حجب «الجزيرة» المحاولة الأبرز لإسكات الصوت الفلسطيني بالتزامن مع نذر التصعيد الشامل

سعيد أبو معلا
حجم الخط
0

رام الله ـ «القدس العربي»: ألقت كثافة الأحداث ودموية ما يجري في قطاع غزة والضفة ولبنان صداها على حادثة إغلاق مكتب قناة «الجزيرة» في الضفة الغربية، وهو الحدث الذي اكتمل بالتدريج بعد إغلاق المكتب في الداخل الفلسطيني المحتل وفي مدينة القدس، وهو مسار طويل تم التمهيد له بالقوانين الاحتلالية وأخيرا قوانين الاحتلال البريطاني.

وما كان لأحد أن يتوقع أن يتم إغلاق مكاتب قناة «الجزيرة» في فلسطين المحتلة، بهذه السلاسة والصمت الفلسطيني والعربي والعالمي، وهي الوسيلة الإعلامية العربية الأكبر والأكثر حضورا وتغطية.
وحسب مدير مكتب «الجزيرة» وكبير مراسليها الدكتور وليد العمري فإن الاستهداف ليس للجزيرة لوحدها، بل هو استهداف لكل الصحافة والصحافيين.
ويرى العمري أن الإغلاق جاء «في هذا التوقيت، في مرحلة تحمل نذر تصعيد قادم من سلطات الاحتلال وعصابات المستعمرين في الضفة الغربية، وفي الوقت الذي تتصاعد فيه الحرب في لبنان، والكل يعرف ما الذي يجري في قطاع غزة التي تعيش حرباً منذ نحو عام».
يتابع العمري في حديث خاص لـ«القدس العربي»: «هم استهدفوا الجزيرة الآن لأسباب عدة، من بينها: يريدون طمس الحقيقة وأن لا أحد يتعامل مع السردية أو الرواية الصحافية الفلسطينية، سواء الرواية التي هم يريدون من الإعلام أن يتعامل معها، ثانيا: استهدفوا الجزيرة في حكم كونها وسيلة إعلام عالمية وعربية مؤثرة، ذات مصداقية عالية، وأرادوا من خلال ذلك أن يخيفوا باقي وسائل الإعلام والصحافيين، فالجزيرة منتشرة في الأراضي الفلسطينية وهي المصدر الأول للأخبار والتغطية».
وفي جانب من استهداف «الجزيرة» يضيف: «جاء هذا الاستهداف في هذا الوقت أيضا، لأسباب داخلية إسرائيلية، فنتنياهو كان قد لام وزير الدفاع قبل أسبوعين في اجتماع، لأنه لم يعط الأمر لقائد الجيش في الضفة الغربية لإغلاق مكتب الجزيرة حتى الآن، وبعد أن تأزمت العلاقات غالانت وبين نتنياهو، حاول استرضاء نتنياهو، فسارع إلى إصدار هذا الأمر إلى قائد الجيش».
يذكر أن اللافت في قرار الإغلاق هو أنه اتخذ من قائد الجيش في الضفة الغربية، أو ما يعرف بقائد المنطقة الوسطى في الجيش، وهو القائد العسكري في الضفة الغربية تحديدا، كما أنه استند إلى قانون الطوارئ، من عهد الحكم والاستعمار البريطاني عام 1945.
