حبيبي

حجم الخط
1

بضفيرة شعره المنساب على كتفيه كانسياب الماء من شلال مرتفع؛ وهدوئه الذي يشبه سكون الواحات؛ وهندامه الشبابي الذي يبعث على الحياة؛ تجده دائما يوزع ابتسامة الصباح على رواد المقهى؛ وينثر التحية على الناس في كل مكان.
دوما على لسانه عبارته اللازمة «حبيبي» التي توارثتها الأجيال؛ وباتت علامة تميز الشاعر المغربي إدريس الملياني، الذي أتقاسم معه الزهرة التي منها نستنشق نسائم الإبداع؛ والحي الذي نسكنه معا وهو «حي الإنارة» في مدينة الدار البيضاء، الذي يجري حبه فينا مجرى الدم في العروق.
ثقيل كثقل فراشة؛ خفيف كـ(ديدالوس) لم تسعفه جناحاه لمعانقة كبد الشمس؛ لأنه يعرف أن الحقيقة باهظة الثمن؛ والقبض عليها مكلف؛ والتريث هو السبيل الوحيد لقطف ثمار المعرفة؛ ولهذا نجده مجددا في أفكاره؛ مطورا لمشاريعه الأدبية؛ يكتب في مجالات أدبية مختلفة؛ فبعدما أكد اسمه كشاعر في المشهد الثقافي، من خلال دواوينه «أزهار أولى» و»نشيد السمندل» و»بملء الصوت» و»زهرة الثلج» و»مغارة الريح» و»حدادا على» و»قيثارة القصب»؛ بدأ بتجديد أدواته وذلك بتنويع إبداعاته الأدبية؛ مرة يجرب الرواية في «كازانفا» و»الماتريوشكات» ومرة يقارع الروس في معتركهم الثقافي بإزاحة التراب عن الأدب الروسي بترجمات أنيقة فيها لمسة الشاعر المجرب؛ الذي عاش من الزمان في الاتحاد السوفييتي؛ حيث قرأنا له: «مذكرات من البيت الميت» لدوستويفسكي و»التراجيديات الصغيرة» لبوشكين.
ويمر الوقت معه كأنه ساعات مسروقة؛ يطويها الزمان طي رسالة تخبئها المتيمة بين نهديها؛ وعاشق مازالت رعشة أول قبلة على شفتيه ؛ تشعر به وكأنه قريب من كل الأجيال؛ بعبارته المعهودة (جَايْ لِينَا) التي تؤكد على أن روحه بكرٌ في عين النساء قبل الرجال؛ يتابع مباريات الدوري الإسباني؛ يشجع (البارصا) ضدا في ابنه الصغير «أيمن» الذي يعشق (الريال) ومن حين إلى آخر يقول له: (أسكت ألبرهُوش) بدعوى أنه يختلف معه في معشوقة الجماهير.
وعندما تحملني الأشواق إليه؛ أذهب إلى مقهى «كيوطو» أجده غائصا يكور ظهره في كرسي كبير في ركن المقهى المزدحمة بعدد كبير من الرواد؛ نساء ورجالا شيبا وشبابا؛ لا تعرف من يتكلم أو من يسمع؛ يكاد يكون لتصادم الأحاديث صليل السيوف؛ يتكئ على حافة النافذة؛ وحيدا لا أنيس له؛ إلا هاتفه المحمول الذي يدون فيه ما يخطر في باله من عبارات فنية وصور جمالية؛ مرة يصطاد بيتا شعريا وأخرى تجده يداعب مقاطع سردية تشعرك بأنه روائي ضل طريقه إلى الشعر. يترك هاتفه الخلوي جانبا ويقول لي عبارته المعهودة: (جيتي ألمسخوط) وهي عبارة اعتاد أن يسمعها مني؛ وعندما يقولها يضحك ملء فمه، بدون أن يثير اشمئزاز الحاضرين؛ يشير إليّ للجلوس على الكرسي المركون جهة القلب؛ ينادي على النادل؛ نتقاسم فنجاني قهوة سوداء وقنينتي ماء معدني، حقيقة نعرف متى يبدأ النقاش ولا ندري متى ينتهي؛ نتجاذب أطراف الحديث؛ يصيخ السمع يقضا كملاح في البحر، يتتبع تفاصيل الحكاية؛ يلتقط الكلمات ويستوعب معانيها؛ يطرح السؤال تلو الآخر؛ وكأنه تلميذ يتعلم أبجديات القراءة؛ وعندما يتكلم في الدين يخاله المرء فقيها زاهدا في الحياة؛ عالما بأصول الدين وعلوم اللغة والتفسير؛ يستحق الجنة ونعيمها؛ وعندما يتحدث عن الحداثة وما بعدها؛ يزيح عن رأسه عمامة الفقيه ويلبس قبعة المبدع المفكر؛ يتحول إلى ضليع في مناهج النقد والأدب؛ له آلياته ومناهجه النقدية القائمة على الشك والتفكيك. ولا ينتهي حديثنا إلا على سماع أصوات الكراسي تحتك مع الأرض؛ تأبى الابتعاد عن محيطنا؛ وكأنها تسترق السمع وتختطف الحرف من فمينا.

٭ كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الهام الغذاني:

    أقرأ…لا أعرف هل هذه قصة قصيرة أم سيرة غيرية…ومهما يكن…فالأسلوب رائع …وطريقة السرد والوصف تشعر القاري وكأنه قر يب من الحدث….فألف تحية للقاص المغربي محمد يوب.

اشترك في قائمتنا البريدية