حاتم علي… في ذمـة الذاكرة

حجم الخط
0

  الأرواح تعبر الحدود، تصل المطارات، تمّر من دون أن يبحث ضابط أمن في سجلها عن معتقدها أو اتجاهها أو موقفها السياسي، الأرواح لا تكبل، لا تحاكم ولا تجر إلى زنزانة، إنها تعبر مع هواء وطنها إلى داخل وطنها، تمتطي جواد الاشتياق الواقف على باب المطار ليحملها، وحين يحملها، يتحول إلى طائر أبيض كبير صبغته السماء بلون يليق باستقبال من عشق وطنه، وحين عاد، دخله محّملاً في تابوت.

الأرواح لا تملك جواز سفر، ولا تصريح زيارة، لا تسأل عن اسمها إذا كان في قائمة المطلوبين، ولا عن مصيرها بعد الوصول إلى أرض المطار، فهي تفوقنا شجاعة وإيماناً بأنها تملك في الأرض ما يجيز لها الحضور، وفي الهواء ما يجيز لها العبور، وفي الماء، ما يكفيها لتروي عطش سنوات لم تذق فيها قطرة ماء. الأرواح لا تخاف، ثقتها بالأرض أكبر من ثقتنا بمن عليها، لهذا تعبر مسرعة، فالوجهة بيّنة، وما من أحد سيتوه عن المكان. الأرواح لا تلتفت يمنة ويسرة وهي تطل برأسها من نافذة الطائرة، إنها تفتح معابر الوطن على مصراعيها: “افسحوا الطريق، عدتُ بكل حمولات الشوق إلى موطن خلق ليكون مشتهى المشتاقين، فهل شرعتم أبواب الدرب لأمضي إلى قبري”، تقول الأرواح وهي تحلق في سماء وطنها كفراش لم تره عين ولم تسمع بجماله إذن.

الأرواح لا تعاتب ولا تلوم، فهي لا تملك وقتاً تضيعه في متاهات ضّل من دخلها، إنها تقتفي أثر الحمام وهو يمضي في مبتغاه، وتلحق عطر البقاء في أبديته، وقبل أن ترتمي في حضن التراب، تلقي علينا ابتسامة الواثق من عشقنا، فتبتسم وتغمض عينيها مطمئنة على نفسها، لا علينا، إنها تعرف أن من سيصاب بالفقدان هو نحن، وأن من سيصاب بالاشتياق، هو أيضاً نحن، ومن سيصاب بلعنة البقاء أحياء على أسرة الغّياب، هو نحن.

الأرواح تتأملنا ونحن نرثيها، تمد لنا مناديل لمسح دموعنا، فلا نأخذها، البكاء مازوشية نمارسها بمطلق إرادتنا، فنرفض مداواتها لأنها تبقينا على ذمة الوفاء لمن غابوا ولم يرحلوا. وقبل أن تدخل دهاليز الغياب، تستأذن الموت لتصافحنا، فتنسى الموت، وهي تعانقنا، في ضجيج النواح. وحين يوشك المغيب على الحضور، يدرك الموت أن عليه إنهاء مهمته، فينادي الروح أن تستعجل، فلا تستعجل، الموت ينادي ثانية وثالثة وعاشرة، والروح عصية على الرحيل. ولأول مرة يصاب الموت بحيرة: أيقترب من روح حاتم علي ويأخذها؟ أم يتركها في حضرة محبيها، ومن دون أن يفكر طويلاً، يقرر الموت ألا يقتلها مرتين.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية