حديث في النحو العربي: اختلاف المذاهب والمدارس اللغوية

حجم الخط
1

تثار بين حين وآخر قضية شغلت المهتمين بنحو العربية وقتاً طويلاً، ألا وهي تيسير النحو، وهذه المسألة تثار ويكثر الجدل والقول فيها، ثم تهدأ الضجة لتعود ثانية، وليس ثمة في الأفق القريب أو حتى الأفق البعيد، ما يشير إلى حدوث جديد في الأمر، سوى بعض المقررات التي تصدرها مجامع اللغة العربية ومن ذلك ـ مثلاً – قرار المجمع اللغوي بأخذه بالمذهب الكوفي، وتحديداً بلغة بني أسد، في إلحاق تاء التأنيث جوازاً بكلمة (سكرانة) ونظيراتها، إذ قرر المجمع في مؤتمر الدورة الثانية والثلاثين المنعقد في بغداد سنة 1965، ووافق عليه أغلب المؤتمرين: «إن تأنيث (فعلان) بالتاء لغة في بني أسد كما في «الصحاح» إسماعيل الجوهري (393هـ) أو لغة بني أسد كما في «المخصص» لأبي الحسن علي بن إسماعيل النحوي اللغوي الأندلسي المعروف بابن سيده المتوفى عام (458 هـ) وقياس هذه اللغة صرفها في النكرة، كما جاء في «المفصل» لابن يعيش (643 هـ) والناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ، وإن كان غير ما جاء به خيراً، كما في قول أبي الفتح عثمان بن جني (392 هـ) لذا يجوز أن يقال (عطشانة) و(غضبانة) وأشباههما ومن ثم يصرف (فعلان) وصفا، ويجمع (فعلان) ومؤنثه (فعلانة) جمع تصحيح».
لقد أثار ابن مضاء اللخمي القرطبي (592هـ) دعوته إلى تيسير نحو العربية من خلال كتابه الرائد في هذا الباب «الرد على النحاة» الذي حققه شوقي ضيف، ولعل آراء ابن مضاء الواردة في كتابه هذا، ناتجة عن اعتناقه للمذهب الظاهري، الذي جاء به الأديب ابن حزم الأندلسي (536 هـ) الذي كان فاشياً في دول المغرب والأندلس، أيام الموحدين، وخوضهم الحروب ضد دولة المرابطين، ومن ثم إسقاطها، إذ كان ابن مضاء رئيس القضاة في ذلك الوقت.
إن قوله بالمذهب الظاهري، الذي ينكر كل العلل والأقيسة الفقهية، قد دفعه إلى إنكار هذه العلل النحوية، ولاسيما (نظرية العامل) فهو يقول: «قصدي في هذا الكتاب أن أحذف من النحو ما يستغني النحوي عنه، وأنبه على ما أجمعوا على الخطأ فيه، فمن ذلك ادعاؤهم إن النصب والخفض (أي الجر بلغة الكوفيين) والجزم لا يكون إلا بعامل لفظي، وإن الرفع فيها يكون بعامل لفظي وبعامل معنوي».
ثم يتناول (باب التنازع في العمل) مثل باب الفاعلين والمفعولين اللذين كل واحد منهما يفعل بفاعله مثل ما يفعل به الآخر، ويناقش ـ كذلك- باب الاشتغال وهو من الأبواب التي يظن أنها تعسر على من أراد تفهيمها أو تفهمها، لأنها موضع عامل ومعمول، ولا داعية ليِّ إلى إنكار العامل والمعمول، باب اشتغال الفعل عن مفعوله بضميره، مثل قولنا: زيداً ضربته، إلى غير ذلك من الآراء المبثوثة في كتابه، والتي كانت تمرداً على كل ما جاء عن المشارقة نحواً أو فقهاً، وغير خاف على الدارسين الجادين، ما فعله يعقوب بن يوسف بن تاشفين بكتب المذاهب الأربعة، إذ أحرقها مدعياً أن فيها الكثير من التأويل، تأويل النص القرآني لكي يتوافق مع آراء الفقهاء الأربعة، أبي حنيفة النعمان بن ثابت ومالك، وأحمد بن حنبل، والشافعي، إيماناً بمذهب ابن حزم الأندلسي، الآخذ بالظاهر، ظاهر النص القرآني.

‏شوقي ضيف

لقد شهد عقد الثلاثين من القرن العشرين، ظهور هذه الآراء النحوية من جديد، التي ظلت تعتمل طوال تلك القرون في وجدان بعض النحاة وعقولهم، ظهرت ثانية على يد المرحوم إبراهيم مصطفى (1962) الذي أودع آراءه في نحو التيسير، أو تيسير النحو كتابه المهم «إحياء النحو» الذي قرأته سنة 1974، والذي قدم له طه حسين (1973) ومن ثم ألف مهدي المخزومي كتابين يدرسان هذه القضية هما: «في النحو العربي. نقد وتوجيه» و»في النحو العربي. قواعد وتطبيق» ومن ثم أصدر أحمد عبد الستار الجواري سنة 1962 كتابه «نحو التيسير» أردفه عام 1394 هـ 1974م بكتابيه اللذين أصدرهما المجمع العلمي العراقي وهما: «نحو القرآن» و»نحو الفعل» وكل هذه الكتب تصب في هذا السبيل، وأرى أن لو لم ينشغل الجواري بالسياسة، وانتخابات نقابة المعلمين في (قائمة الجبهة التعليمية) والوزارة، لقدم للدرس الجامعي الجاد فتوحات وفتوحات، هو الذي درس الشعر في بغداد، والأمر يشمل أول دارس أنثروبولوجي في العراق شاكر مصطفى سليم (1984)!
أما في باب اللغة فثمة كتاب «علم اللغة» لعلي عبد الواحد وافي، فضلاً عن كتابات إبراهيم أنيس ومنها كتابه «من أسرار اللغة» وإن كنت أقف حيال كتاباته، موقف الحذر المستوفز، لما تحمله من آراء هي أقرب إلى الدس على العربية وتشويه صورتها!
أخلص من هذا الحديث، إلى أنه على الرغم من كل هذا الذي كتب، لم يحدث تغيير في سبيل الدراسة النحوية، وإن كنت لا أميل إلى المغالاة في هذا التغيير، صحيح أن ثمة الكثير من الأمور التي يجب تجاوزها، وصرف النظر عنها، لكن من غير غلو واعتساف – كما قلت – ففي كتب النحو الكثير من الأمور السلبية، مثال ذلك اعتماد النحاة على الشعر القديم، الذي لا يعرف قائله، ولعل النحاة هم الذين وضعوها، والأراجيز، أمثال أراجيز العجاج وابنه رؤبة، وجعلها الشاهد النحوي، مع إن نظرة فاحصة إلى هذا الواقع تدلنا إلى إن الشعر لا يمكن أن يكون الأساس الوحيد المعول عليه، لأن في الشعر ضرورات تقتضيها القافية وحركة الروي ويمليها الوزن، فضلاً عن أن الكثير من هذا الشعر، الشاهد النحوي، لا ينسب إلى قائل معين ومعروف، ومن رجع إلى مصنفات النحويين لجابهه هذا الأمر.
ثم إن الكثير من النحويين المتقدمين، قد حاولوا ركوب المركب الأصعب في بسط الموضوعات، وغير خاف على الدارسين، ما ذكره أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في كتابه «الحيوان» إذ قال لأبي الحسن سعيد بن مسعدة؛ الأخفش الأوسط (أنت أعلم الناس بالنحو، فلم لا تجعل كتبك مفهومة كلها؟ وما بالنا نفهم بعضها، قال: أنا رجل لم أضع كتبي هذه لله، وهي ليست من كتب الدين، ولو وضعتها هذا الوضع الذي تدعوني إليه قلّت حاجتهم إليّ فيها، وإنما قد كسبت في هذا التدبير، إذ كنت إلى التكسب ذهبت».
ولو كان هذا القول قد صدر عن غير الجاحظ لوقفت منه موقف الشك والارتياب، فلعله ينحل الأخفش الأوسط قولاً لم يقله، لكن الجاحظ شخص ثقة، ما يدعونا إلى الأخذ بهذا الذي ينقله الأخفش.

أما في باب اللغة فثمة كتاب «علم اللغة» لعلي عبد الواحد وافي، فضلاً عن كتابات إبراهيم أنيس ومنها كتابه «من أسرار اللغة» وإن كنت أقف حيال كتاباته، موقف الحذر المستوفز، لما تحمله من آراء هي أقرب إلى الدس على العربية وتشويه صورتها!

وثمة القضية الثانية، ألا وهي كثرة الاختلافات وظهور المدارس النحوية، مع إن ثمة من الدارسين من ينكر هذه المدارس النحوية، فهذه مدرسة البصرة النحوية، ورأسها سيبويه، وتلك مدرسة الكوفة وعميدها الكسائي، والأخريات مدرسة الموصل وعنوانها ابن جني، ومصر والأندلس، ولعل هناك من يرى إن هذه الكثرة دليل صحة، فهي تدل على حيوية العقل العربي، واتساع أفقه، مع أني أرى أنها قد أتعبت عقول الدارسين، ومن يرجع إلى كتاب «الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين» للأنباري، يجد مصداق قولي، فالكتاب حافل بقواعد أصولية عامة، إلى جانب المسائل الكثيرة التي يقود إليها الاستطراد، أما الشواهد النحوية وكثرتها فحدث ولا حرج، إذ هي عمدة كل فريق في نصرة ما يذهب إليه.

ومسألة أخرى وهي مسألة المتون التي أفاض البعض في شرحها والإسهاب في إيراد التعليقات عليها، إلى الحد الذي يكاد المتن يضيع في ثناياها مثال ذلك: كتاب «شرح التصريح» للشيخ خالد بن عبد الله الأزهري، على «التوضيح لألفية ابن مالك» للشيخ الإمام العلامة جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل وضع في هامش الكتاب، حاشية الشيخ ياسين بن زين الدين العليمي الحمصي، وصدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام 1313 هجرية عن المطبعة الأزهرية.
أما ألفية ابن مالك فقد كتبت عنها مجموعة من الشروح، منها لابنه الذي يطلق عليه اسم (ابن الناظم) ومنها لابن هشام الأنصاري، وابن عقيل، وهذا الأخير شرحه المرحوم أبو رجاء محمد محيي الدين عبد الحميد ونشره، «وما من ريب – كما قال شوقي ضيف في مقدمته لتحقيق كتاب «الرد على النحاة» لابن مضاء اللخمي القرطبي- في أن من يقرأ كتاباً مطولاً في النحو، كشرح السيرافي على كتاب سيبويه، أو شرح أبي حيان (النحوي وهو غير أبي حيان التوحيدي، ولخديجة الحديثي دراسة قيمة عنه، نالت عنه وبها شهادة الدكتوراه في النحو من القاهرة) على كتاب التسهيل، يحس بأن النحاة أفسدوا النحو بكثرة ما وضعوا فيه من فروع وعلل وأقيسة ومسائل غير عملية».
إن المسألة النحوية من المسائل الحساسة والحيوية، بل إنها تدخل في باب المقدس من تراث الأمة، ذلك أنها تحايث إحدى السمات المركزية لإنساننا العربي، ألا وهي لغته التي هي لغة القرآن الكريم، لذا يجب أن نمحص ما نقول، وندقق في الرأي الذي نعلن، فالمسألة ليست من اليسر، بحيث يطلق الكلام على عواهنه بعض الأحيان، وأرى أننا يجب أن نؤكد مباحث النحو المهمة – وليست ثمة مباحث غير مهمة – لكن الذي أعنيه، تلك التي تستعمل في حياة الناس الاعتيادية، والتي تسمى بـ(النحو الوظيفي) التي إن استوعبها الطالب، يصبح بمكنته أن يقرأ قراءة صحيحة، ويكتب كذلك، والاهتمام بتدريب الذائقة السمعية للمتلقي، إلى الحد الذي يضحى في إمكانه الإشارة إلى الخطأ الحاصل، شأنه شأن صاحب الأذن الموسيقية، التي تهتدي إلى الخطأ والنشاز في التفاعيل العروضية للشعر، وهذا يفرض علينا الاهتمام بلغة المذيعين في الإذاعة والتلفزيون، لهذين الجهازين الإعلاميين الأثر الأكبر في بلورة الأذن التي تميز الخطأ عن الصواب.
لقد أكد أساتذتنا مباحث بعينها تلك التي تستعمل بكثرة في الحياة العملية، أمثال الأفعال والمفاعيل وكان وأخواتها، وإن وأخواتها والأعداد والحال، ولقد كان أستاذنا إبراهيم الوائلي (نيسان/إبريل 1988) يؤكد ضرورة استيعاب مبحث الحال، وقد تأكدنا- في ما بعد- من أهمية هذا المبحث النحوي في حياتنا العملية والوظيفية.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حسين من العراق:

    أحسنت استاذ شكيب، الكاتب والناقد العراقي القدير. مقالة رائعة، كنتَ موفقا فيها تماما.

اشترك في قائمتنا البريدية