حاول أن تكون سعيدا وما تبقّى هراء!

السعادة هذه الجوهرة النادرة، بألوان كثيرة، حلم الكبار والصغار، في مسارح الأوهام، في أودية الهواجس، في مرآة الواقع. هل هي كامنة فينا وعلينا إعادة تفعيلها بتثمين ما لدينا والاقتناع به؟ هل علينا أن نتبع نيتشه في أن البحث عنها كمن يضيّع حياته بلا جدوى؟ أو نتبع أفلاطون في أنّ السعادة تبدأ من العقل، فالانسان هو الذي يحدّد إذا كان سيعيش سعيدا، وقد أحيا سارتر ذلك بأنها قرار.
في ظل الفقر والحرمان والجوع، تبقى السعادة مطلبا وحيدا، على الرغم من كل شيء. ففي رواية فؤاد التكرلي، التي كتبت في ظل الحصار على العراق، يردد بطل الرواية «عبد الستار» وصيّة أبيه: «حاول أن تكون سعيدا. حاول أن تتمسّك بما يمكنك من الحياة السعيدة، أما ما تبقّى فهو هراء في هراء، لكن أي مطلب للسعادة كفضيلة ولا خبز في الدار؟». ومع تقدّم العمر، كي لا تكون الأيام مثقلة بالحسرة، يأتي السعي إلى السعادة، من باب تخزين الضوء، تثبيت لحظاتها بالذاكرة كي لا تفقد. فالحياة تصبح بساطا شحب لونه بسبب أشعة الشمس، كمنزل بإضاءة خافتة، لا تنبت فيه الآمال، هذا ما كان يردّده بطل الرواية، «لن نقدّم القهوة لسبينوزا»، فيقوم بتخزين الضوء تحسّبا لوصول الظلام، ومع إدراكه أنّ الذاكرة مخادعة، يلجأ إلى من يقرأ له الكتب، التي حفظها، ليحييها، وليعيد ترتيب حياته. لقد أدرك أنّ الحياة والموت والسعادة والسلام أشياء لا تفقد صلاحيتها، محافظا على طمأنينته، مستعينا بعبارة ابكتيتوس: «من كان مطمئنا لا يوتّر نفسه والآخرين». ربّما تكمن العبرة في السعي إلى تخزين الضوء، في الأرواح المتوقّدة، التي تصرّ على عدم الانطفاء لئلا تنطفئ السعادة.
«وشعر بالسعادة إذ وجد أخيرا ذهب الحياة وكان يبحث عنها في مكان آخر»، بهذه العبارة يؤكّد مكسينس فرمين، أن الحلم بعيش السعادة يعمينا عنها. والحالم ينفصل عن واقعه. فالحالمون نحّالون بالفطرة، هم مسافرو المطلق، يبحثون عن «الذهب» لأنّه هو ما يدفع بهم إلى الحلم، لكنهم يدركون أن النحلة تعود إلى قفيرها، لذلك يعودون متخففين من أوهامهم، بعد سفر طويل، تماما كما حدث مع أورليان بطل رواية «النحّال»، وقد أدرك السعادة بعد أن وجد ذهب الحياة – الذي يخصّه – أمامه، وكان يبحث عنه بعيدا بعيدا… وكلمات أحد العابرين تردّد له: «الحاجة لأن تروي عطشك ستبقى دائما أقوى من نشوة الشرب، وأن الرغبة في البقاء على قيد الحياة ستبقى على الدوام أجمل من متعة أن تحيا».
أعود الى كلاسيكيات القرن الماضي مع أندريه جيد في روايته «الباب الضيق»، وتساؤلات بطلتها إليسا:» أهي السعادة ما أرجو، أم الاتجاه نحو السعادة؟ كذلك قولة بطلها جيروم: «بدا لي أن أطيب اللحظات تلك التي تسبق السعادة حتى لتكون السعادة أقل منها شأنا..»، لينهيا قصة حب عظيمة بينهما من أجل نيل سعادة من نوع آخر، تلك التي تحدثت عنها الصوفية المسيحية، اي شيء تفضله النفس على السعادة؟ القداسة. فما يسمونه السعادة لأقل الأشياء انفصالا عن النفس والعناصر التي يتراءى أنها تؤلفها من الخارج تبدو مبتذلة. ففي السعادة تنكمش كل البطولات. وهذه السعادة هي مطلب الروح التي تسامت فما عادت تفتش على الأرض عنها.
وعلى نقيض المتعارف عليه في الأدب والحياة، يصوّر فرنسوا مورياك، في روايته «والدة»، السعادة في أن تموت وحيدا، متحرّرا من محبّة الأقربين والأبعدين، من خلال شخصية ماتيلد، وقد كانت وحيدة في هذا العالم، لا عناق يجعلها لا تريد التخلّص من قبضة هذا الوجود، حرّة من الوجوه التي تذرف الدمع على فراقها. وهذا ما أتاح لها مراقبة هروبها المنحدر، إلى ظل الموت خطوة خطوة. لهذا ظفرت بالميتة العذبة السعيدة… ميتة الذين لم يحبهم أحد.

كاتبة لبنانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية