كنا نغمض أعيننا على جمهورية أعلى النفق، نفيق فنتفقد الشاشات الصغيرة نغسل أعيينا بهتافات الثوار وابتساماتهم، كانت تلك الجمهورية الحرة تحرسنا وتطمئننا على صباحات ومساءات البلاد المنهكة، كانت هتافاتها تخرج من حناجرنا المبحوحة من فرط الغصة ومن الغياب وعندما تنفك ألسنتنا نحن البعيدين عن الوطن فإن أول سؤال ندفع به إلى الأهل والأصدقاء هناك أنت في القيادة ؟ وكيف هي ساحة الاعتصام اليوم ؟
جمهورية أعلى النفق لم تكن لنا نحن السودانيين محض تجمع ومطالب نرفعها وننطلق للحياة على عجل، كانت الحياة التي إشتهيناها لثلاثين عاماً لعقنا خلالها دكتاتورية مرة وشهدنا فيها خراب بلادنا الكبيرة، كانت الوميض الذي أشعله شهداء الثورة بأرواحهم ودفعوا سنيّهم الغضة ليشب الوطن فارعاً بهياً .
كان كل شئ هناك معداً بأشواق كبيرة بدءاً من أعلى النفق المكان الذي اختاره الثواروجلس بعضهم عليه بذكاء ورمزية محكمة يتطلعون لحكومتهم المدنية القادمة، النفق المراد عبارة عن كبري حديدي قديم تركه الانجليز كإحدى تركاتهم الخدمية في البلدان التي إستعمروها، يتوسط أهم مناطق مدينة الخرطوم تعلوه صوت القاطرات بمواقيتها المتقنة قبل أن تتفرق السكة الحديد ويصيبها الشلل عدا قطارات معدودة تقطع الطريق هنا وهناك، كان المعتصمون يتجمعون أسفل النفق المعروف بنفق (القيادة) لقربه الشديد ومجاورته لقيادة القوات المسلحة، هذه الجمهورية التي عطلت انسياب حركة القطارات لأيام عديدة عادت واستقبلت أهم قطار أعاد للسودانيين ذكرى شاهقة إذ لا تكاد تخلو ذاكرة سوداني وسودانية من حكاية قديمة مقيمة أو عابرة حملها صخب القطارات ودويّها، غنّى السودانيون كثيراً للقطار أودعوه أشواقاً ورسائل وأمنيات، سمّوا أشهر أغنياتهم في حبه (قطار الشوق) لكن القطار المتوقف عند النفق هذه المرة أيقظ ظاهرة ثورية تخص السودانيين وحدهم وتتجدد مع كل ثورة سودانية، القطار القادم من مدينة عطبرة شمال السودان لم يكن قطاراً عابراً بل أتى يجدد ذاكرة الارادة وهبة الغضب السودانية، عطبرة أو (أتبرة) هي المدينة (الأيقونة) عندما نتحدث نحن السودانيين عن الثورات ومنذ إنطلاق أول ثورة سودانية في أكتوبر/تشرين الأول 1964 وعطبرة هي ذات المدينة التي جاء منها قطار أكتوبر/تشرين الأول آنذاك تبعه قطار إنتفاضة أبريل/نيسان 1985 ليلحق بركب النضال في الخرطوم ويطيح بدكتاتوريات قاسية جسمت على بلادنا لسنوات، هذا إلى جانب قطارات أتت من مدن أخرى من بينها مدينة كسلا بشرق السودان ومدينة نيالا غرب السودان، فالقطارات لا تنفك عن تاريخ التغيير في السودان سواء أن جاءت تحمل الدعم الشعبي للثوار في الخرطوم أو عبر الحراك المهني العمالي للعاملين بها وهو حراك مشهود ومؤثر دائماً ما يرجح كفة الثورات في تاريخ السودان.
القطار الذي جاء من مدينة عطبرة هذه المرة لم يعد للسودانيين ذاكرة مدينة العمال والسكة حديد فحسب بل جدّد لهم ذاكرة الإرادة وهبة الغضب الشعبية والحراك الثوري، جدّد لهم ملامح الثورة التي تأتي في كل مرة بذات الطريقة الأنيقة على متن قطار مكتظ بالأمل، ما أن توقف قطار عطبرة يعلو نفق القيادة حتى تبعته شعارات الثورة الجديدة الواعية، التحمت مع صافرته الحادة هتافات أكثر حدة ترفض التمييز والعنصرية والتنمر، ترفض تقسيم المواطنين .
إن الداخل إلى جمهورية أعلى النفق وتحته مهما بلغ شأنه وعلو معرفته لا يعدو كونه مشروع تلميذ من عظمة الرؤى المبذولة هناك، فهو مهيأ بافتتان حارق لالتقاط أفكار جديدة قائمة على الحب والتسامح والخير والسلام، كانت جمهورية ثرية بسودان متعدد بهيج ومكان للحوارات المعقدة والبسيطة على السواء، كل يغرف من ماعون المعرفة الذي يجذبه ويشده، كانت السودان الذي نحلم به ونرجوه .
