بحقيبة مليئة بالأوراق والكتب، وبذاكرة تزدحمُ فيها ذكرياتُ الماضي وأحداثُ الحاضر يتنقل بين المدن السورية ثم المدن التركية.. هكذا تخيلتُ القاص مصطفى تاج الدين الموسى ينوء بحمله مسافراً من مكان إلى آخر يلقي الضوء على حدث ما، يعكس انطباعه عنه بعد أن يمنحه معنىً وقيمةً، ذلك أن بنية القصة القصيرة «تتعلق في الغالب بالدور الذي تقوم به النغمة الشخصية للكاتب» وفق رأي إخنباوم. إذ نتأمل كتابات مصطفى ندرك أن قصصه لا تطرح أسئلة مستقبلية، ولا تكشف عن إمكانات جديدة؛ هي أصداء للواقع الذي نعيشه أو لنقل بشكل أدق هي صورة عن حياة الكاتب وما يشغلُها، لكن سُرعان ما نكتشف أنها تتقاطع مع همومنا ومشاغلنا. ومن اللافت للنظر أن الكاتب لم يحصر نفسه في إطار الكتابة الواقعية فقط، رغم علاقات التشابه والتماثل التي يقيمها مع الواقع ـ البعيدة عن الاتصال الآلي المباشر- فقد كان متصلاً بالواقع وهارباً منه في اللحظة نفسها عن طريق الواقعية السحرية، والمشاهد السريالية والفانتازيا، والعوالم الغرائبية، فليس عجباً أن نرى في قصة «لا أعرف كم كان الليل» امتزاج الحلم بالواقع، ومشاهد سريالية تفتقد النظام والمنطق وهذا دليل على تشظي ذات الكاتب، التي تلجأ إلى تفريغ عالمها اللاشعوري فتقع أحياناً في اللامنطق واللانظام.
في قصة «صوت» ثمة صوتٌ غامضٌ يحاور بطل القصة في حبكة فنية تمتزج فيها الحقيقة بالخيال، ويمكنني أن أشير هنا إلى أن اعتماد الكاتب على شخصيات خيالية أو عجائبية كسر رتابة السرد، وحقق المزيد من الإثارة والتوتر. علاوة على ذلك لم يكن ظهور الشخصيات الفانتازية أو العجائبية اعتباطياً، بل من أجل تحفيز مخيلة القارئ وإضاءة الشخصيات الأخرى وليس هذا فحسب، فقد استطاعت قصصه أن تقفز فوق حدود البنية السردية للقصة القصيرة؛ لتستفيد من تقنيات الشعر من أجل تقديم لحظات كثيفة عن طريق اللغة المكثفة الموحية، والصورة الشعرية والأدلة على ذلك كثيرة، منها ما جاء في قصة «عصافير مشاغبة»: «للجنون في هذه الليلة مرجٌ واسعٌ، تصهل فيه أحصنةً لها ألوان قوس قزح». وقد أفاد القاص أيضاً من تقنيات المسرح والسينما؛ حين استطاع عن طريق اللغة أن ينقلَ الحركات ويسرد الأفعال، ويعطيَ صورة عن المكان حتى يغدوَ كأنه موجود أمامنا أي رسم مشاهد بالكلمات جعلتنا نشعر بأننا أمام عرض سينمائي.
تجدر الإشارة هنا إلى أن مصطفى كان يكتب قصصه وفي ذهنه تقنيات القصة القصيرة والسينما معاً؛ وقد حضرت السينما في قصصه، بوصفها مكاناً، احتضن غير قليل من أحداث قصصه وما هذا إلا دليل على ثقافته السينمائية، وولعه بفنها، لكن قصر سردية القصة القصيرة فرضت عليه أن يرسم بعض ملامح المكان، ويترك للمتلقي تخيل ما غاب منه، واستكناه أبعاده. في قصًة «تل الطيور» مثلاً استخدم تقنيات الدراما كالحوار الذي مسرح السرد وكسر رتابته، والمونولوج الداخلي، والصراع، ولم يكتفِ بذلك، بل وظف في القصة نفسها وفي غيرها أيضاً تقنية المونتاج؛ حين قسم القصة إلى مجموعة مشاهد أو لقطات، ورتبها وفق تزامن خاص رغم أنه لم يغامر كثيرا في تعامله مع الزمن؛ ربما لأنه لم يرد إرهاق القارئ بإعادة ترتيب مفارقات زمن الخطاب، وجعل وحدة الشعور الخيط الرفيع الذي يربط بين المشاهد؛ ليعطيَنا في النهاية فكرة كاملة عن الموضوع الذي أراد إيصاله. أجاد الكاتب أيضاً في توظيف تقنية الاسترجاع التي تقوم على التذكر والتداعيات والتناوب بين الماضي والحاضر كما في قصة «عندما انحرفْتُ مع الأرملة» حين جعل الذكريات تتداخل مع حاضر الشخصية، وتساهم في تشكيلها، وهذه التقنية أضاءت الشخصية من الداخل وكسرت رتابة السرد.