ويرى العمري في ذلك إشارة إلى أنه ليس لديهم مبررات ولا مسوغات قانونية. ويبرر أيضاً أنهم أقدموا على أمر عسكري ضد وسيلة إعلام، والإقدام على إغلاق مكتبها في الضفة الغربية، وفي مناطق السلطة الفلسطينية تحديداً عاصمتها السياسية رام الله، وذلك كاستعراض لأغراض داخلية، لكن، على الأغلب أنهم فوجئوا بكل ما جرى، إذ كأن كل عملية مداهمتهم واقتحامهم لرام الله وللبناية التي تتواجد فيها «الجزيرة» وهو بناء السيتي سنتر، في شارع شيرين أبو عاقلة، وسط البلد، دوار المنارة، بهذه القوة الهائلة، فاجأهم كثيراً، وربما أربكهم بعض الشيء، لذلك أقدموا على مثل هذه الخطوة القاسية جداً، مصادرة معدات وكمبيوترات وأدوات تصوير ومونتاج وغيرها وهذا واضح أقل فيما يقال بأنه عدوان، ليس أكثر، ولا أقل.
وعما ستفعله «الجزيرة» في مواجهة هذا العدوان قال العمري: «الجزيرة تتحرك على المستوى القانوني، لديها طاقم محامين، بالتعاون مع منظمات حقوق الإنسان، ومنظمات حقوقية في إسرائيل، وكذلك اتحاد الصحافيين الأجانب، وجمعية الصحافيين والصحافيات الإسرائيليين، ومؤسسات إعلامية عالمية، والكثير جداً من المؤسسات التي تدافع عن حرية الإعلام».
ويكمل: «لدينا طاقم محامين يعمل من دون توقف، لقد أعد اعتراضاً، وطالب بإعادة المعدات وفتح المكتب من جديد، لكن، المشكلة نحن نتعامل مع حكم عسكري، والعنوان هو الحاكم العسكري، أو القائد العسكري الذي يقوم بذلك، لدينا تحركات على مستوى دولي عالية جداً، بهذا الخصوص، وهناك دائرة العلاقات الخارجية والإعلام في قناة الجزيرة، بدأت حملة واسعة جداً، وعشرات المقابلات مع كافة وسائل الإعلام العالمية، من أجل حشد هذا الدعم، وبيان الصورة الموجودة».
وأكمل «من الواضح أن ما جرى لنا في مكتب القدس الذي أغلقوه في الخامس من أيار/مايو الماضي، بخمسة وأربعين يوماً، بموجب قانون طوارئ إسرائيلي محدث، أطلقوا عليه اسم قانون الجزيرة، سموه خصوصاً ضد الإعلام الأجنبي، وتحديداً ضد قناة الجزيرة، ويقومون بتمديد الإغلاق كل 45 يوما من جديد، منذ الخامس من أيار/مايو الماضي، هذا متوقع أن يجري الآن أيضا، لأنهم يستندون إلى قانون طوارئ من أيام عهد بريطانيا الاستعمارية في فلسطين، وواضح أنهم لو كانت لديهم مسوغات قانونية لاختلف الأمر، على الأقل، لاتخذوا إجراءات قانونية في البداية، أما أن تكون مداهمة بهذه الطريقة الفجة، والشيطانية، فهذا مرفوض جداً، ونحن لا نستبعد على هذا الاحتلال أي شيء، خاصة وأنه يحاول من خلال إسكات أصوات الصحافة والصحافيين أن يمرر سياساته، وتحديداً، سياسة الصهيونية الدينية». وختم: «ليس هذا بالأمر الجديد، والأمر لن يتوقف عند شبكة الجزيرة، سيطال وسائل إعلام أخرى، بما فيها إسرائيلية، لأن من يحكم في إسرائيل اليوم هي عقلية الصهيونية الدينية المتطرفة جداً».

