«صورة الفنان في شبابه» هي الرواية الأولى للروائي الأيرلندي جيمس جويس (1882 ـ 1941) التي صدرت بالإنكليزية عام 1916، وصُنّفت بين أفضل 100 رواية عبر العصور، ودشّنت مسيرة كتابية ناشطة لصاحبها، كان لها تأثيرها في أدب القرن العشرين. واليوم، تصدر الرواية بالعربية عن دار الآداب في طبعة ثالثة، بترجمة ماهر البطوطي. وهي لا تشذّ عن سائر رواياته في تمحورها حول مدينة دبلن العاصمة، التي يبرّر الكتابة عنها بمحاولة الدخول إلى قلبها، لأنه ما لم يفعل ذلك، لن يستطيع الدخول إلى كلّ مدن العالم، على حدّ تعبيره، في إشارة صريحة إلى أنّ المحلية هي الطريق الحتمي إلى العالمية.
نقاط تقاطع
في روايته، يطرح جويس الأسئلة الكبرى التي ما زالت تشغل الإنسان، منذ أقدم العصور، حول الدين والفلسفة والفن والجمال. وغالباً ما يفعل ذلك من خلال حوارات ثنائية بين بطله وقناعه ستيفن ديدالوس وشخوص أخرى، يعبّر فيها البطل/ القناع عن أفكار الكاتب مداورةً. وهذه الشخصية حاضرة في رواياته الأخرى، وتقوم بالمهمة نفسها التي يسندها إليها الكاتب. وفي الرواية التي بين أيدينا العديد من نقاط التقاطع بين الكاتب وبطله، أو بين الوجه والقناع، ومنها: دراستهما في مدرستي كلونغوز وبلفدير الخاصتين، وكلية دبلن الجامعية، كتابتهما الشعر، تأثّرهما بتوما الأكويني، موقفهما المشترك من رجال الدين، غضب الأب من طريقة تعاطي الكنيسة الكاثوليكية مع الناشط السياسي باندل، ومعاناته صعوبات مالية، وغيرها. غير أنّ التقاطع لا يبلغ حدّ التطابق بين الكاتب والشخصية، الأمر الذي، في حال حصوله، يُفقد الرواية هويتها، ويجعلها نوعاً من السيرة الذاتية. وهذا ما لا يريده الروائي، بطبيعة الحال.
تبلور الوعي
منذ نعومة أظفاره، يعيش ستيفن ديدالوس وقائع معيّنة، في البيت والمدرسة الأولى، تسهم في تكوين وعيه الأوّلي، وتشكيل موقفه المبكّر من الدين ورجاله. وتجعله يطرح الأسئلة الكبيرة في مرحلة مبكّرة من العمر؛ ففي البيت، يشهد الصغير سجالاً حاداًّ، على مائدة عيد الميلاد، بين والده سيمون ديدالوس وجون كاسي من جهة، ومسز دانتي ديوردان من جهة ثانية، حول القساوسة الكاثوليك، ودورهم في القضاء على الناشط السياسي باندل. وفي مدرسة كلونغوز الداخلية، يسمع بفرار خمسة تلاميذ، خشية العقاب، بعد اتهامهم بمخالفة القوانين الكنسية. ويتعرّض شخصياًّ للضرب، على يد القس الناظر دولان، دون وجه حق، وهو في الصف الثاني من دراسته. وهكذا، تسهم هذه الوقائع في بلورة وعي سلبي للدين ورجاله. وفي هذه المرحلة، يبدأ بطرح الأسئلة الحسّاسة، فيتساءل، على سبيل المثال لا الحصر: «لو أن القس وقع في الخطيئة عن طريق الخطأ، فماذا يفعل كي يعترف بها؟».
عدم التكيّف
في مرحلة المراهقة، يعيش ديدالوس حالة من عدم التكيّف في البيت والمدرسة؛ ففي البيت، ورغم العلاقة الإيجابية التي تربطه بأبيه، وتتمظهر في رحلات وأحاديث معيّنة، فإنه كثيراً ما يضيق ذرعاً بوصايا الأب، في نوع من صراع أجيال خفي بينهما، غير أنّ هذا الصراع يبقى في حدوده الدنيا، ولا يرقى إلى حدّ قتل الأب، بالمعنى الفرويدي للكلمة. وفي المدرسة، يشوب علاقته بالتلاميذ الآخرين التنمّر والتوتّر والمشاكسة، وقد تبلغ حدّ الاعتداء عليه أحياناً. ويشوب علاقته بالقساوسة المدرّسين الحذر والخوف وعدم الثقة. إزاء هذه الحالة من عدم التكيّف المزدوج، ينسحب ديدالوس إلى ذاته، ويهرب إلى أحلام اليقظة، ويسعى خلف شهوته البهيمية، ويرتكب الخطيئة. وهي آليات دفاع يمارسها لتحقيق التوازن المفقود بين ما يعيشه، وما يرغب فيه. غير أنّ الانسياق خلف شهوته يجعله موضع تجاذب بين مشاعر متناقضة؛ فهو، حين يحضر القدّاس، يتجاذبه شعور بالذنب، من جهة، ويحلم بالتوبة، من جهة ثانية، حتى إذا ما قُيِّظَ له حضور الخلوة السنوية التي تقيمها المدرسة، والاستماع إلى عظة الأب أرنال، عن يوم الحساب والموت والعقاب الأبدي، تُشكّل هذه الواقعة نقطة تحوّل في تفكير الشخصية ومجرى سلوكها.
صراع داخلي
تزلزل العظة، بما يتخلّلها من ترهيب ووعيد ورؤيا أبوكاليبتية، قناعات ديدالوس، ابن السادسة عشرة، فتتحوّل المشاعر المتناقضة فيه إلى صراع داخلي بين: الخوف من العقاب الأبدي، والرغبة في التوبة تلبيةً لنداء الواعظ من جهة، والرغبة في الانغماس في ملذاته الحسية تلبية لنداء الشيطان من جهة ثانية. وكلّما رجحت إحدى كفّتي الصراع على الأخرى، تترتّب عليها سلوكيات معيّنة. فحين ترجح كفّة الخوف على الرغبة، ينصرف إلى الصلاة وممارسة الشعائر الدينية، ويقدم على الاعتراف أمام الكاهن، ويعيش تقشّفاً سلوكيّا يتمظهر في قمع حواسّه وسدّ منافذ الشيطان، حتى إذا ما لفت سلوكه مدير المدرسة، يقوم باستدعائه، ويعرض عليه الانضمام إلى السلك الكهنوتي. وهنا، يكون عليه أن يعيش صراعاً داخليّاً آخر، متفرّعا عن الأوّل، بين قبول العرض وما يترتّب عليها من عزلة وانقطاع عن العالم الخارجي، ورفضه مستندًا إلى ذكريات كئيبة يحملها معه من مدرسته الأولى. وحين ترجح كفّة الرغبة على الخوف، نكون إزاء سلوكيات مغايرة، يعود فيها إلى ممارسة حياته الطبيعية. وفي غمرة الصراع بين القبول والرفض، وفيما ديدالوس يمشي على شاطئ بحر لانفي، يلتقي بفتاة جميلة في مجرى الجدول المحاذي، يقرأ فيها نداء الحياة له، فيقرّر تلبيته والإعراض عن الرهبنة وأسلاكها الشائكة، وتكون البداية الفعلية لمسار طويل يتوّجه باختيار حريّته على ما عداها.
خيار الحرية
في المرحلة الجامعية، تتبلور خيارات ديدالوس أكثر فأكثر، ويتم التعبير عنها في محاورات متفرّقة، يُجريها مع رجال دين وزملاء دراسة ومهتمّين، وتتمخّض عن فلسفته ورؤيته إلى الأمور؛ فنراه يحاور قسّاً في بيت الجزويت حول التأمّل والفن والجمال، وينخرط في حوار طويل مع زميله لينش، يشغل تسع عشرة صفحة من الرواية (284 – 303)، ويتمحور حول فلسفة الجمال، ويلعب فيه ديدالوس دور المعلّم، ويتمّ خلال جولة على الأقدام، ما يذكّر بالفلاسفة الرواقيين. أمّا محاورته الأخيرة، في الرواية، فتحصل، في جولة على الأقدام، مع زميله كرانلي، وتفضي إلى تفضيل حريته على ما عداها، ورفضه خدمة ما لا يؤمن به، حتى لو أضحى وحيداً. ويعبّر عن هذا الخيار بالقول: «إنني لن أخدم شيئا لم أعد أؤمن به، سواء كان ذلك منزلي، أو بلدي، أو كنيستي. وسأحاول أن أعبّر عن نفسي في الحياة أو في الفن بأكثر الأشكال حريّةً وكمالا، مستخدما للدفاع عن نفسي الأسلحة الوحيدة التي أسمح لنفسي باستخدامها: الصمت، النفي، المقدرة». وهكذا، يختار ديدالوس/ جويس الحرية، ويقدّمها على البيت والوطن والدين. ولعلّ هذا الخيار هو الرسالة التي تنطوي عليها الرواية.
وإذا كان ستيفن ديدالوس هو الشخصية المحورية في الرواية التي يتوارى خلفها جيمس جويس، للتعبير عن فلسفته وخياراته في الحياة، فإنّ وجود الشخوص الأخرى في الرواية مرهون بمقدار تأمين هذه المحورية. صحيح أنّها مكمّلة للأولى، لكنها، في الوقت نفسه، ليست ديكوراً زائداً يمكن الاستغناء عنه.
على أنّ فجوةً تعتري مسار الشخصية المحورية، لا بدّ من الإشارة إليها، في ختام هذه القراءة، وهي أنّ المحاورات الفكرية التي تقوم بها في مرحلة الشباب الجامعية لم ترهص بها مقدّمات المراحل الأولى، ففي مرحلة الطفولة المدرسية، كنّا إزاء شخصية خجولة، انطوائية، متردّدة. وفي مرحلة المراهقة الدراسية، كنّا إزاء شخصية غير متكيّفة، تتأرجّح بين الانغماس في ملذّات الحياة والخوف من العقاب. وبذلك، تشكّل اهتمامات ديدالوس تحوّلاً كبيرا في مسار الشخصية ومصيرها.
كاتب من لبنان