قد يظن بعض المعلقين في الشأن الفلسطيني ـ الإسرائيلي أن السكان العرب والفلسطينيين في أراضي 1948 من فلسطين ربما اندمجوا في الكيان الإسرائيلي إلى درجة دفعتهم نحو التخلي عن تطلعاتهم الوطنية والقومية في شأن تحرير وطنهم أو في دعم المقاومة الداخلية والخارجية الساعية إلى تحرير هذا الوطن من مغتصبيه المنكّلين بسكانه الفلسطينيين والساعين لتهجيرهم.
ولكن، بعد قراءتهم كتاب الدكتور جوني منصور، الأستاذ في إحدى الكليات الجامعية في أراضي الـ48 الفلسطينية بعنوان: «غزة حجر الزاوية» ويتمعنون في الأسئلة التي يطرحها منصور في هذا الكتاب، سيدركون بأنهم مخطئون.
وسيزيد ادراكهم لهذا الواقع عندما يقرأون المقدمة التي كتبها الكاتب والأستاذ الجامعي الملتزم بالقضايا الإنسانية ايلان بابيه إزاء منصور وكتابه في مطلع الكتاب، علماً أن بابيه إسرائيلي الأصل وهو حالياً اختصاصي في شؤون الشرق الأوسط في جامعة اكستر البريطانية.
يقول بابيه: «كتبَ هذا الكتاب مؤرخ ذو خبرة كبيرة سجّل بدقة الأدلة والشهادات وتقارير الصحف ومقالات الرأي ومصادر أخرى ودمجها في رواية واضحة سهلة المنال وارتكز فيها على معرفته باللغتين العربية والعبرية التي منحته منظوراً فريداً للمصادر على جانبي الانقسام».
ويعتبر بابيه أن الكاتب منصور «أدرك بأن هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 (طوفان الأقصى) استخدمته إسرائيل كذريعة لمواصلة سياسات الإبادة الجماعية في قطاع غزة التي شكّلت ذريعة أيضا للولايات المتحدة لمحاولة إعادة تأكيد وجودها الرئيسي في الشرق الأوسط كما هي ذريعة لبعض الدول الأوروبية لانتهاك الحريات الديمقراطية في العالم والمنطقة والحد منها باسم الحرب على الإرهاب الجديدة».
وفي شأن ولادة «الأمة اليهودية الجديدة» يقول بابيه مؤيداً مواقف منصور: «في هذه العملية تحول المشروع الصهيوني الثقافي والفكري إلى مشروع استعماري استيطاني يهدف إلى تهويد فلسطين التاريخية متجاهلاً حقيقة أنها كانت مأهولة بالسكان الأصليين».
ويستنتج بابيه كما يفعل منصور في الكتاب «أن الأشخاص الذين شاركوا في هجوم حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 كانوا معظمهم أو جميعهم ضمن الفئة العمرية التي وقعت ضحية لإسرائيل طوال حياتهم بحيث عانوا وتهجروا طوال وجودهم». ولكن إسرائيل ستظل: «دولة فصل عنصري ابارتهيد، مهما كانت تطورات الوضع في غزة. ولن يختفي الفلسطينيون وسيواصلون نضالهم من أجل التحرر، وسيظل المخرج هو تغيير النظام في إسرائيل وإنشاء نظام يمنح حقوقاً متساوية للجميع ويسمح بعودة اللاجئين الفلسطينيين، وإلا فإن دائرة سفك الدماء لن تنتهي».
ويؤكد منصور موقف بابيه قائلاً إن عملية 7 أكتوبر «طوفان الأقصى» شكلت طعنة قوية لادعاءات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي كان يعتقد بأنه يمكنه التغاضي كلياً عن الفلسطينيين والبحث عن علاقات طبيعية مع دول عربية على قاعدة التطبيع وبالتالي تختفي القضية الفلسطينية التي هي جوهر الصراع في المنطقة.
ويشير إلى أن المقاومة الفلسطينية كسبت في الساعات الأولى من عملية 7 أكتوبر مواد سرية من مكاتب مخابرات الجيش الإسرائيلي التي دخلت إليها شكلت موارد مفيدة استثمرتها في غزة وخارجها.
ويضيف الكاتب قائلاً إن إسرائيل كانت تنوي استخدام ما ظنت أنه جبروتها العسكري لحماية بعض الدول العربية التي تخشى النفوذ الإيراني في المنطقة ولكنه يسأل: «إذا كانت إسرائيل غير قادرة على حماية نفسها من حركة حماس وحلفائها فكيف يمكنها أن توفر حماية لدول في الخليج من إيران؟ وكيف ستحمي العالم العربي من التهديدات التي تواجهه؟ لقد صنعت إسرائيل وأنتجت عدواً للعرب هو إيران وفكرة بأن العرب لا يمكنهم حماية أنفسهم وأنظمتهم بشكل خاص من إيران إلا بسواعد وعضلات وبطولات إسرائيل، هذه الفرضية تهاوت نهائياً أو بشكل شبه نهائي إلى الآن» (ص 14).
ويشير الكاتب إلى وجود ما يسميه «نظرية مؤامرة» ربما يكون جزء منها صحيحاً بوجود تخطيط مسبق في «الدولة العميقة» الإسرائيلية لاستخدام عملية «طوفان الأقصى» التي «كان بعض قادة إسرائيل العسكريين يعلمون مسبقاً بإمكان حدوثها لتحقيق الاستيلاء على قطاع غزة لوفرة الغاز الطبيعي في بحر تلك المنطقة». وإلى إحياء مخططات ومشاريع سابقة إسرائيلية ـ أمريكية لحفر قناة إسرائيلية باسم ديفيد بن غوريون (مؤسس دولة إسرائيل) تربط بين ايلات على خليج العقبة وبين منطقة عسقلان. وبالتالي «هناك ضرورة ماسة لتفريغ قطاع غزة من سكانه والاستيلاء على أراضيه لصالح هذا المشروع الذي يشمل ضرب قناة السويس وإخراج مصر من دائرة التأثير على حركة النقل البحري الدولي» (ص 15).
ويؤكد الكاتب أنه لم يخطر في باله مطلقاً أن تخرج مظاهرات مليونية في مدن كبرى في العالم، وبينها لندن ومدن أمريكية، نصرة للشعب الفلسطيني الصامد ودعوة لرفض حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني وتأييداً لوقف إطلاق النار وخصوصاً ضد المدنيين وبينهم العدد الكبير من النساء والأطفال، ولجم ممارسة إسرائيل للقتل والتجويع وتعطيل الخدمات الصحية عن طريق قصف المستشفيات واغتيال الأطباء والصحافيين ورجال ونساء مؤسسات المجتمع المدني الدولية والمحلية التي سعت إلى إيصال الموارد الحياتية الأساسية إلى الضحايا الفلسطينيين.
ويأسف منصور لاستخدام الدول الكبرى نداءات المطالبة بالهدن الإنسانية فقط أي توصيل قدر محدود من الغذاء والدواء إلى المنكوبين المدنيين مع متابعة الحرب المجرمة في الوقت عينه. ووصف ذلك بالنفاق الإنساني والانحطاط الأخلاقي والسعي إلى المزيد من التنكيل بالأبرياء والترويج في الوقت عينه لاستمرار الحرب.
وينتقد: «النظام العربي الذي استولى عليه الصمت والذي اقتصرت تحركاته على البيانات والخطابات باستثناء ما فعلته دولتا قطر ومصر». أما باقي الدول العربية فبرأيه «كانت شبه غير موجودة وكأنها يئست من القضية الفلسطينية».
ويصف الكاتب صمود أهل غزة في مواجهة عمليات الإبادة الجماعية ومحاولات التهجير القسري الإسرائيلية بـ«الصمود الأسطوري» وبانه «أعاد القضية الفلسطينية إلى واجهة العالم».
في الفصل الأول من الكتاب يقول منصور: «لا شك بأن الحرب الإسرائيلية على غزة ستطيح بعدد من الحكومات والأنظمة سواء في الإقليم أو في دول أوروبية على خلفية مواقفها الداعمة لإسرائيل أو تلك منها التي تظاهرت بدعمها للمقاومة. بمعنى آخر لن يبقى العالم كما كان قبل السابع من أكتوبر». ويتساءل هل ستبقى بعض الحكومات العربية في صف شركاء وحلفاء إسرائيل بشكل مباشر أو غير مباشر؟ وهل ستجد هذه الشراكة لها المخارج، وهل يملك القادة العرب قوة وجرأة على قول كلمة لا لتصريحات قادة سياسيين وعسكريين إسرائيليين حول كونهم يستطيعون ضرب بيروت وغيرها من المدن العربية التي ترفع رؤوسها على إسرائيل؟» (ص 60).
ويتساءل منصور عن دوافع إسرائيل لاستهداف وضرب المستشفيات في غزة برغم أنها تعرف جيداً بان المستشفيات كالمؤسسات التربوية ودور العبادة محمية استناداً إلى القانون الدولي الإنساني؟ ويجيب قائلاً: «مَن يتابع حروب إسرائيل على الفلسطينيين سواء في القطاع أو الضفة الغربية أو لبنان، وعملياتها العسكرية ضد دمشق والعراق، يدرك بأن قيادات إسرائيل لم تأخذ في الاعتبار القانون الدولي مطلقاً برغم أنها تتذرع بأخلاقية جيشها. أن ضرب إسرائيل وقصفها للمستشفيات يساهم في ترحيل السكان وعدم اعتمادهم على إمكانية أو فرصة إيجاد رعاية صحية ومعالجة طبية. وذلك في نطاق تحقيق إبادة جماعية أو ما أصبح يُعرف بالتطهير العرقي الذي هو جهد يرمي إلى تحويل بلد مختلط عرقياً إلى بلد متجانس من خلال طرد جماعة من الناس مقيمة فيه منذ زمن طويل وتحويلهم إلى لاجئين مع هدم البيوت التي تم اجلاؤهم عنها. انه تكتيك أساسي لتسريع هروب السكان المطلوب طردهم» (ص 68 و69).
ويضيف: «أن الحملة التي تشنها إسرائيل هي لجعل غزة غير صالحة للسكن وذلك من خلال مسح أرضها بكل ما عليها وأيضاً بما تحتها، علماً أن ما تحت غزة هو المقلق لإسرائيل. انها الأنفاق التي حفرتها المقاومة الفلسطينية لمواجهة آلة الاحتلال الإسرائيلية في أعقاب الحصار الجائر الذي فرضته إسرائيل على القطاع منذ 16 عاماً ولم يتحرك المجتمع الدولي لشجبه واستنكاره وإلزام إسرائيل بوضع نهاية له» (ص 70).
ويعتبر الكاتب أن ما يحتاجه الغزّاويون الآن وسط كل هذا الألم الذي عانوه هو مناصرة من الدول العربية في الأساس وليس فقط في التصريح والتحذير، ومعارضة ترحيل وطرد السكان الفلسطينيين من أرضهم عن طريق حشد قوات عسكرية ربما مصرية وأردنية على الحدود كجزء من عملية الردع والتصدي لأي مشروع ترحيلي لأهالي غزة أو أي فئة أخرى من فلسطينيي الأرض الفلسطينية.
وينتقد بشدة دعم الإدارة الأمريكية وتقديمها المساعدات المالية السخية للدول العربية في مقدمتها مصر لدفعها لاستقبال اللاجئين من غزة. وتدّعي الخطة الأمريكية أن الحل الأخلاقي الوحيد يتمثل في ضمان فتح مصر حدودها والسماح بدخول اللاجئين إليها من غزة، ولا غرابة في تصريحات وزير الخارجية الأمريكية انتوني بلينكن الذي حث إسرائيل على تجنب قصف المدنيين مبرراً ذلك بعدم وجود مكان آمن في قطاع غزة المزدحم بالسكان من دون أن تفرض أمريكا نفسها على إسرائيل لتأمين مثل هذا المكان الآمن في غزة بفضل نفوذها الكبير على تل أبيب وتحالفها معها وتسليحها الضخم لها.
ويشير منصور إلى أن إسرائيل والإدارة الأمريكية تدركان بأن مصر سترفض هذه المقترحات التي طُرحت في الكونغرس الأمريكي فتم اقتراح دول أخرى لاستقبال «اللاجئين الفلسطينيين الجدد» كالعراق وتركيا واليمن.
ويتناول الكاتب أيضاُ قضية محاولات إسرائيل وحلفائها تجميد تمويل منظمة «الأونروا» التي تتلقى تمويلها الرئيسي من الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي و«كلهم من المؤيدين لإسرائيل» ومشاريعها ربما تمهيداً لإيقافها عن العمل.
ويعتبر المؤلف بأن التوجه لتجميد أو «تفليس» وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» دافعه أن الولايات المتحدة وإسرائيل تعملان على تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة إلى وطنهم. وبالتالي تنطلق الدعوة لدمج «الأونروا» بمفوضة الأمم المتحدة العليا للاجئين «UNHCR» عوضاً عن استمرار تأمين المدارس والخدمات الطبية والحياتية والمادية كما يجري حالياً للفلسطينيين بواسطة الأونروا في أماكن لجوئهم في داخل فلسطين أو في خارجها واستبداله بتجنيسهم في دول أخرى لجأوا إليها ودفعهم لعدم التمسك بحق العودة وللتخلي عنه نهائياً.
جوني منصور: «غزة حجر الزاوية»
المؤسسة العربية. بيروت 2024
272 صفحة.