خرجت من هناك مشاريع كثيرة و كبيرة، لوّن التشكيليون ساحة الاعتصام وما جاورها بجداريات مغموسة بشغف الحياة رغم الحزن المقيم كلما التقت أعين الثوار بابتسامة شهيد جسورة، جعلوها مكاناً يصلح للحياة الوسيمة، صنعوا منها ساحة عيش أليفة كوجوه الثواروالثائرات صديقة كملامح كل الشهداء .
كان المكان بالغ الصدق محاطاً بعناية الثوار واهتمامهم كمخطوطة نادرة كان يشبه وثيقة كتبت لتوها من تجربة حياة عظيمة قابلة لأن يوقع عليها سودان متعدد المزاج، ضجت الساحة بمشاريع اجتماعية وتعليمية وتوعوية باهظة لم تنجح فيها الدولة التي ظلت ثلاثين عاماً لا تأبه بها. التف الثوار حول إخوتهم الصغار من الأطفال فاقدي السند الذين يعيشون في الشوارع القاسية، طوقوهم بالمحبة وبالمسؤولية كمن أنجبتهم أم واحدة وشرعوا يفكون السنتهم و يمرنونهم على الإمساك بالأقلام التي لم يحدث لأناملهم الصغيرة الخائفة ملامستها. علموهم أبجديات الكتابة وأبجديات الصحة ولم ينسوا أن يستبدلوا ملابسهم وضحكاتهم بالوان الحياة التي لم يتعرفوا عليها من قبل .
عاش السودان أياماً مختلفة ملأى بالعطاء حبلى بالأمل كشفت عن بنية اجتماعية متماسكة، اكتنف (النفير) كل المشروعات والنفيركلمة سودانية دارجة تعني المشاركة لاتمام عمل أو مشروع ما بجهد الأصدقاء والأهل والجيران، وضع السودانيون الساعد على الساعد والقرش على القرش يشاركون بعضهم البعض ويتقاسمون أشياءهم الصغيرة، وثّق أدب الثورة هذه الحالة الاجتماعية النادرة بأهزوجات جميلة حفظها الصغار قبل الكبار ورددوها بلثغاتهم المحببة، غنى المعتصمون يدعون بعضهم البعض للمكوث عند ساحة الاعتصام وعدم مغادرتها :
بس انت حاول بيت – أي أقضي ليلتك هنا –
شاي الصباح نديك .. فرشة ومعجون نديك
تلفونك نشحنو ليك .. واي فاي نوصلو ليك
قد بلغ كرم تلك الجمهورية الحرة أنها كانت تسير بدعم شعبي خالص لم تمتد جهة لدعمها وإفراغها من سودانيتها إلى حد أن المعتصمين كانوا يضعون صندوقاً من الكرتون أو النايلون يرمون فيه ما يجود به حالهم جنيهات قليلة أو كثيرة يتبعها هتاف محبب (عندك خت ماعندك شيل) بمعنى أنه إذا كان لديك مال فائض عن حاجة يومك ضعه هنا واذا لم يكن لديك ما يكفي يومك فلتأخذ. لم يكن ذلك الصندوق خاضعاً لأي رقابة يتركونه هكذا من دون من وأذى ولم يحدث إن إمتدت اليه يد بالسوء، ظل الناس يأكلون ويشربون من بيوت سودانية فارهة الكرم ومن قيم سودانية سمحاء لم تصادرها الظروف الاقتصادية الصعبة ولاضيق ذات اليد .
جمهورية أعلى النفق التي نطلقها مجازاً وحلماً مشروعاً يجلس على سدتها أولاد وبنات صغار يافعون يقرعون الطبل من دون توقف ومن دون نشاز، يهيمون شوقاً للحرية، يغنون للسلام والسلمية والعدالة، ينقطعون عن النزول لأسفل النفق لأيام عديدة فلا ينسى المعتصمون والمعتصمات المقيمون أسفله أن يقذفوا لهم بإحتياجاتهم بمحبة كبيرة وروح حلوة ترافقها الحكايات والضحكات .
بين ليلة وضحاها فقدنا جمهوريتنا الصغيرة، الكبيرة في حيواتها وقيمها، فقدنا أرواحاً غالية مهرت ثورتنا بسمو وشجاعة نادرة، رحلوا يحملون شرف الوطن وشارته التي أرادوا لها أن لا تفتر ولا تخبو، خلفوا لنا غصة لن نبتلعها ولن يخفف من حرقتها سوى المساءلة والملاحقة القانونية والمحاكمات العادلة لكل يد شاركت في اغتيال سلامنا وسلميتنا، كل يد وفكرة أحالت جمهوريتنا إلى دماء و حرائق وخراب، كل من حول فجرنا إلى مشاهد دامية لن ينساها السودانيون ما بقيت فيهم روح .
كانت كل أمنياتنا أن يهب الله لنا بلاداً تشابه جمهوريتنا أعلى النفق وتحته، أن يهب لنا المسافة بينهما فإن فيها سودانيتنا المشتهاة، فيها حلمنا بوطن حُر خيّر ديمقراطي .
كاتبة سودانية