ومن اللافت للنظر أن الكاتب جعل الجماداتِ في قصصه شخصياتٍ درامية فجعل البيانو يجهش ببكاء مرير في قصة «البيانو» والجدار في قصة «تل الطيور» محاوراً وشاهداً على تعذيب المعتقلين، وأنسن الدمية في قصة «حكاية شتوية ارتجلها رصيف» ليعرض لنا في هذه القصة وفي كثير من قصصه انكسار أحلام الأطفال بسبب الفقر، وليس غريباً أن نتعاطف مع شخصيات الكاتب لأنه وضعها في مواقف حياتية تشبه إلى حد كبير ما يحدث على سطح هذه البقعة الجغرافية المنكوبة، فهو أراد أن يحكيَ الهم الجماعي من خلال الهم الذاتي، وأنْ يقولنا حين يقول نفسَهُ، ومَن أصدقُ من الكلمة في التعبير عن الجرح والأمل والألم، عن الحب والحماقات الصغيرة، عن حُرقة السياط على جسد الضحية. والحقيقة أن قراءة قصصه تتيح لك قراءة جيل الشباب الذي عاصر انبلاج صباحات الأمل بغدٍ أفضل مع انطلاق شرارة الثورة، وقد نجح في رصد ما تعرض له الشباب الحالمون بالحرية والعيش الكريم من اعتقال وتعذيب وقتل دون أن يتبنى أطروحات أيديولوجية في كتاباته.
رأى القاص أنه يستطيع أن يهزم الموت عن طريق الإبداع؛ فكما كان الإبداع يرمم ثقوب الحياة في قصة «القصص الخالدة» المهداة إلى القاص والصحافي جميل حتمل، كذلك يستطيع المبدع أن يحقق الخلود بما يتركه من إبداعات.. نعم يموت المبدعون لكن ثمة ضوء يتواشج كحلقات سلسلة ويمتد؛ ليبلغ وهج الأبدية اللامنتهي، هذا الضوء هو كلماتهم الباقية.
وغير خاف على أحد أن القصة القصيرة تتعرض كغيرها من الفنون إلى الرقابة، وضغط الأجهزة الأيديولوجية؛ لذلك كانت مجموعاته القصصية التي أصدرها بعد خروجه من سوريا أكثر ملامسة لروح الواقع ونبض الثورة، رغم أن عدداً من القصص يعود تاريخ كتاباته إلى فترة وجوده داخل سوريا، لكنه لم يصدرها إلا بعد مغادرته البلاد. ولأن الكتابة فعل ذاتي لا يمكن أن يتشكل من خلال محاكاة نموذج ثابت؛ بل فعل ميدانه التجريب، قدم لنا الكاتب نصوصاً يمتزج فيها الخيال بالواقع، وتتناول الواقع الحياتي، من خلال رؤية غير مألوفة، ففي قصة «كم هم لطفاء» عالج تعرض إحدى الشخصيات للاعتقال بشكل غير مألوف، لا يخلو من الفانتازيا والسخرية والدعابة وكأنه يرد على مأساوية الحدث بإبداع فيه الكثير من السخرية، ومن ضحك قد ينتهي ببكاء مرير، ولعل أسلوبه في عرض التعذيب الذي تتعرض له شخصية المعتقل بنوعيه: النفسي والجسدي دفعنا إلى التورط مع الشخصية أخلاقياً وعاطفياً، وكأن الاستهزاء والسخرية عنده وسيلتان للشفاء من قهر الواقع تارة، وسلاحان للمواجهة تارة أخرى. لا أدري كيف استطاعتْ قصصه أن تجعلنا نعيش القلق والغرابة والخوف والمواجهة معاً، لا أدري كيف تمكنتْ من أن تقودَنا إلى الدهشة والألم والضحك واليأس في اللحظة نفسها.. ومَن غيرُ كاتبنا يقيس المسافة بين بيته والحانة بعدد السجائر، ويقيس مدة التأمل بزجاجة نبيذ في (قصة نهاية لوحة) من غيره يقيس الوقت بعدد المجازر (في قصة توقيت) أو بعدد القذائف (في قصة تثاؤب)؟
بهذا الفهم نستطيع القول: إن الكاتب يحاول بشكل مستمر الخروج على المتعارف عليه من تقاليد القصة القصيرة، وتمرده لم يقتصر على المعالجة الفنية لقصصه، بل تجاوز ذلك إلى معالجة مواضيع تعرض الواقع عارياً من أجل كشف حقيقته، من خلال تناول التجربة الجنسية، وما يعانيه المجتمع المقنع من كبت؛ والدليل على ذلك قصة «لعبة الأيدي» و«بالون في المدرسة» و«أزمة أنثوية حادة» إلخ. وما يسترعي الانتباه بوجه خاص في مجموعاته القصصية الحضور المكثف لفكرة الموت فيقول في مجموعة «قبو رطب لثلاثة رسامين» تحت عنوان ما يشبه الخاتمة: «أيها الموت… هذه قصصي التي خلقتها عن سابق إصرار وترصد.. أصفعها بوجهك علني أهزمك وأربح الأبدية». كيف أراد مصطفى تاج الدين الموسى أن يفلتَ من كمائن الموت؟ كيف ينجو من طعناته في خاصرة الحياة؟ ربما يجيبنا المقتطف السابق عن أسئلتنا المحيرة حول فكرة الموت.
