تتواصل الوحشية الإسرائيلية التي تُدمر البنية التحتية، وتقتل الكثير من الأبرياء تحت أنظار عالم يدّعي حقوق الإنسان. ما يجعل ممارسات إسرائيل الإجرامية وسياساتها الفاشية، تعبّر عن نية خلق وجود إسرائيلي دائم لا رجعة فيه في الأراضي الفلسطينية المحتلة. القصف والقتل ما زالا عقيدة راسخة لدى نتنياهو المدعوم من الإدارة الأمريكية، ويرفض وقف الحرب في غزة، في مماطلة مكشوفة تحت غطاء التفاوض والمراوغة، في انتظار أن يكمل ترامب العائد إلى السلطة إسناد مشاريعه التوسعية وهدفه المعلن في تصفية القضية الفلسطينية.
يبدو أنّ العلاقات الوثيقة مع الجهات المانحة والمؤسسات الأمريكية قد سهّلت تمويلا ودعما كبيرين للتوسع الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية. وتقديم الولايات المتحدة الأمريكية مليارات الدولارات في عمليات نقل أسلحة نحو تل أبيب، منذ بداية الحرب على غزة حتى الآن، يمنح إسرائيل فعليا تفويضا مفتوحا لمواصلة فظائعها في غزة، مع إمكانية العودة إلى تصعيد الصراع مع لبنان، بعد خرق الهدنة من قبل كيان الاحتلال بشكل متكرر منذ اتفاق وقف إطلاق النار. يُفترض أنه بعد المجازر والقتل وعمليات التدمير المرتكبة في غزة، فإنّ أي تفويض جديد بتزويد إسرائيل بالأسلحة، يشكل انتهاكا لكل القوانين الدولية والأمريكية أيضا. تلك التي تحظر نقل الأسلحة إلى دولة متورطة في انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان. عوض ذلك ترفض أمريكا قرار محكمة الجنايات الدولية، وتحتجّ على اعتبار نتنياهو مجرم حرب، وجبت محاكمته إلى جانب قادة آخرين ارتكبوا الإبادة وما زالوا.
رغم تفوقها العسكري والدعم الذي تحظى به من الولايات المتحدة وأوروبا، فمن غير المرجح أن تقضي إسرائيل على المنظمات والأنظمة التي تنتمي إلى المحور المقاوم
توقّفت الحرب المباشرة بين حزب الله وإسرائيل، ولكن رغم الهدنة، لا يعود الإسرائيليون إلى المستوطنات قرب الحدود اللبنانية بالأعداد نفسها، التي يعود بها اللبنانيون منذ اليوم الأوّل لإعلان توقف تبادل النار. في نظر الكثير من الإسرائيليين، ليس من الواضح ما إذا كانت شروط وقف إطلاق النار تضمن هدف إعادة سكان الشمال إلى «منازلهم بأمان». وزير التراث الإسرائيلي عيميحاي إلياهو، الذي اقترح ضرب غزة بالسلاح النووي، احتج على نتيجة الحرب على لبنان بالقول، «هذا ليس نصرا، فالنصر يعني احتلال جنوب لبنان، يعني استسلام حزب الله. وحزب الله لم يستسلم، وهذا الاتفاق ليس جيدا. ودولة إسرائيل ذهبت إليه تحت الإكراه». هو يمثل في الحقيقة رأي الكثير من المتطرفين في حكومة نتنياهو على غرار بن غفير وسموتريتش. لا يستطيع نتنياهو أن يعترف بالهزيمة بشكل مباشر، ويقول إنه أعاد حزب الله عقودا إلى الوراء. هو لم يستطع التقدم في الجزء الجنوبي من لبنان، وتكبد جنوده خسائر فادحة في الأرواح والمعدات. نتنياهو المهزوم سياسيا وعسكريا، بحث عن وساطة أمريكية فرنسية لإنهاء العملية الفاشلة في لبنان، التي لم يحقق فيها أي شيء من أهدافه المعلنة قبل المواجهة المباشرة، خاصة ما يتعلق بإعادة المستوطنين والقضاء على البنية العسكرية لحزب الله. خيبة سياسية واستراتيجية عبّر عنها ما جاء في «إسرائيل هيوم» عن هاتساني سارة، من إن حقيقة «أننا فشلنا في تهيئة الظروف لإقامة منطقة عازلة في لبنان، وفشلنا في الإصرار على عدم عودة سكان جنوب لبنان، بما في ذلك أعضاء حزب الله، لمشاهدة المطلة وزرعيت، هي حقيقة سخيفة تقريبا. إن الابتسامات والأعلام الصفراء التي تعود ببطء إلى سياجنا الحدودي تشرح بأوضح طريقة لسكان الشمال، لماذا يجب عليهم الانتظار لفترة أطول قبل أن يعودوا إلى إعادة بناء حياتهم. إن وقف إطلاق النار هذا لم يأت من فراغ، بل جاء في ظل ضغوط أمريكية لا ترحم». الحرب التي يشنّها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة تحت مسمى «الدفاع عن النفس» تندرج في عداد الإفرازات المتتالية للمجتمع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، الاستسلام الفلسطيني ليس مطروحا كخيار، لأسباب ذاتية وموضوعية، تاريخية وآنية، وما يمكن أن ينجم عن هذا الاحتلال، في ظلّ تواطؤ أطراف عدة، هو نشوء حلّ تلفيقي يلتفّ على صراع الوجود، ويدفع القضية الفلسطينية إلى محطات لا تقل إيلاما وتعقيدا عما هو قائم حاليا، ورغم اختلال ميزان القوى المادي والعسكري لصالح إسرائيل، بفعل الدعم الأمريكي والمساندة الغربية، وتخاذل الدول العربية، رغم كل ما يجري من مجازر متتالية في غزة لما يزيد عن عام. شكَّلت منطلقات العنف الصهيوني تراكمات جرى فيها تجريد اليهودي من إنسانيته، بعزله عن سائر البشر الأسوياء، وكما رأى الباحث الفلسطيني إبراهيم عبد الكريم، فإنه كان من البديهي نشوء آلية وخطاب كي تستقيم التنشئة العنفية الإسرائيلية مع متطلبات المشروع الصهيوني، حيث اعتمدت تلك الآليّة منهجية محددة تقوم على شيطنة الفلسطينيين، وعلى النفي الصهيوني لوجود هوية وكيانية عربية موحدة للفلسطينيين، وعلى التعاطي معهم كأفراد باستعلاء وتمييز عنصري وضغينة، ووصمهم بأقذع النعوت، حيث حفل الخطاب الصهيوني عنهم بكمّ ضخم من الأضاليل والصور النمطية السلبية، التي انطوت على أكاذيب ودعاوى وتشويهات متعمَّدة للحقائق، لعل أبرزها: الغائبون، والمتخلفون، والأعداء الأزليون لليهود، وغـزاة الأرض، والهامشيون، والطامعون.
ورغم تفوقها العسكري الذي لا يمكن إنكاره، ناهيك عن الدعم الذي تحظى به من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأوروبا، فمن غير المرجح أن تقضي إسرائيل على المنظمات والأنظمة التي تنتمي إلى المحور المقاوم، بالطريقة التي تأملها ويتمناها المتطرفون بقيادة نتنياهو. فقد أظهر المحور مرارا وتكرارا قدرة على التكيف والمرونة، تشهد على الروابط العميقة التي تحافظ عليها مجموعاته الأعضاء داخل دولها ومجتمعاتها. وعلاوة على ذلك، فإن العلاقات العابرة للحدود الوطنية، التي يتألف منها المحور تعني أن حماس وحزب الله والمنظمات الأعضاء الأخرى لا يمكن فهمها على أفضل وجه، باعتبارها مجرد جهات فاعلة غير حكومية منفصلة، أو جماعات مسلحة متمردة، بل باعتبارها عقدا مترابطة من شبكات سياسية واقتصادية وعسكرية وأيديولوجية دائمة. وفي غياب حل سياسي يتكيف مع الترابط الاجتماعي للجماعات، فمن المرجح كما جاء في مجلة «فورين أفيرز» أن يستعين المحور مرة أخرى بمصادر النفوذ المحلية، إلى جانب اتصالاته العابرة للحدود الوطنية، لإعادة تشكيل نفسه على المستويين المحلي والإقليمي. يبدو واضحا أنّ الأمريكيين يعتمدون على آليات ترابط قوية مع العدو الصهيوني تهدف إلى تحقيق أهداف دون مستوى الدخول في وحل الشرق الأوسط بشكل كبير، على قاعدة العمل الأمني والاستخباراتي المشترك مع الكيان، وإدارة الوقت بالتوازي مع العمل الدبلوماسي والتطورات الميدانية، وضبط جبهة الشمال وفق القرار 1701 ومواصلة الحرب على غزة، على وقع التلويح بإدارة الهدن والصفقات الدبلوماسية.
الحقيقة التي لا ريب فيها هي أنّ محور المقاومة نجح بتنفيذ مبادرة استراتيجية عظيمة منذ السابع من أكتوبر، تركت تداعيات على وجودية كيان الاحتلال ومشروعه، نحو فرض نفسه في المنطقة عبر مشروع التطبيع. وتركت أيضا تأثيرات على المصالح الأمريكية في المنطقة. وعجز كيان الاحتلال المدعوم أمريكيا في تركيع المقاومة في غزة أو لبنان، رغم فارق القوة والإمكانيات، هو بالمدى الزمني للمعارك، وفي بعدها الإستراتيجي فشل مضاعف لأمريكا وكيانها الوظيفي، ينضاف إلى كل مغامراتها الفاشلة في المنطقة منذ غزو العراق وأحلامها في تغيير الشرق الأوسط وفرض واقعية جيوسياسية جديدة.
كاتب تونسي
متى تتوقف امريكا عن تنفيذ عمليات الإبادة الجماعية في غزة ،، ربما امريكا لا تدرك أن الزمن لا يسير لصالحها