جزء من استهداف أوسع

عمر نزال، نائب نقيب الصحافيين الفلسطينيين يرى أن الإغلاق جاء في سياق تصاعد استهداف الاحتلال للصحافيين ووسائل الإعلام الفلسطينية، التي تكثفت منذ السابع من أكتوبر. فالاستهداف حسب نزال موجود قبل ذلك التاريخ، لكن منذ السابع من أكتوبر أخذ أشكالا وتجليات مختلفة ومتنوعة، من ضمنها حالات الاستشهاد، والاستهداف بالرصاص والقصف لمكاتب الصحافيين في غزة، والاستهدافات المتتالية أيضا في الضفة الغربية، وحالات الإغلاق لوسائل الإعلام.
وأكمل: «لقد شهدنا منذ السابع من أكتوبر حتى اليوم، إغلاق عدد من وسائل الإعلام، كان من ضمنها وكالة جي ميديا، وإذاعة محلية في الخليل، ومن ثم قناة الميادين، وقبل 4 شهور إغلاق مكتب قناة الجزيرة في الداخل المحتل، واليوم، هذا التطور الجديد في الوصول للضفة الغربية وإغلاق مكتبهم ومنع التغطية، وفي سياق نفس التوجهات، ربما المختلف هو الحالة المميزة التي تكونها قناة الجزيرة الأوسع تغطية، والتي تمتلك قدرات أكبر على التغطية الشاملة من خلال طواقمها الواسعة والمتعددة في الداخل والقدس والضفة الغربية، ووجود مراسلين تقريبا في جميع مدن الضفة، وبالتالي، هي قناة التي ربما الأكثر مشاهدة ومتابعة عن غيرها من القنوات، لجميع هذه الأسباب نعتبر الجزيرة حالة مميزة».
وينظر نزال إلى زاوية أخرى للمسألة، مفادها أن الإغلاق لوسيلة إعلامية مقرها وسط مدينة رام الله، (العاصمة السياسية) للسلطة الفلسطينية، التي من المفروض أنها تخضع للسيادة الفلسطينية ومرخصة من السلطة الفلسطينية، يجعل الحدث جزءا من سياق سياسي للقول للسلطة أنهم ليس باستطاعتهم أن يحكموا شيئا، وأن يد الاحتلال طويلة وقادرة أن تصل وهي التي تحدد من يعمل وكيف يعمل، سواء من مكاتب الإعلام، محلات الصرافة، وغيرها من المصالح المالية والاقتصادية المختلفة.
ويرى أن الهدف الأساسي هو محاولة تغييب الرواية الفلسطينية والصوت الفلسطيني، أو الصوت العربي الذي يغطي من وجهة نظر فلسطينية، والصوت المناهض لكذب وتضليل الاحتلال، الذي يمارسه على نطاق واسع، خاصة أن الجزيرة هي قناة تبث في كل العالم، ليس فقط للوطن العربي، إلى جانب قناة تبث في اللغة الإنكليزية بشكل أساسي، وبالتالي، هي فعلاً المحاولة الأوضح لإسكات وتغييب الرواية الفلسطينية حتى يبقى المجال خاليا للاحتلال ولكذبه وتضليله».
ورد نزال على ما جاء في كتاب الجيش الإسرائيلي الذي برر إغلاق القناة حيث كان هناك إشارة إلى أن «الجزيرة تضر بأمن إسرائيل» معتبرا أن هذه «كذبة كبرى».
وأضاف: «هذه ديباجة تستخدمها سلطات الاحتلال، عندما تأخذ أي قرار إداري، خاصة القرارات التي يأخذها بين قوسين (قائد المنطقة الوسطى) الذي تُصدر منه قرارات إدارية للاعتقال الإداري، قرارات الإغلاقات وكل القرارات التعسفية، دائماً ما يستخدم نفس الديباجة، والسؤال: ما علاقة ما تقوم به الجزيرة أو أي وسيلة إعلام أخرى بأمن الاحتلال؟ أو بالأمن القومي للاحتلال؟ وبالتالي هذه ديباجة كاذبة، مجرد خديعة لتضليل الناس، ومجرد فزاعة لتخويف الناس والصحافيين».
شاركنا نزال مخاوف أن يتمدد الاستهداف لقنوات أخرى، حيث أكد على صوابية هذه المخاوف، حيث قال: «سبق الجزيرة قناة الميادين، وجي ميديا، وربما يلحقها العديد من القنوات، سواء فلسطينية أو عربية أو حتى أجنبية، لمنع عملها، الاحتلال لا يوجد عنده خطوط حمراء خلال المعركة، هو يستهدف كل شيء، وبجميع الأدوات والأساليب والوقاحة والفظاظة، لأنه لم يعد يوجد من يحاسبه، لا سياسياً ولا أخلاقياً ولا قانونياً، بعدما سقطت كل المنظومة الدولية وفشلت وعجزت عن أن توفر حتى حماية للصحافيين الفلسطينيين، وبطبيعة الحال أيضاً للطواقم الطبية، وطواقم الإسعاف التي هي أيضاً كانت وما زالت مستهدفة بشكل أو بآخر».
وتابع: «السؤال الذي واجهني به كثيرون، وناقشني فيه أشخاص كثر، حول هل هذا الإغلاق مقدمة لما سيحدث في الضفة الغربية؟ وبالتالي هو استباق لتغييب التغطية عن الضفة الغربية، والمؤكد أن هذا وارد جدا، نحن نرى أن التصعيد الذي يحدث اليوم يقابله بعض التخفيف في غزة، فهناك تصعيد واسع في الشمال، وفي الضفة الغربية، ولا يمكن ان ننسى أن الجزيرة تمتلك مراسلين في كل أرجاء الضفة الغربية، وقاموا بالتغطية خلال الأسابيع الأخيرة بشكل واسع وشامل، حيث تواجدوا في جميع الاقتحامات والاجتياحات الإسرائيلية للمدن والمخيمات الفلسطينية، وبالتالي قد يكون ما حدث مقدمة لما سيحدث في الضفة الغربية، وبالتالي، هو محاولة لتغييب التغطية وتغييب أي شاهد على جرائم الاحتلال».

