الضربات المتوالية، التي تتلقاها حبات الزيتون المستسلمة لقدرها، تتضاعف تدريجيا.. ومعها يتردد الصدى بعيدا، يسمعه كل من كان على مقربة من المكان، فيستلطف صوته حينا ويكرهه أحيانا.. المرأة منخرطة في عملها بتفان، تكيل الضربات للحبات المتراكمة هنا وهناك، وهي تقول في نفسها وكأنها تبرر فعلتها «لا بد من فعل ذلك.. المرارة لا تختفي إلا تحت تأثير هذه الضربات». اعتادت أن تقوم بهذا العمل مرة في السنة حين يحل موسم جني الزيتون، تأخذ حصتها مما جادت به الأرض المعطاء، تقضي أياما وهي تفكر في ذلك، ثم ما تلبث أن تشمر عن ساعد الجد، تحمل عدتها وتنخرط في العمل.. كلما شعرت بالتعب عزت نفسها بمذاق هذه الحبيبات زيتية اللون، حين تصبح جاهزة وطازجة.. يسعدها أن ترى أبناءها وهم يتلقفونها ويثنون على عملها المتقن.
هذه السنة بدت مختلفة، شاردة الذهن كانت، لا تعرف ما الذي أصابها على حين غرة.. تشعر بتغيير طال حياتها.. لا تدري أهو حقيقة أو وهم، لكنها تسايره بكثير من العفوية واللامبالاة، أحيانا تسخر من نفسها متسائلة «أبعد هذا السن يتغير كل شيء فجأة؟ يا لي من امرأة حالمة حمقاء».. ثم تتذكره، تتيه بخيالها في كلماته، تقول بهمهمة غير مسموعة «لم يخطئ حين وصفني بالحالمة» تبتسم خلسة، ترتخي يدها، لم تعد الضربات مطواعة، تدنو منها ابنتها تسألها محتفية:
– ماذا يحدث لك ماما؟ أراك مختلفة..
– لا شيء.. فقط منشغلة بالزيتون كما ترين.
– لا أقصد ذلك، تبدين سعيدة وشاردة. لم أر هذه السعادة على سحنتك منذ مدة طويلة.
محاولة مداراة ارتباكها، ترد عليها:
– دعينا من ذلك، إنك تتوهمين يا صغيرتي، لأنك ترغبين في رؤيتي سعيدة.
تبتسم طفلتها التي أخذت تكبر خلسة، في كل مرة حين تمعن النظر فيها يفاجئها النضج الذي أخذ يستوطن ملامحها، وأعضاءها، تشعر للحظة أنها تذكرها بصباها. يسعدها ذلك، تحاول التخلص منها بنوع من اللباقة، تبتسم لها ثم تقول:
– السمان يحتاج تجديد الماء له، هلا قمت بذلك يا صغيرتي؟
ترد عليها ابنتها بالإيجاب وتنسحب نحو القن المخصص لتربية السمان، فيما هي تستأنف ضرباتها المتوالية.. يشخص الوافد الجديد على القلب أمام عينيها. في نفسها تقول» لم يطاردني هكذا؟ اللعنة».
كان لقاؤهما منذ مدة طويلة.. ظهر في حياتها في مناسبة جمعت نفرا كثيرا من الناس، لاحظت نظراته.. تجنبتها، لكن بعد إصراره على ملاحقتها بعينيه الجريئتين، تملكتها الشجاعة لتقترب.. كان رجلا أنيقا، جاء من بعيد كي يلقي محاضرة عن الطرق الجديدة للاستثمارات الصغيرة، وكيفية تدبيرها.. حين انتهت المداخلة نظم حفل شاي على شرف الضيوف.. فضمتهم جميعا باحة المسرح، الذي كان شاهدا على أول لقاء بينهما.. دائما كانت تحافظ على أناقتها، فلا يمكن لأحد أن يفطن إلى أنها مجرد فلاحة بسيطة، فرغم حصولها على شهادة تعليمية محترمة تؤهلها للحصول على وظيفة، اختارت أن تكون فلاحة، فلاحة أنيقة، كم يعجبها ان تناجي نفسها بين حين وآخر. ترتدي ما ترتديه الموظفات وتهتم بهندامها بشكل يوحي لمن لا يعرفها بأن حضورها الاجتماع من أجل مهمة إدارية معينة.
حين دنا منها وألقى التحية ردتها عليه بكثير من الأناقة، وهي تفكر في أن الفضول تمكن منه ليعرف من تكون.. تحدثا بكلمات قليلة، ثم تعللت بشيء وانسحبت.. فيما هو ظلت تتقاذفه الأسئلة والترحيبات من كل جانب.
عادت إلى بيتها.. ابتسمت حين فكرت فيه، ثم رمته خارج الذاكرة.. إنه مجرد لقاء عابر، لا يمكن التعويل عليه، ومع ذلك أسعدها ان تعيش تلك اللحظة المميزة، بيد أن مفاجأتها كبرت حين رن هاتفها، وكان هو المتصل، ستعرف في ما بعد أنه أخذ رقم هاتفها من الجمعية الفلاحية التي تنتمي إليها.. ذكرها به، ثم قال لها:
– لا أخفي أنني تفاجأت بكونك فلاحة، ويسعدني أن أساعدك.
ابتسمت ثم ردت:
– كم يسعدني ذلك، لكن الأمر لا يستحق.. فمشروعي صغير وأنا مكتفية به.
حاول إقناعها بكلامه، لكنها فكرت في الأمر جميعا بشكل مختلف، كانت تعرف أنها جميلة، وأن أغلب الرجال يفكرون في التقرب منها، لأسباب غير بريئة في أغلب الأحيان، بينما هي أغلقت أبواب قلبها منذ زمن بعيد، ورمت مفاتيحه في جب عميق.. حبها لأبنائها يغنيها عن كل عاطفة غير محمودة العواقب.
تخلصت منه بعد صعوبة، وعادت إلى حياتها، لكن بعد مدة شعرت بالندم، في نفسها قالت «ترى لو كان إنسانا صادقا؟» ثم لجمت السؤال في أعماقها وانشغلت بحياتها البسيطة.
مرّ العام كاملا وتلقت الدعوة من جديد لحضور تلك الندوات، التي لا يرجى منها شيء، لكنها لا يمكن رفضها حفاظا على علاقاتها مع ناس قد تحتاجهم في شيء ما مستقبلا.. اعتنت بهندامها كالعادة، ثم توجهت إلى المكان المحدد. حضر الناس من جميع الجهات، وبدأت المداخلات، ونظم معرض صغير للمواد المستهدفة، وتم توضيح عمليات التمويل الممكنة.. كل ذلك لم يشغل بالها، شعرت بنفسها منفصلة عن المكان.. كانت تنتظر ظهوره، لكنه لم يظهر، شعرت بخيبة أمل، اعتصرت قلبها، في نفسها قالت «يا لي من حمقاء.. أتعلق بالوهم». انتهت المداخلات ونظم حفل شاي ثم غادر الناس المسرح..
بخطوات متعبة غادرته.. لم تمض بعض خطوات حتى أوقفها رجل محييا. حملقت فيه، فإذا به هو بلحمه ودمه.. ارتبكت، ردت على تحيته، ثم امتلكت الشجاعة لتساله:
– من أي مدينة أنت؟
رد باحتفاء:
– من مدينة الجديدة؟
بابتسامة ردت:
– مدينة البحر.. كم أحب البحر.
ندمت على اندفاعها، صمتت فعقب قائلا:
– يبدو أنني أمام امرأة حالمة.
تداركت نفسها.. اعتذرت منه، ثم قالت:
– أعتذر يجب أن أعود للبيت.
ودون أن تنتظر جوابا غادرت، فوصلتها كلامته المستفسرة:
– كيف يمكنني رؤيتك؟
امتلكت الشجاعة لترفع يدها وتشكل أصابعها على شكل هاتف.. فاجأها تصرفها، لكنه أعجبها.
عادت للبيت اختلت بنفسها تسترجع ما حدث، محاولة فهمه، لكنها سرعان ما تذكرت حبات الزيتون المتراكمة في انتظار أن تزيل مرارتها. حملت عدتها ثم شرعت في كيل الضربات لها، وبين الحين والآخر يشرد ذهنها للحظات. ثم تنتبه لنفسها وقد توقفت عن العمل.. تبتسم، تتخلص من شرودها، فتستغرقها حبات الزيتون بكل كيانها، في انتظار مكالمة تنتظر رنينها بشوق لم تعهده في نفسها.
كاتب مغربي
جميل سردك با صطوف كما يحلو لي أن اناديك..