر
من قصيدة قديمة لي
لزهرك في المدى ابدا حنيني
وقيثار شجوني اللحون
طيوف قد تراءت في خيالي
تهجد في مدى الليل الحزين
فماانافي الجنون وكان هما
وإن العبقرية في الجنون
يتبع
كلما كبر الإنسان في العمر ضعف النظر واتضحت الرؤية
#الراعي_والمزمور
في إحدى المرّات حضرَ فنانٌ مشهورٌ إلى الكنيسةِ، فطلب منه أن يُنشدَ مزمورَ “الرب راعيّ فلا يعوزُني شئٌ” (المزمور 23).
فقام الفَنّانُ، وكان حافظًاً للمزمور، وأنشد، ولما انتهى صفّق له الناس تصفيقًا شديدًأ..
ثم طلبوا من رجل مسن أن ينشد المزمورَ نفسَه. فقام هذا المسنُّ، وكان صوتُه خفيتا، بالكادِ يُسمع، وبدأ في إنشاد المزمور.. وعندما انتهى منه، إذا بجميع الحاضرين يبكون في خشوعٍ بهيج !!..
فقام أحدُ الحاضرين يسألُ الفنانَ المشهورَ : ما الفرق بينك وبين هذا الرجل الذي أبكي الجميع ؟!.. فردَّ الفنانُ : “أنا أعرف المزمور، لكن هذا الرجل يعرف الراعي” !!..