جمهرة الحواس في ديوان «وشايات عادية» للمصري ماهر حسن

في ديوانه الخامس «وشايات عادية» الصادر حديثاً عن دار الأدهم في القاهرة (طبعة أولى 2021) يخطو الشاعر والصحافي المصري ماهر حسن باتجاه النصوص الموقّعة الخواطر على إيقاع التفعيلة الواحدة، مبتعداً عن مخاتلة القارئ بطغيان الموسيقى على حساب لغته المتدفقة التي تموج بها قصائده، إذ تشكل هذه الأخيرة اجتماع مضادات جوانية، تؤم مشاعر هذا الشاعر في مكان وزمان لا فضولَ مُلحّ في معرفتهما، إنما يجزئ عنهما ضرورةً، بأنْ نعِيَ مناخها الوجداني الذي له فيه اعتقاد. لغةٌ جزلة، أنيقة، حيّةٌ حقّاً، ترى توّاً إلى الدلالة التي تُمسك بها المفردة، فلا تفتئتُ هذه على تلك، بل تتلبّثُ في مجازها الطبيعي وقيمها العالية التي لا تترك مجالاً لطاعنٍ أو عائب، فلا يجوعُ معها القارئ إلى استجلاء وضوح النص، بما لا يمنع في الوقت عينه من تكوُّرِ التجربة على فاعلية الاشتغال بين العبارة وأختها، بعيداً عن الجُمل الانشائية أو الخبرية، التي استهلكت جلّ المدونات الشعرية العربية الحديثة، بحيث تتوالد عنها دهشة التناقض بين معنًى وآخر في العبارة المكثفة الواحدة:
الألمُ الطيّب… مرمرُ الألم… أباركُ الخيانة بروعة النّدم
ولا يعني ذلك انتفاء السماح بانفتاح التأويل المتوالد للمتلقّي. ففي هذا الاتجاه يبتكر حسن بعداً رؤيوياً لتجربته، ينهض على مستويين مُثيرَين للتأمل والحيرة في علاقته بالمرأة: فالأول يبتدئ فيه بإهداء ديوانه إلى ولديه، بما يشي وبقوة أنّه اعتذار لهما لا إهداء فحسب، إذ لا وشيجة يعتدُّ بها بين أبوّتِهِ للمُهدى إليهما، وثيمات النصوص التي تندرج بين دفتيه، والتي يقدّمُ فيها، بخيبةٍ ظاهرها التوبة باطنها الحسرة، اعترافاً شجاعاً بخيانته، وبانهزامه العاطفي في غير قصيدة ماهراً كل ذلك بوسم التضحية وتوكيد مسؤوليته عما انبثق من مواقف مع المرأة:
لامرأةٍ كانت مُخلصةً
في زمن خوّانٍ
مثلي!
ها أنذا أتجرّع نفس الكأس!
أنا كل أصحابي الخائنين
وليس سواي أحد!
أما الثاني فينفض فيه يده من مآلات ماضيه النسوي، من المرأة الذاكرة، باحثاً في الوقت نفسه – وللمفارقة – عن حيّز عاطفي ساطعٍ مستجدّ، بطلَتهُ امرأةٌ جديدة تنفي تلك التوبة القلقة، وتؤكد سيرورته في هذا الطريق:
أوراقي احترقتْ
أوراقكِ بليت
فلنطهو أسراراً أخرى
امرأة فادحة
ملء شروطي
وأنا.. ملءُ غوايتها
لم تولد بعد
بهذا التَّمثُّلِ العاطفي ذي النقيضين، يفسر حسن المعاناة الحالّة في تضاعيف قصائده، إذ يبدو كمن يريد التوبة والإقامة على الذّنْب معاً، وهو أمر يأتي بعد تجمهُرِ أحاسيسه في مخاضٍ شعوري لا مراء في ما استبد به من رهاب الخوف من مجهول ما سيأتي وماهيته:
هل هذي أنثى تتخلّقُ عبر شظاياي؟
أم وطن يتشظى فوق مراياي؟
لكنّ حسن ، في كل ذلك ، يعتزل وراء أفكاره، سليلَ رؤيا ذهنية تنبني على تجارب خاصّة توسّدتْ خبايا مأساوية بين أحواله المتقلبة، هو الشاعر العاقل الذي يريد أن يبرئ ذمة كبريائه حتى لا يفقِدَهُ في حمأة تأنيب الضمير، والفتى المتكوّم على ناصية الحزن والحب، مسجًّى شعوره بين فراغ وامتلاء، في عزلة بريئة يراها الخلاص في مواجهة أحاسيس الحيرة والوهن والاشتباه والجنون، ليبترد من ماء الشجاعة إذ تنتشله مما هو فيه، في صورة مجازية تجلّي مقدار حزنه وانكساره، وكأنه يرثي نفسه وهو يؤمّلُها بمُنقذٍ ما يمنع عنه الزوال ويعيده إنساناً سويّاً.. يقول حسن :
السّيف المُغمَدُ في قلبي
والحزن المرشوقُ بعيني
يصدأُ… يصدأُ
تحت برودة قلبٍ ميّت
في جسدٍ ينبض بالوهن
فأناديكم: أحبابي
من يملك قسط شجاعة
حتى يوقظني
يحمل ظلّي …
ويساومني
كي يمنحني
بعضاً مني
أو يسحب هذا السَيف
ويعطيني عقلي.
ومع كل ما تقدم فلا بد من أن نسجل لحسن أنه قارب كل تلك الأحوال العاطفية التي يشي بها عن نفسه وعن غيره، والتي تقلّبتْ به واستقرّتْ داخل الفضاء العام لقصائده القصيرة، وهو يستلهم المعنى الحقيقي لمطارحة الشِّعر بروحيةِ الانفتاح على بِنًى فنيّة حديثة تعبِّرُ عن الحضور الحيوي لبراءة التجربة، إذ بدا فيها ـ وللمفارقة – رومانسياً مُباشِراً في عصرٍ غير رومانسي حتى اللحظة.

كاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية