في منتصف أيلول، حاول خمسة شباب فلسطينيين اجتياز المنطقة التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي من “ناحل عوز” في منطقة النصيرات شمالاً باتجاه مدينة غزة. هذه المنطقة أخذت منذ فترة اسم “ممر نتساريم”، على اسم المستوطنة التي كانت هناك في السابق، أو “ممر بئيري”، مثلما يحاول الجيش الإسرائيلي جعل الناس يسمونها به.
منذ بداية الحرب، اعتبر الجيش الإسرائيلي وادي غزة، الوادي الذي تمر فيه مياه المجاري والنفايات، خطاً يسمح للفلسطينيين أن يكونوا جنوبه. في مرحلة العملية البرية شمالي القطاع، التي بدأت بعد المذبحة في أكتوبر واستمرت حتى نهاية 2023 أمر الجيش الإسرائيلي الغزيين بالتحرك نحو الوادي وما بعده. استجاب معظم السكان للتحذيرات وهربوا نحو الجنوب.
بدأ الفلسطينيون الخمسة السير شمالاً، فاعتقلتهم قوات كتيبة الاحتياط التي أخدم فيها، التي وصلت إلى المنطقة قبل بضعة أيام. وقد تم تكبيلهم، وبعد عصب عيونهم تم إحضارهم إلى موقع عسكري كبير. بعد فترة قصيرة، وصل رجال وحدة 504 للتحقيق معهم، مع الحرص على الفصل بينهم أثناء التحقيق وبعده.
“يبدو أنكم ستبقون لبضعة أيام”، قال لي أحد المحققين عندما سألته عن القرار وكيف يجب علينا تنفيذ الإفراج عن هؤلاء الذين لا حاجة إلى الاستمرار في التحقيق معهم. وعندما سألته كيف يعرف بأننا جدد، ابتسم وقال: “لأنكم تجلبون أسرى حتى الآن”.
حياة الإنسان في قطاع غزة تساوي أقل من حياة آلاف الكلاب الضالة التي تتجول هنا وتبحث عن الطعام. في حين يوجد أمر واضح يحظر إطلاق النار على الكلاب، إلا إذا كان هناك خطر حقيقي على حياة الجندي عندما يغرس الكلب أنيابه في جسده، ولكن يسمح له بإطلاق النار على الناس بدون قيود حقيقية، باستثناء حدود الأخلاق الشخصية للجندي الذي يحمل السلاح.
لقد مرت 29 سنة على تجندي للجيش الإسرائيلي ودراسة الوثيقة التي تسمى “قيم الجيش الإسرائيلي”، والتي تم استبدالها بعد ذلك بـ “روح الجيش الإسرائيلي”، وفيما بعد “المدونة الأخلاقية لمكافحة الإرهاب”. حاول الجميع إيجاد إطار كنوع من النظام الداخلي للتعليمات والقواعد – الذي يسمح للجندي بالحفاظ على المعيارية أثناء تنفيذ المهمة. كل ذلك تم رميه منذ 7 أكتوبر، أي أنه رسمياً ما زال سارية المفعول، لكن عملياً، كل شخص يفعل ما يروقه.
المهمة في قطاع نتساريم سهلة. ولا أحد يعرف كيف يشرح لنا ما الاستفادة من وجودنا هنا. الجيش الإسرائيلي بنى مواقع كثيرة في هذا القاطع، معظمها داخل مواقع (الاسم المغسول للبيوت: هذا إذا سمينا بيت عائلة باسم “أتار”، يسهل على البوصلة الأخلاقية الداخلية الموافقة على استخدامه أو هدمه). وبعضها مواقع كبيرة متصلة بالمياه التي تأتي في أنبوب من دولة إسرائيل.
في السابق، قالت الحكومة بأنها تسيطر على هذه المنطقة لاستخدامها كورقة مساومة في صفقة إطلاق سراح المخطوفين. الجميع موافقون في هذا الوضع، حيث يدور الأمر عن مهمة قيمية لا مثيل لها. كنت سأوافق على التواجد هنا أربعة أشهر أخرى دون الذهاب إلى البيت لو عرفت بأنني أقرب بذلك موعد تحرير المخطوفين. ولكن في نهاية آب، قرر الكابنيت أنه لن يستخدم محور فيلادلفيا ومنطقة نتساريم كورقة مساومة في صفقة التبادل، وهكذا أزيلت القاعدة الأخلاقية للاحتفاظ بهذه المنطقة.
عندما وصلنا إلى المنطقة سمعنا محاضرة قائد الفرقة بعد بضعة أيام على قرار الكابنيت. وقال إن المهمة قيمية واستراتيجية. قال ذلك ولكنه لم يشرح. المتشائمون سيقولون بأنه لم يرغب في القول بأن إسرائيل تخطط لطرد جميع الفلسطينيين من شمال القطاع وإقامة المستوطنات هناك. وحسب تقديري، ببساطة كان هو أيضاً محرَجاً، مثلنا، لأن قرار الكابنت أدى إلى أن مهمة الاستيلاء على منطقة لم تعد تخدم أي هدف، الذي يمكن الموافقة عليه أو حتى تفسيره.
في غضون ذلك، إلى حين اتضاح الهدف، يجب فعل شيء. إذا ما الذي نفعله؟ تدمير ممنهج للمباني. في منطقة “الممر” لا يمكن العثور على مبنى يزيد ارتفاعه عن نصف متر، باستثناء المباني التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي. جميعها مدمرة، باستثناء الجامعة الإسلامية التي أمر براك حيرام بتفجيرها، وما زال الإطار الخارجي للمبنى قائماً. وبقدر معين، المستشفى التركي الذي ما زال قائماً رغم الأضرار الكبيرة بسبب القصف، كل ما تبقى لم يعد موجوداً. أمل المكان الذي كانت فيه أحياء وبيوت فلا شيء سوى الرمال والغبار. أكوام الرمال تغطي الآن بالتدريج القليل من الإسمنت الذي لم يتفجر. وبعد بضعة أشهر، لا أحد يمكنه التخمين بأن عائلات كانت هنا، شوارع، سيارات، مدارس، حقول ودفيئات. فقط القليل من النباتات والأشجار بقيت صامدة بعد تفجير البيوت وتجاوزت كفة الجرافات.
تم تنفيذ معظم “العمل” قبل وصولنا إلى المكان. مهمتنا، التي لا نعرف من قررها، هي تدمير المزيد من البيوت وراء وادي غزة: المكان الذي أُمر الغزاويون باجتيازه. الهدف الرسمي هو إبعاد خط التماس، لكن لا أحد يشرح لنا لماذا. لأن الفلسطينيين بحاجة إلى مكان يكونون فيه، وطلب منهم الجيش الإسرائيلي الانتقال وإلى هناك. وحتى الآن، نفجر بيوتهم.
الطريقة سهلة جداً: نقتحم منطقة، نتأكد من أنها خالية من الناس (وإلا، نطرد السكان)، ونضع المواد المتفجرة. في وقت ما، كان سائداً استخدام مواد متفجرة تقنية، لكن في كانون الثاني – شباط استخدمنا ألغاماً قديمة، والآن يستخدمون كل أنواع المواد الكيميائية لإحداث الانفجار المطلوب. هذا يعكس الضرورة أكثر من أي شيء آخر: مصانع السلاح لم تعد تلبي الطلب، ووجود الكثير من المباني لتفجيرها في القطاع.
وادي غزة ليس “الحدود بين المنطقة التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي وبين باقي القطاع. هذه الحدود توجد جنوبه، ولا أحد يكشف للفلسطينيين الخط الأحمر الذي يحظر عليهم تجاوزه، وهم ينتقلون إلى الشمال باتجاه الممر. هم يكتشفون ذلك بالطريقة الصعبة: إطلاق النار عليهم وقتلهم عندما يقتربون من الخط الوهمي الذي قرره الجيش الإسرائيلي، الذي يتغير طوال الوقت. هذا الخط تم رسمه على الأرض، ويجب أن يقرر قائد المنطقة هل يتم تنفيذ إطلاق النار لإبعادهم (إطلاق النار قربهم كي يفهموا أن من يريد النجاة بحياته فعليه الابتعاد)، أو السماح لهم بالاقتراب وبعد ذلك إطلاق النار عليهم من أجل قتلهم”.
سواء كانوا من أعضاء حماس، الذين جاءوا لجمع المعلومات الاستخبارية، أو جاءوا لإخراج أشياء من بيوتهم، أو أنهم كانوا في المكان والزمان غير الصحيحين، ففي اللحظة التي تلقي فيها رصاصة القناص أو القنبلة، من حوامة أو قذيفة مدفعية أطلقت من بعيد، يتحولون إلى مخربين بشكل رسمي ويدخلون إلى الاحصائيات التي سيظهرها بيان المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي في اليوم التالي، وستمجد بطولة الجنود الذين قلصوا عدد المخربين في القطاع.
ذات يوم تم تسلم إنذار عام، يقول بأنه ربما تتركز في المستقبل نقطة مراقبة لحماس في مبنى جنوبي وادي غزة، جنوب الممر. ليس لأننا رأينا أحداً يراقب، أو سمعنا عن شخص يراقب، أو لأن أحداً عرف شيئاً – ولكنها معلومات وصلت من تحليل ميداني أو من مكالمة هاتفية سمعت بتنصت بشكل ما. لا نعرف، وفي الأصل هذا ليس من مستوى يسمح لنا الاطلاع على المعلومات الاستخبارية.
ملاحظة أخيرة. هناك كثيرون يكتبون في الشبكات الاجتماعية: “ارفضوا” أو “لا توافقوا” أو “اخرجوا من هناك بالكتيبة كلها”، هذا هراء. الحرب منطقة رمادية جداً. قليلة هي الأوضاع التي تكون فيها مبررة كلياً.
قليلة هي الأوضاع أيضاً التي تكون فيها الحرب غير مبررة كلياً، مثل الحالة التي أعطي فيها أمر إطلاق النار وقتل شخص غير مسلح وهو يرفع الراية البيضاء. كل ما بقي رمادي. أحياناً رمادي فاتح، وأحياناً أخرى رمادي قاتم أو رمادي. عندها يقف أمام الرمادي أصدقاء لا تريد تركهم ليسحقوا في الموقع، الصداقة والأخوة، أو التخلي عن الإخلاص للوحدة والأصدقاء والجيش والدولة. بدلاً من تقديم المواعظ الأخلاقية لجنود الاحتياط بأن يتظاهروا من أجلكم، عليكم أنتم التظاهر.
حاييم هار زهاف
هآرتس 5/12/2024