رأى القاص أنه يستطيع أن يهزم الموت عن طريق الإبداع؛ فكما كان الإبداع يرمم ثقوب الحياة في قصة «القصص الخالدة» المهداة إلى القاص والصحافي جميل حتمل، كذلك يستطيع المبدع أن يحقق الخلود بما يتركه من إبداعات.. نعم يموت المبدعون لكن ثمة ضوء يتواشج كحلقات سلسلة ويمتد؛ ليبلغ وهج الأبدية اللامنتهي، هذا الضوء هو كلماتهم الباقية.
في قصة «أنا وجثتي» يختفي الكاتب وراء قناع المتكلم ويمزج الواقع بالخيال؛ ليرويَ حكاية شاب قرر أن يزور جثته بعد أن تُوفيَ إثر سقوط قذيفة عليه؛ فيقول الشاب حين فتح باب البراد: «سرعان ما شهقتُ.. لم أعثر على أي جثة، إنما عثرت في جوف هذا البراد على الكثير من القصص الشاحبة والمتناثرة في عتمته عشوائياً عندئذٍ ابتسمتُ.. أنا هذا الضوء البسيط.. كل ما تبقى من ذلك الإنسان» وكأنه أراد أن يؤكد قول محمود درويش: «هزمتك يا موتُ الفنونُ جميعُها».
تجدر الإشارة إلى أن أبطال مصطفى منشغلون بالحاضر، وما استدعاء ذكريات الماضي إلا لأنها ترتبط بحياتهم الراهنة. من يقرأ مجموعات مصطفى القصصية يدرك أنه عاش أحداث قصصه، وأعاد خلقها فنياً، وما أبطال قصصه إلا أقنعة أراد من ورائها أن يرويَ لنا حكايته، ذلك أن في الحياة لحظات عابرة قصيرة منفصلة لا تصلح معها سوى القصة القصيرة وفق رأي موباسان. بهذا الفهم ندرك أن المتكلم الأساسي في معظم القصص هو الكاتب نفسه؛ اصطحبنا معه في رحلة إلى ماضيه وذكرياته الأكثر التصاقاً بحاضره، إلى حاضره وما فيه من تصدعات خلفتها الحرب، ودفع ثمن تداعياتها الفقراء كما في قصة «القناص» إذ برع في رصد المشاهد الضدية، والهوة السحيقة التي تتسع يوماً بعد يوم بين طرفي النزاع. بعد رحلة جميلة ممتعة في خمس مجموعات قصصية للكاتب حاولتُ من خلالها التعرف على جماليات السرد القصير في مجموعاته القصصية وعناوينها:1- قبو رطب لثلاثة رسامين
2- مزهرية من مجزرة
3- الخوف في منتصف حقل واسع
4- نصف ساعة احتضار
5- آخر الأصدقاء لامرأة جميلة
وقد لاحظتُ أن معظم تلك القصص اعتمدتْ على حدث أساسي، واتخذتْ شكل البناء الدائري، والخاتمة الصادمة المفاجئة. ولعل أكثر ما يميز أسلوب الكاتب قدرته على هدم الحدود بين الواقع والخيال، وبين الحاضر والماضي في سرد يتداخل فيه الواقعي والخرافي ويتكاملان، وتخترقه الأحلام والحوارات والهذيانات.
كاتبة سورية