سواء بشكله البسيط كفراق بين حبيبين يستحيل ردمُ فجوته باللقاء، أو بشكله المعقّد كفجيعةٍ تنتهي بموتِ طرفٍ أول يعيش الثاني على أثره استحالة إحيائه له؛ يتجسّدُ حلم الفقد أو كابوسه المشترك بين جميع البشر تقريباً، بأشكالٍ يكادُ مجازها أن يكون واحداً في معانيه التي تحمل كلمة الفشل في عملية اللقاء تحت مرمى الرؤية والسمع. مثلُ أنْ يجد المصاب نفسه مع الطرف الذي غاب، يدخلان بيتاً، غير أن أحدهما يُستدعى إلى غرفة ويدخل الآخر غرفةً أخرى لا يجد فيها باب الخروج. ومثلُ أنْ يجد نفسه مع طرفه الغائب يوقفان سيارة أجرةٍ لا تتسع إلا لواحد منهما مع وعد أن يتبعه في السيارة التالية التي لا تأتي إلى نقطة الوصول. ومثل أنْ يجد المصاب نفسه، وهو الأشهر بين الأحلام والكوابيس، في شارعٍ يسير فيه للقاء طرفه الغائب في الشارع المفضّل الذي يشكّل مخزن ذكرياته عنه. لكنّ الشارع يلتفُّ موازياً من دون مفرق أو منفذ إلى الآخر رغم أنه يراه بقربه ويسمع أصوات الناس فيه، وتثير استحالة المنفذ فيه الإحباطَ والجنونَ والانغلاق، كما يحدث في رواية المصري محمد الفخراني الجديدة «حدَث في شارعي المفضَّل»، حيث:
«اختفى الشارع المفضل لكلّ شخص./ شارعي المفضّل كان بوسط المدينة، حاولتُ الوصول إليه من ممرّاتٍ جانبيةٍ، وشوارعَ مجاورةٍ له أو متقاطعةٍ معه، وفي كل مرّة عند النقطة التي يُفترض أن أدخلَه منها أجد نفسي في شارعٍ آخرَ قريب، جرّبتُ بالليل والنهار ولم أصلْ، في الوقت نفسه كنتُ أشعر أنه لا يزال موجوداً بالجوار ويراني، أقصد أنه بمكانه، لكني لا أستطيع رؤيته ولا يمكنني الوصول إليه».
وكما هو طبيعيّ في علاقة الفن مع الواقع والأحلام، يعالج فن الرواية هذا الحلم أو الكابوس بمختلف المعاني والأشكال التي تتضمنها محاولات التحليل النفسي جعل المُصاب يواجه حقيقة الصدمة التي جرتْ وأنتجتْ هذا الحلم الذي يتحوّل إلى إحباط يعزل المصاب عن العالم. ويصل في قوته إلى موت العالم المحيط بالمصاب وشلله عن أيّ فعل؛ بغاية مساعدة القارئ في النهاية على مواجهة قدر الموت والتشافي من صدمة الفقد.
وتصعب معالجة الروايات الجديدة لهذا النوع الشائك والحافل بمختلف المعالجات التي تتناول حالات صدمات البشر المنصوصُ في خوارزميتهم قَدَرُ الفقد، من جهة الاعتياد وخطورة التكرار على الرواية. ومن الجهة الأخطر التي يواجه فيها الروائي عادات ومعتقدات مواجهة الموت، بعزاء تصوّر انتقال الغائب الديني إلى عالم الفردوس، والارتياح الذي يُسَكّن جحيم التساؤلات بهذا العزاء.
في اختراق المعتاد من العزاء الذي لم يعد عزاءً أمامَ الاكتشافات المثيرة للشك به؛ وابتكار العزاء المتوافق مع عصر فتوحات العلم لإراحة الإنسان، تأتي رواية الفخراني بارزةً بقوّة لا يخطئ القارئ بالمراهنة على قفزِها إلى مكانة الأعمال الجديدة المتداخلة بكشوفات وشطح ميكانيكا الكم، من جهة تداخل عوالمها الموازية معها بوضوحٍ. مثل العمل السينمائي «كل شيء، في كل مكانٍ، وفي وقت واحد» الذي فاز عام 2023 بسبع جوائز أوسكار على هذا التداخل الصانع بأكوانه المتوازية لمختلف أشكال الغنى الفني. وربّما لا يُخطئ القارئ كذلك في توقّعه التركيزَ على تداخلها إن لم تتمّ مضاهاتُها، بعد سبر عوالمها من النقد الكاشف، بأعمالٍ ضخمةٍ مثل رواية خوان رولفو المذهلة «بيدرو بارامو» التي يداخل فيها عالم الأموات والأحياء بفانتازيا مثيرةٍ للتفاعل والإعجاب. ومثل رواية الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري «الأمير الصغير»، الأقرب في عالم كوكبه الصغير إلى عوالمها المبتكرة للبيت الطيني الباقي من الأرض المنهارة مماثَلةً بهذا الكوكب.
ولن يثير استغراباً ربّما، تصويرُ تداخلها بأعمالٍ تتناول غرائبَ «الحبّ في زمن الكوليرا» على سبيل المثال، وأعمالٍ تتناول مسألة أكل الإنسان للإنسان مثل عمل بيار باولو بازوليني الذي يرعبنا قول بطله: «أنا قتلت والدي، وأكلت لحم إنسان، وإني لأرتعش متعةً».
اختلافات مثيرة للتساؤلات:
في زمن انهيار الأرض وابتلاع موجوداتها في جوفها أو في بطن فراغ لا يُدرك البشر ماهيّته، وإن كانوا يعرفون بالإحساس أن إهمالها وحروبهم هي سبب هذا الانهيار؛ وفي ظلّ غرائبيتها التي يمكن أن تدفع البعض إلى تصنيفها تحت أعمال الفانتازيا/ العميقة في كل الأحوال؛ يتجلّى اختلاف ما «حدث في شارعي المفضّل» عن المعتاد من الروايات الحديثة، بميّزة أولى هي: اختيار الفخراني للكائن الأخير الباقي على الأرض، والمنوط به إعادتها، امرأة، لا تكون بطلة الرواية وعالمها فحسب، وإنما كذلك قائدة منظومة السّرد الوحيدة فيها. بصيغة المتكلّمة الراوية لأحداث انهيار الأرض وعودتها، كوعاء أكبر لانهيار حالة فقد حبيبٍ خاصةٍ تكشف الروايةُ في نهايتها ماهيته، وماهية حالة الفقد، دون ضياع الوعاء الأكبر ودون انغلاق الرواية على هذه الحالة.
ويلمس القارئ من رسم تفاصيل الفخراني لهذه الشخصية الوحيدة المتعدّدة ذواتُها، الإجاباتِ على تساؤلاته حول اختيار المرأة، من خلال تصويره مدى التماثل بينها وبين الأرض، من جهة تماثل رائحتيهما، ويسميها حبيبها لهذا «الأرضية»، وتصويره لطبيعة المرأة الطقسية المتمهّلة وغير المستعجلة في إنجاز الأعمال. وتماثل هذا الإنجاز بعملية الخلق التي يزوّد الفخراني قارئه بالإشارات عنها، مثل قيامها باستخراج الزيت من ثمار شجرة الزيتون بستّة أيام، ومثل تكراره لعبارة، «متحمسةً، متمهلةً وغير مستعجلةٍ»، حيث يعلم القارئ المجرّب مدى دقة المرأة في إنجاز الأعمال ببطء وسياديةٍ، تشمل ممارسات الحب المقادة المنجزة بطقسيةٍ تُميّزها عن سرعة الرجل.
كما يتجلّى اختلاف هذه الرواية عن المعتاد، بميّزة ثانية نادرة في عالم الرواية، العربية على الأقل، هي صياغة الرواية بعمقِ وجرأةِ التداخل مع مكتشفات وفلسفة العلم دون الوقوع في فخ الشرح والتفسير العلمي. وبما يسير طبيعياً مع موضوع وأحداث وشخصيات الرواية، لكنه يفصح في ذات الوقت عن هذا التداخل، بإحساس القارئ حتّى لو لم يكن مطّلعاً على تفاصيلٍ مكتشفات ميكانيكا الكم. وممارسةِ تطبيقاتها التي تتكشف في الرواية مثل طيران البطلة بكُرتِها والنظر إلى الأرض من الأعلى كما لو كانت من الأقمار الصناعية العاملة على تحديد الأماكن بدقة رصد الأماكن بواسطة الجي بي إس. ومثل تمنّيات وتوقّعات الوصول إلى صناعة الكمبيوتر الكمومي، والتلسكوب الذي يمكِّننا من معرفة لحظة بداية الأرض، بداية الكون، وإغناء ذلك بالتداخل مع نوريات التراث القرآني الموجودة في سورة النور، حيث: «مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ». وحيث تتوصل الباقية الأخيرة على الأرض إلى: «بيننا وبين لحظة البداية شيء مشترك… أحب أن أسميها نور البداية… وكلها نور».
وأكثر من ذلك معالجة الزمن وفق مفهوم الكمومية عن وحدة الزمن وتشابكه ماضياً وحاضراً ومستقبلاً دون جريان مستقيم، بذات الوقت في البيت الطيني المتبقي على الأرض، حيث تسرد المرأة الباقية: «دخلت وشعرتُ أني كنت «هنا» من قبل، أو أني «هنا» أو سأكون «هنا»، أو الثلاثة معاً، وتنام في الوضع الجنيني الذي لا يجري فيه الزمن بوعي للجنين؛ مع تطبيق ذلك على انتقالها بالعمر بين ماضي فتاة الثانية والعشرين وامرأة الحاضر وعجوز الخامسة والثمانين بوقت واحد في تداخل العوالم الموازية.
وكذلك معالجة وجود الحبيب الرسام الغائب، بمفهوم نظرية الشقّ المزدوج وعين المراقب، إذ يختفي الرسام الذي تلمحه على غصن شجرة الزيتون حال النظر إليه، حيث: «توقفتُ عن الحركة، ولم أحوّل وجهي ناحيته، سيختفي لو فعلت، تعرفون ذلك، ابتسمت مع نفسي، أعرف أنه يرسمني، وعرفت في تلك اللحظة أني حصلت على الأثر الأنيق».
وكذلك التقاط تمظهرات فلسفة الكمّ في حياتنا: داخل وخارج الحلم في آن واحد، حيث: «أمشي الآن في أحد خطوطها كأني أكمل المشي داخل حلمي، وفي الوقت نفسه أمشي خارجه».
وفي رقصة الكرة، حيث: «رأيت خيطها يطير في الهواء على شكل موجةٍ». ووصول ذلك إلى رسم علاقة شخصية الراوية كمذيعة والصوت، بتحوّله إلى صورةٍ وبصمةٍ للشخص وصورته، حيث تتشكل الصورة من إحساسها بالكلمة وإيقاعها الداخلي الخفي والخارجي ومن إيقاع كل حرف بذاته ومع شركائه في الكلمة، بمشابكة الروابط كما لو كانت ذكاءً اصطناعياً. وختام ذلك، بافتراض العوالم الموازية، حيث: «أحياناً تكون الصورة التي أتخيلها قريبة من الأصل… لن أتمادى وأقول إنها ربما تكون الأصل نفسه في حياة أخرى».
وفي اختلافها عن المعتاد كذلك تبرز مزايا أخرى، غير منظورةٍ في الرواية، يأتي في مقدمتها التداخل الذي تم ذكره مع رواية «الأمير الصغير»، بإبداعية الحفاظ على خصوصيتها. وابتكار ثيمة «الشارع المفضل» المتشابكة مع انهيار الأرض داخل المصاب بفجيعة الفقد، والسمو، في تشابك أخاذ، بهذه الفجيعة إلى فجيعة المستقبل بفقد أرضنا أو انتقامها من أفعالنا المدمّرة لها، وصناعةِ الأمل بإعادتها لنا وإعادتنا إليها من خلال المرأة/ شبيهتِها ورسولتها لبشريتنا الضائعة.
وقد يصحّ ختام المزايا بشاعرية الرواية غير المعتادة من خلال اعتماد أسلوبية قصيدة نثر ما بعد الحداثة، مثل ما يجري في سرد المرأة الناجية الوحيدة لقصة تضحية الحبيب وطلبه منها، لكي تتجنب فناء الجوع، أن تأكل قلبه. وإكمالها التشويقي عن مآل أكل القلب بعصيانها لطلبه مهما كان جوعها، ودفن قلبه تحت شجرة الزيتون التي تُسقِط ثمرتَها في القلب، وتمنحَها ثمارها. وكذلك سردُها لاختفاء وعودة الألوان والنوافذ، وللمرئيِّ واللامرئيِّ في حياة البشر البسطاء الذين: «يعثرون لأنفسهم على خيط ما، ويجعلون الشوارعَ أكثر جمالاً وحياةً، لا يعترضون حياة أحدٍ، لا يكّلفون العالم شيئاً، فقط مساحة من الأرض بحجم أقدامهم».
كما يصحّ في ختام هذه المزايا ذِكر تأكيد الرواية على جانب تشافي الأرض بتأكيد الجانب الطيّب الإنساني داخل الوحش، حيث: «في الأوقات الأخيرة، والأعداد الأخيرة من الوجود البشريّ على الأرض، رأيتُ مجموعةً من البشر يقفون محاصرين في مساحةٍ بحجم غرفةٍ عاديةٍ يحيطها فراغ… والأرضُ التي يقفون عليها تتهاوى من أطرافها ببطءٍ… وعند السنتميترات الأخيرة قبل وصول الانهيار إليهم كان من الممكن أن يدفعَ أحدُهم الآخرَ إلى الهاوية كي يحصل لنفسه على مساحةٍ، لكنّ أحداً لم يفعل».
ويصحّ في النهاية ألّا تكشف القراءةُ لهذه الرواية المدهشة، عن النهاية المدهشة لرحلة التشافي، وعن المخفيّ والظاهر، المتوقَّع وغير المتوقَّع، واليقيني المحتمل في نفس الوقت، من تجلّي الحبيب في نهاية ولا نهاية هذه الرواية.
محمد الفخراني: «حدث في شارعي المفضّل»
دار العين للنشر، القاهرة 2024
205 صفحة.