استعلاء ونشوة

برأي المختص بالإعلام الدكتور فريد أبو ظهير فإن إغلاق «الجزيرة» يظهر أن «القيادة الإسرائيلية تتخبط في قراراتها، صحيح أنها ذكية، وتدرس الأمور بدرجة عالية من الجدية، ولكنها تعيش في حالة الاستعلاء والنشوة بسبب القدرات العسكرية الهائلة من جهة، والقدرات السياسية التي تمكنت من التسبب في شلل العالم تجاه ما يجري في غزة (طبعا بدعم أمريكي غير محدود)».
ويضيف: «اليوم، تقوم دولة الاحتلال بإغلاق مكاتب الجزيرة في فلسطين، دون أي اعتبار للقيم الديمقراطية ومواثيق حقوق الإنسان التي تكفل حرية الصحافة وحرية التعبير. وهي ترى أن منطق القوة هو فقط المنطق الذي يحترمه العالم، وهو الذي يفرض نفسه على المجتمع الدولي».
ويعلق أبو ظهير على طبيعة فعل الإغلاق: «السلوك الذي نفذ به الجيش مسألة الإغلاق صبياني بكل ما في الكلمة من معنى، وهم يعلمون تماما أن هذه الصورة مؤثرة لدى الجماهير، وخاصة باتجاه سلبي نحو الاحتلال. ولكنهم مع ذلك لا يأبهون بهذه الصورة ولا بردود الفعل».
ويتابع: «سلوك الإسرائيليين تجاه الإعلام، وبالذات قناة الجزيرة، فضلا عن قتل أكثر من 165 صحافيا في غزة، يبتعد عن أية قيم ديمقراطية، بل أنه يوغل في السلطوية لدرجة أنه يدخل في إطار الدول الفاشية التي لا تتردد باتخاذ أية إجراءات قمعية بشكل يتحلل من كل القوانين والقيم الإنسانية والسماوية».
ويرى ما من شك سيكون لخطوة إغلاق قناة «الجزيرة» تأثير سلبي على الصحافي الفلسطيني وعلى وسائل الإعلام الفلسطيني. وهو بالتأكيد سيُحفر في الذاكرة، ولن يغيب عن بال الصحافي مثل هذه الإجراءات خلال قيامه بعمله في تغطية الأحداث، كما أنه سيخلق نوعا من الرقابة الذاتية، بل ويحد من أية تغطيات إعلامية قد تثير سخط الإسرائيليين، وستكون هناك فجوة كبيرة بين ما يُنشر، وما يجب أن يُنشر ويبث من مواد إعلامية.
لكنه يستطرد قائلا: «إغلاق وسائل الإعلام، وجميع الأدوات المستخدمة للحد من نشر المعلومات لن تفلح أبدا. يوجد اليوم عشرات آلاف المواقع، وملايين المغردين على وسائل الإعلام، الذين ينشرون كل ما يجري في كل مكان. صحيح أن الإجراءات الإسرائيلية قد تخلق نوعا من الرقابة الذاتية على الصحافي، ولكن الفضاء الإعلامي اليوم لا حدود له، ولا يمكن إغلاقه أمام الجماهير حول العالم».

ثلاث دلالات

بدوره يقرأ الأكاديمي والمحاضر في قسم الإعلام بجامعة الخليل صلاح أبو الحسن مشهد إغلاق مكتب «الجزيرة» في الضفة الغربية بإنه يحمل ثلاث دلالات مرتبطة ببعضها البعض، الأولى، مشهد غير منفصل عن المنع في الداخل المحتل، وهو جزء من جنوح الاحتلال نحو الديكتاتورية التي تؤشر على ثيوقراطية ديكتاتورية قومية، وهو ملاحظ في موضوع القوانين التي تسن في إسرائيل والخلافات الحادة حول القضاء والمحكمة العليا، فالإغلاق يسير بذات الاتجاه من سياسات القمع.
أما الدلالة الثانية حسب أبو الحسن، فأساسها أن تغطية الجزيرة أزعجت إسرائيل وكل أصدقاء إسرائيل في العالم، من ناحية طبيعة التغطية ومستواها ومجالاتها، فالقناة قامت بدور مهم في السردية الفلسطينية، وفي الرواية المغايرة للرواية الإسرائيلية أو الغربية عموما. أما الدلالة الثالثة فأساسها أن الجزيرة تبنت رواية الفلسطيني المقاوم، الذي يتصدى للاحتلال والظلم والبطش، وهي رواية تقاوم الظلم وفرض الهيمنة، وتعمل على تحرير العقل من اليأس والاستسلام، وهذا كفيل بأن يجلب نحوها الغضب وكل محاولات الاسكات.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية