مرت السينما الفلسطينية في أكثر من مرحلة كانت انعكاساً سينمائياً لواقع انقلابي جديد في الحركة الوطنية الفلسطينية، وأبرز هذه الانقلابات في الحركة وفي السينما، كان عام 1982، بما يمثله من أفول للثورة، ودخول في نهج تصالحي سعت إليه قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، أودى أخيراً إلى اتفاقيات أوسلو وكوارث أخرى تلتها.. خرج الفلسطينيون هذا العام من بيروت، تلاشت تدريجياً من بعدها صورة الفدائي وحقيقته، التي كانت أساس الصناعة البصرية والسينمائية للفلسطينيين، خسر الفلسطينيون قواعدهم السينمائية كما خسروا قواعدهم العسكرية، وما بينهما من قواعد عمل إنساني ومهني وإعلامي وغيرها. في هذا السياق التاريخي للفلسطينيين، أفلت مرحلة سينمائية تميزت بشكل وموضوع خاصين، وبرز بطيئاً وتصاعدياً، نوع آخر لم يطُل رغم نضوج بعض أفلامه، إذ تغير هو الآخر مع العام ألفين، ولا أقول انقلب.
انتقل الفلسطينيون مع العام الانقلابي 82، من السينما النضالية كنوع سينمائي واعٍ لذاته شكلاً وأسلوباً، إلى سينما تبحث عن الضائع في صورة الفلسطيني الذي تشتت في البحار وبين البلدان، مبتعداً عن بلده مكاناً وأملاً وسلاحاً. كانت السينما قبلها أداة للنضال، كانت كفاحاً مسلحاً، مطمئنةً في العلاقة مع المكان الفلسطيني من خارجه، صارت السينما توثيقاً قلِقاً في العلاقة مع المكان ذاته من داخله، ولكل من النوعين ميزاته وسياقاته وأسبابه وأساليبه وقصصه وشخصياته.
ارتفع الفيلم النضالي بالثورة الفلسطينية ورفعها، حاول الفيلم الوثائقي بعد العام الانقلابي لملمة نثار الثورة، وترميم الحكاية بما بعد الانهيار. لحقتها أفلام روائية استغرقت وقتاً وكانت أكثر نضجاً، قبل أن تتغير هذه السينما مجدداً إنما بصورة تدريجية لا انقلابية، غير منقطعة مع أفلام الثمانينيات والتسعينيات، إنما مستحدَثة منها، وهو ما بقي مستمراً إلى يومنا هذا، بتغييرات وتنويعات وتنميطات متدرجة ومتفاوتة.
هذا كله جعل من عام 82 انقلابياً في هذه السينما، ما لحقه قطع شكلاً وأسلوباً مع ما سبقه، ولا يصح المقارنة بينهما بالخلط في سياق كل منهما التاريخي. فلم تكن أفلام الثورة كما يردد البعض بجهلٍ بين، دعائية أو شعاراتية، في أفلام معروف نوعها في كل العالم، سينما نضالية تتقصد عناصر مكونة لها من الإخبار إلى التحليل إلى التحريض، ولن تكون نضالية ما لم تكن كذلك، هي ليست تسجيلية، بل هي فرع من التسجيلي/ الوثائقي. وهي مرتبطة دائماً بحركة ثورية تكون حركة تحرير وطني ضد مستعمِر أو اجتماعي ضد طبقة. لها معاييرها الخاصة ولا تُقاس بغيرها.
أفُل هذا النوع السينمائي بأفول الثورة، وظهر آخر بحلول راهن فلسطيني جديد قد يكون توصيفه الأبرز أنه انهياري، لما شملته الثمانينيات من تشتت ومجازر وضياع وجودي وسياسي واجتماعي، هو ما انتشلت انتفاضة الحجارة، الفلسطينيين منه لتنتعش نسبياً السينما الفلسطينية من بعدها، رغم ضربة سريعة في الحركة الوطنية الفلسطينية كانت باتفاقيات أوسلو، بانت تبعاتها مع السنوات. سينما هذه المرحلة كانت ضائعة بضياع سياقها التاريخي، وثائقيات ثمانينياتية صورت المأساة المستجدة للفلسطيني، من داخل فلسطين ومن خارجها. هذه الصورة الانهيارية للفلسطيني، سيطرت على عموم السينما الوثائقية تحديداً، بانسجام مع، بل بانعكاس لحال الحركة الوطنية الفلسطينية.
هذا الانقلاب في صورة الفلسطيني، في الشخصية الفلسطينية، في السينما الفلسطينية شكلاً وموضوعاً، خصص له مهرجان «أيام فلسطين السينمائية» في دورته الحالية، التاسعة، برنامجاً موازياً عنونَه بـ»حديث لذاكرة بصرية» يشمل عروضاً لأفلام هي «وطن الأسلاك الشائكة» لقيس الزبيدي، و»حروب صغيرة» لمارون بغدادي، و»بيروت جيل الحرب» لجان شمعون ومي المصري، و»رائحة الجنة» لعمر أميرالاي. تنقل لحظة الانقلاب في تلك الصورة، مقدمةً سياقاً تاريخياً لمخرجين عرب شاركوا الفلسطينيين ثورتهم وسينماهم، بصفتها نظرة مقربة ودقيقة، وهي خارجية بقدر ما هي داخلية، لتلك اللحظة. كما شمل البرنامج ندوات بمحاور تتناول الذاكرة البصرية الفلسطينية، وتغير صور الفلسطينيين في السينما ما قبل الخروج من بيروت وما بعده، إضافة إلى كتيب فني، وكتاب «فلسطين في السينما» لوليد شميط وغي هينبل، المرجعي والأشمل باللغة العربية لسينما ما قبل انقلاب الصورة والخروج من بيروت.