جولة في منطقة الباشورة البيروتية التي جذبت الأجانب ومخرجي السينما والمضاربات

زهرة مرعي
حجم الخط
0

بيروت-“القدس العربي”:  الشركات العقارية تتمدد في بيروت. بعد إمساك شركة سوليدير بالوسط التجاري ومحيطه، وإقصائه كلياً عن روحه الشعبية، شركات عقارية أخرى تتمدد بالتدريج على أطراف ملكيات الشركة الأولى وخاصة في الطرف المقابل لجسر فؤاد شهاب. يبدو أن أوان قطاف منطقة الباشورة ومبانيها القديمة قد حان. وقبل أن يصبح الماضي أثراً بعد عين، نظمت سلسلة “نحن التراث: مرويات عن السكن” جولة في المنطقة المهددة بالزوال بإشراف من مكتب “استوديو اشغال عامة”.

الأسئلة مطروحة باستمرار حول التراث، هل يبقى أو يباد كأثر مادي؟ وكذلك عن السياسات السكنية التي أدت على الدوام إلى تهجير الناس ومتى سنحظى بها في لبنان؟ سلسلة “نحنا التراث” تنطلق من رؤية لتاريخ الأحياء ترتبط بقصص السكان، مما يتيح مساحة لإعادة التفكير في التطوير العقاري السائد والسياسات القائمة أو المتحكمة بالسوق.

في الباشورة تحتل المقبرة مساحة واسعة من المنطقة، وهي مطلة على وسط بيروت. نشأت سنة 1878 على تلة مرتفعة كانت تفصل الباشورة عن سور بيروت القديم، وفيها ضريح للوالي التركي. منذ سنوات شاعت أحاديث عن نوايا بنقلها، لكنها جوبهت برفض مطلق من أهل بيروت. يرى القائمون على سلسلة “نحنا التراث” في منطقة الباشورة خير نموذج لمعرفة المراحل التاريخية التي مرّت بها مدينة بيروت. فهي الأقرب إلى بيروت القديمة ونسيجها العمراني المختلط سجّل مسار تكوّن المدينة. وفي الباشورة بيوت قديمة تملكها عائلات ميسورة، وأحواش عتيقة تتفرع بأزقة ضيقة عن الطرقات الرئيسية. وتوصف بأنها منطقة نابضة بالحياة. ويسمح نسيجها التاريخي بتكوين علاقات اجتماعية متميزة حيث يلعب الأولاد في زواريبها الضيقة بأمان، ويجلس المسنون على طول الأرصفة للتجمع وقضاء الوقت.

وفي الجولة ضمن أحياء الباشورة ثمة ألفة لا تزال تسكن احياءها وأحواشها التي لم ندخلها حفاظاً واحتراماً لخصوصية سكانها. تلك الأحواش نمت لتلبية حاجات السكن للعائلات الوافدة للعمل في بيروت خاصة من الجنوب. ومن أحواشها الصامدة بوجه الشركات العقارية مطر والحنبلي والعتر. أما حوش البغدادي ومبسوط والأكراد فقد أزيلت. إذاً يعرف هؤلاء السكان ما يتهددهم ويتواصلون مع المشرفين على الجولة بطرق شتى.

تتهدد الباشورة حالياً مخاطر جمة لاستهدافها بالمضاربات العقارية نظراً لميزة موقعها. شركة “بيروت ديجيتال ديستركت” تشكل مثالاً للنهج العمراني المتبع أو السائد في بيروت. وفي الرحلة باتجاه الباشورة كنا مجموعة بيننا حسن معتوق الذي جاء يسأل عن المستشفى الفرنسي. وكذلك فتاة فرنسية وطالب إيطالي يدرس العربية في بيروت، يتقنان اللغة العربية الفصحى والمحكية. بالمناسبة المستشفى الفرنسي بني سنة 1862 وكانت والدته ترتاده للطبابة، وهو من بعدها لكن الحرب الأهلية حالت بينه وبين طبيبه الأرمني الأصل. ومن هذا المستشفى لم يبق سوى الأطلال كونه يقع مباشرة قرب جسر فؤاد شهاب – الرينغ، وهي منطقة كانت ملتهبة عسكرياً.

في التاريخ العمراني لبيروت وكما ورد في الكتيب الذي وزّع على المشاركين في الجولة، أنه وفي بداية عصر الإنتداب “كان البناء محصوراً بالبيوت والفيلات المحاطة بالبساتين”. ويتذكر قدامى سكان الباشورة شارع خندق الغميق القريب بروايات متعددة. “منها المناوشات مع العسكريين الفرنسيين المتمركزين قرب المستشفى الفرنسي كان يفتعلها الصغار والشبان كتعبير رمزي عن مقاومة الإنتداب”. وكانت زواريب المنطقة تساعدهم على الفرار، ومنها زاروب الحرامية الواقع أسفل مقبرة الباشورة وقريباً من المستشفى. وروايات أخرى كان لها طابعها الاجتماعي والإنساني شبهت شارع خندق الغميق المتواصل مع الباشورة “بشارع سرسق في اوائل الخمسينيات يملؤه العشاق ذهاباً وإياباً”.

مشهد الباشورة في واقعها الحالي يظهرها وكأنها محاصرة، ومن يستهدفها من الشركات العقارية يعرف مدى أهميتها. وهي إن كانت جذبت وتجذب العديد من مخرجي الأفلام السينمائية للتصوير في شوارها وبيوتاتها، إلا أن المال ورأس المال يراها مشروعاً وحلماً لمزيد من الأرباح الخيالية. فهي تبعد خمس دقائق مشياً عن وسط البلد، وخمساً أخرى عن شارع مونو. إلا أن الأوتوسترادات الأربعة التي تزنرها تحد من الحركة والأهم أنها تفصلها عن محيطها. وهذه الأوتوسترادات هي: فؤاد شهاب الرينغ شمالاً، سليم سلام غرباً، الاستقلال جنوباً، وبشارة الخوري شرقاً.

انكفأ عنها السكان

لجهة النسيج الاجتماعي نعمت الباشورة بالتنوع الموجود أصلاً في العائلات اللبنانية، لكن حرب سنة 1958 أدت لتغيير وجهها، انكفأ عنها السكان من طائفة السريان وصارت ذات أكثرية مسلمة. وبدأت تنمو طبقة الملاكين الشيعة التي اشترت في الستينيات عقارات من الأرمن والسريان. كنيسة مار جرجس للسريان الكاثوليك (1878) لا تزال قائمة بين مبنيين ضخمين شيدتهما الشركة العقارية الجديدة، وكأن ثمة نية لترميمها، أو ربما ايهام بذلك.

في هذا الطريق مبان قديمة بعضها متداع وبعضها الآخر يحمل آثار الحرب، وعلى واجهة أحدها اختار فنان من اسبانيا أن يرسم طفلاً. هو الفنان جورجي رودريغس جيرادا الذي تأثر بالمكان وتواصل معه عبر الألوان، مع العلم أن تلك الصورة صارت تميل إلى الشحوب نتيجة الدخان الذي تبثه السيارات وكذلك مولدات الكهرباء.

خلال الجولة تتبدى للناظر أبنية ذات طابع معماري فريد من نوعه وجميل. يباغت الناظر إليها السؤال إن كانت مستهدفة من قبل الشركة العقارية التي تضع المنطقة ضمن أهدافها؟ ويؤكد السكان بنعم. محامو الشركة يجولون على السكان كل بمفرده ويخشون من وحدتهم. ونعرف خلال تلك الرحلة في أحياء الباشورة أن بعض الأبنية تمّ تعيين حارس قضائي لها. وأن سكان بناية نعنوع تكاتفوا واشتروا شققهم من مالكها بـ50 ألف دولار للشقة الواحدة.

 في الطريق نحو الهدف الأخير المستشفى الفرنسي وسور مقبرة الباشورة وبداية زاروب الحرامية، يستوقفنا الرفيق حسن خليفة بأسى فهو يعد أيامه في مطعم كان لجده، ثم لوالده وآل إليه لاحقاً. كان منهمكاً في إعداد المشاوي بانتظار وفد أوروبي حجز لتناول مشوياته الموصوفة. المطبخ في الداخل، فيما يحتل المطعم بعض الرصيف، حيث وجدنا في طريق العودة الضيوف يصطفون على مقاعدهم المتواضعة ويراقبون البساطة التي يعمل فيها حسن وكيف يرحب بهم. أما مطبخه فتتصدره صور لغيفارا وزياد الرحباني وغاندي. ويؤكد أن ضيوفه من الأجانب يحجزون أقله لأربعة أيام في الأسبوع. عندما نسأله عن المستقبل تكاد الدمعة تفر من عينيه، ويجيب: ليس لي سوى الجنوب، سأعود إلى الغازية.

زاروب الحرامية

من الواضح أن جدار مقبرة الباشورة يعود للزمن العثماني. لكن ليس معروفاً سبب إطلاق تعريف زاروب الحرامية على المكان الملاصق لها. ومن الشرح المرافق نعرف أن السارقين كانوا يقومون بأفعالهم في الوسط التجاري ويهربون عبر هذا الزاروب الضيق وتعجز القوى الأمنية من اقتفاء أثرهم.

جاد جابر من سكان منطقة الباشورة يعمل مدرباً رياضياً، جذبته دعوة التطوع للحديث عن خصوصيات منطقة الباشورة ومن قبل ساكنيها وعارفيها. يقول: ثمة حاجة لأن يتعرّف سكان مناطق بيروت إلى خصوصيات كل منطقة بحد ذاتها، والحقبات التاريخية التي مرّت بها. المعلومات التي في حوزتي عن منطقة الباشورة جمعتها عبر جولات متعددة شاركت فيها مع “استوديو أشغال عامة” بحيث بت على معرفة بكامل تفاصيل المنطقة. كما شاركني في هذه المهمة شابين من المنطقة توليا الشرح في جولات سابقة للراغبين بمزيد من المعرفة الميدانية عن الباشورة.

ويضيف: حظيت هذه الجولات باهتمام كبير من قبل اللبنانيين والأجانب الذين يعيشون في بيروت. بعض الذين شاركوا بالتعرف إلى المنطقة يتابعون دراسات جامعية متخصصة، ويهتمون بمعرفة تفاصيل عن الواقع الاجتماعي قديماً وحديثاً. خصوصية الباشورة أنها تضم مباني تنتمي لبيروت الماضي، ولم يسطو عليها العمران الحديث بعد.

نسأل جنى حيدر الناشطة في مؤسسة “نحنا التراث” و”استوديو أشغال عامة” عن ماهية هذه الجولات في منطقة الباشورة؟ تقول: هو نشاط ينظمه استوديو أشغال عامة الذي يقوم بأبحاث مُدنية. كانت لنا أبحاث طويلة في أحياء بيروت تناولت بشكل خاص السكان. نحن نلجأ للوسائل القريبة والسهلة في الوصول إلى المعلومات، وفي إيصالها لمن يرغب من خلال جولات في المنطقة المستهدفة تتضمن شرحاً بالمحكية اللبنانية. ونرفق تلك الجولات بمنشورات تتضمن توضيحاً ومعلومات. نوجه الإهتمام في استوديو أشغال عامة حالياً نحو الباشورة، الطريق الجديدة، منطقة الروم والبدوي في الجعيتاوي.

*وهل الهدف الأبعد وضع بيروت القديمة في ذاكرة مجموعة من الأفراد؟

**أبداً، الهدف أبعد من الذاكرة. أنها جولات تختص بالتوعية لما تواجهه الأحياء التي نحن بصدها – ورغم بعدها بعضها عن الآخر – من مشاكل مشتركة ومتقاربة. نضيء على تلك المشاكل ونعمل لمكافحتها وبذل الجهود للحفاظ على الموجود، فيما تأتي الذاكرة ضمن السياق. هدفنا الإنسان والبنيان وكيفية الحفاظ على النسيج القديم الذي يسمح للشرائح الأفقر في المجتمع بأن تبقى في هذه المدينة. وهذا ما تظهره الجولات التي نقوم بها.

*كم سيتمكن هذا النسيج من مواجهة ضغوط الشركات العقارية؟

**سؤال يعيدنا إلى غياب السياسة السكنية من قبل الدولة التي يجب أن تضع الكوابح للشركات الرأسمالية الضخمة التي تقتحم الأحياء السكنية. والتي تساهم بشكل مباشر برفع كلفة المعيشة. تهجير السكان مشكلة سواء كانوا مستأجرين أو مالكين. نحن نتناول موضوع تهجير السكان المقيمين في بيروت، وفي الوقت نفسه نلتفت لحق القادم الجديد بالسكن فيها، وأن يكون قادراً على دفع بدل سكن محترم في هذه المدينة. في جولاتنا ضمن هذه الأحياء من بيروت نبتعد عن تعبير “السكان الأصليين”. فعندما نبحث ونتحدث عن تاريخ تشكُل الحي يتبين لنا أن غالبية السكان وفدوا إليها من خارجها. إذاً ليس ممكناً تحديد هذا التعبير أي “السكان الأصليين”. صحيح يفترض أن تكون لدى الساكن الموجود قوة وقدرة تحديد سكنه، وفي الوقت نفسه للقادم الجديد الحق في السكن الميسر في هذه المدينة.

*بيروت الحالية بات واضحاً أنها عصية على محدودي الدخل ولا مكان لهم فيها؟

**صحيح. وهنا يأتي دور السياسة السكنية في عدم تسليع الأرض وبالتالي السكن. أي ايجاد ضوابط للسوق العقارية وأن لا تكون تحت مظلة سعر السوق.

*أليس حلماً بعيد المنال ما تتحدثين عنه؟

**ليس حلماً بل هو يُطبق في دول كثيرة من العالم. سياسات السكن واقعية وظاهرة في مدن كبرى متعددة، وهي ليست مستحيلة. وفي بيروت علينا مجابهة القوى السياسية التي تعمل بشكل معاكس لهذا المنطق السكني. وهذه القوى تخدم مصالحها المالية وحضورها كبير في القطاع العقاري.

*ما هي نسبة الأمل لديكم؟

**الأمل ليس كبيراً في المدى القصير، وفي المدى الطويل الأمل جيد.

*ربما إلى حينها تصبح بيروت حكراً على فئات متمكنة مالياً؟

**للأسف القصة طويلة لكنها غير مستحيلة. في النهاية نهدف من جولاتنا إلى التوعية.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية