أثار فكر وأداء حركات المقاومة الإسلامية في المنطقة كثيراً من الجدل، في الأوساط غير الإسلامية أساساً، إذ يؤكد مؤيدو تلك الحركات، ممن يصفون أنفسهم بالوطنيين أو العلمانيين أو التقدميين أو اليساريين، أنها تتصرّف كحركات تحرر وطني، حتى لو لم تكن، من ناحية أيديولوجية، حركات وطنية بالمعنى المنضبط. هذا يعني أن الإسلامية قشرة شكليّة، تسقط أمام حقيقة موضوعية، وهي الوظيفة التاريخية التحررية التي تؤديها تلك الحركات؛ أو ربما هنالك أمل بإمكانية التوفيق بين المنظور الديني والطائفي للمقاومات الحالية، وأساسيات «التحرر»، المُحدّد هنا بكونه «وطنياً».
وبغض النظر عن أي نقاش لهذا الطرح، فإن تقرير التوجّه السياسي، والمنظور التاريخي للمقاومات الإسلامية، ليس بيد أنصارها من غير الإسلاميين، فهي من يملك القوة والسلاح والدعم المالي، وهي من يحدد المعارك، ويتخذ قرارات الحرب والسلم، من دون العودة إليهم؛ وقادرة على تطبيق سياساتها الاجتماعية والتشريعية في أماكن سيطرتها؛ وكذلك تحوي من المنظّرين الأيديولوجيين والعقائديين ما يغنيها عن أي «استشارة» في تعيين طبيعة معاركها، وبالتالي فإن إلصاق مفاهيم «التحرر الوطني» بها مجرّد تأويل بأثر رجعي، يصطنعه أفراد أو مجموعات محدودة، لا تمتلك حيثيّة فعلية على الأرض. ليس الإسلاميون بالتأكيد مجموعة من القُصّر، الذين لم يبلغوا بعد مستوى الوعي التاريخي للنخب غير الإسلامية، وإذا أردنا فهم معاركهم، فعلينا بأدبياتهم وتصريحاتهم وممارساتهم نفسها، وليس أي تفسير أو تبرير لاحق.
للحركات الإسلامية دارسوها الجديّون، الذين بيّنوا نقاط اختلافها واتفاقها مع «التحرر الوطني»، ولذلك من المثير للتعجّب أن تُحمّلها قوى أخرى آمالها ومشاريعها المُجهضة عن ذاك «التحرر»، وأيضاً ما قد يرتبط به من مهام، مثل «مواجهة الإمبريالية»، «الانتقال الديمقراطي»، «التصدّي للسياسات النيوليبرالية»، إلخ. الإسلاميون في مكان آخر بالطبع، وهم لا يخفون هذا. فلماذا الإصرار اليوم على أطروحة «التحرر الوطني»؟ بعبارة أخرى: لماذا لا يلتحق غير الإسلاميين بقضية المقاومة الإسلامية، كما هي حقاً، ما داموا يؤمنون بعدالتها؟ ربما لا يتعلّق الموضوع فقط بعملية تجميليّة على مستوى الخطاب، يجريها غير الإسلاميين لتبرير التحاقهم بمشروع ليس مشروعهم، بل في الخلط الشديد في مفهوم «التحرر الوطني» نفسه، الذي يكاد يصبح لفظاً لا مفهوم فعلياً وراءه، يُطلق على كل عمل عنيف ضد عدو ما؛ أو حتى كل جملة إنشائية أو ممارسة رمزية، تؤكد الصمود أمام ذلك العدو، والرغبة بأذيّته. وبهذا المستوى من الفهم قد يكون العالم العربي، بمعظمه الآن، في مرحلة «تحرر وطني»، فيما المتضامنون الغربيون، من حركات طلابية وناشطية، نصير دولي للتحرر الوطني العربي. هل هذا تصوّر جدي؟ أم سيقرأه كثيرون بوصفه تهكّماً؟ وفي الحالتين، هل هناك معنى لاستخدام تعبير «التحرر الوطني» في حالتنا المعاصرة؟
تحديث كوني
يصعب تحديد مفهوم منضبط لــ«التحرر الوطني»، نظراً للصراع الأيديولوجي الكبير حوله تاريخياً، خاصة بين التيارات الماركسية والقومية والليبرالية، وداخل كل تيار من هذه التيّارات. هناك تحديد في القانون الدولي، وهو «حق الشعوب في تقرير المصير»، إلا أنه أيضاً مبدأ عام، يخضع لكثير من التأويل، وحوله مرافعات متعددة، تحاول تقييده، بسبب إمكانية استعماله في تفتيت الدول القائمة، والدخول بحروب لا تنتهي، ذات طابع إثني وطائفي. يبقى أن ذلك الحق قد خضع عملياً لعلاقات القوة القائمة على المستوى الدولي، أكثر من كونه تحققاً فعلياً لآمال كل المجموعات البشرية، التي أرادت تقرير مصيرها. إلا أنه يمكن تحديد ثلاث مراحل أساسية لتطور المفهوم: الأولى بدأت مع ثورة هاييتي ضد الاستعمار الفرنسي (1791-1804)، التي يعتبرها فريق من المؤرخين اليوم أول ثورة كونية حقاً، حملت قيم التنوير، لأنها حدثت خارج «الغرب»، ما يعني تعميم المبادئ العالمية لحقوق الإنسان على العالم بأسره، على اختلاف الأعراق والثقافات. وقد شملت هذه الفترة أيضاً كثيراً من الثورات التحررية ضد الإمبراطوريات التقليدية والكولونيالية، على امتداد الخريطة العالمية؛ أما الفترة الثانية فجاءت بعد الحرب العالمية الأولى ومعاهدة فرساي، عندما تفكك عدد من الإمبراطوريات القائمة، لتنشأ مكانها دول قومية، وتبنّت كل من الولايات المتحدة الأمريكية والثورة البلشفية مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير؛ لتأتي الفترة الثالثة مع الحرب الباردة، ويتحوّل «التحرر الوطني» إلى حرب مفتوحة ضد الإمبريالية، بدعم متعدّد الأشكال من الاتحاد السوفييتي، من دون أن ننسى بعض الاعتراضات، من دول مثل الصين، وفرنسا الديغولية، وألبانيا بزعامة أنور خوجا.
في كل تلك المراحل، ارتبط «التحرر الوطني» بمفهوم واضح عن الكونيّة والتحديث: الحق القومي بإنشاء دول مستقلة للمجموعات البشرية ذات الخصوصية، هو حق كوني، ويجب أن لا توجد مجموعة تعتبر أدنى أو أكثر تخلّفاً من أن تناله؛ كما يحقّ لكل مجموعة أن تمارس نمطها الخاص في بناء الدولة والمجتمع، وبالتالي التحديث، عبر السيادة الكاملة على ثرواتها وأراضيها، وبما يتفق مع ما تعتبره ثقافتها القومية ومصالحها. هذا يعني أن «التحرر الوطني» مرتبط أساساً بمفاهيم ذات أصل «غربي»، بل إن كثيراً من المفكرين الماركسيين، بمن فيهم ماركس نفسه، رأوا أن الاستعمار هو من ينتج قوى وطبقات «التحرر الوطني»، وبالتالي فلا فصل جذري بين جوهر استعماري وجوهر تحرري، بل هي عملية جدليّة، تجري على الخريطة الكونية، نتيجة التوسّع الرأسمالي.
هذه الأصول التنويرية والتحديثية لـ»التحرر الوطني» جعلته يندرج ضمن فلسفة تاريخ، ترى أن البشرية ستتجه نحو مزيد من الحرية، والوعي بالحرية، وبالتالي فإن كثيراً من ممارسات ذلك «التحرر»، التي تبدو دموية أو متوحّشة أو متعصّبة، يمكن تأويلها بوصفها عوارض لا يمكن تلافيها، على الطريق التاريخي للحرية. وهذا قد يفسّر اعتبار كثير من المفكرين التحرريين، خاصة «اليساريين» منهم، أن بعض الحركات الدينية والقومية المتطرّفة في العالم الثالث، تناضل موضوعياً لأجل تحقيق الغاية التاريخية، حتى لو كانت ممارساتها الذاتية شديدة «التخلّف» أو القمعيّة. إلا أن التجربة التاريخية الفعلية لـ»التحرر الوطني» لم تأت دائماً بحرية ووعي بالحرية، بل ارتبطت كثيراً من الأحيان بمجازر إبادة جماعية، وحروب أهلية وإقليمية، وهيمنة طائفة أو إثنية أو قومية على الآخرين، وإلغاء التعددية، وفرض هندسة اجتماعية قاسية على البشر. في الواقع كرّرت دول «التحرر الوطني» كثيراً من ممارسات الاستعمار، بل ربما ما هو أسوأ. ويمكن أن نوجّه لها النقد نفسه، الموجّه للتحديث الاستعماري «الغربي»، الذي بات شائعاً أكاديمياً اليوم. وبعيداً عن الميتافيزيقيا وفلسفات التاريخ، هل ما يزال من الممكن تأييد «التحرر الوطني» لمجرّد أنه تحرر وطني؟
تحرّر التنوير المضاد
من المفترض أن تكون الإجابة «لا»، إذا اتبعنا بعض أكثر المناهج نقديّةً في التعاطي مع التحديث والكولونيالية، إلا أن اللافت أن كثيراً من أنصار هذه المناهج يحملون اليوم أفكاراً قريبة من أفكار معادي الإمبريالية العتيقين، وإن لم تعد تسمّى «التحرر الوطني»، بقدر ما يُطلق عليها اسم «نزع الاستعمار» Decolonization. والأخير يبدو مرتبطاً بفكرة أخرى، أقرب لـ«الأصلانية» Indigenism، وهي أن هنالك مجالاً ما، قبل استعماري، أو ضد استعماري، سيظهر بمجرّد نجاحنا في «نزع الاستعمار».
من هذا المنطلق، تناصر مجموعات من المتضامنين الغربيين الشعب الفلسطيني، بوصفه مجموعة «سكان أصليين»، تنشط ضد دولة كولونيالية هي إسرائيل. فيما ممارسات المقاومة الإسلامية، من اليمن إلى لبنان، جانب من «نزع استعمار عنيف»، إذ لا يمكن تصوّر هذا «النزع» بشكل سلمي أو بسيط. أما الأفكار والأفعال المتطرفة فهي «رد فعل»، أو «نقاط مقاومة موضعية» ضد نظام كولونيالي دولي، وبالطبع هي جزء من تفكيك أشمل للهيمنة والمركزية الغربية، بمفاهيمها عن التمييز والاستغلال والرقابة والانتزاع من الأرض و»الآخرية».
يبدو أننا لم نخرج من فلسفات التاريخ التنويرية، وإن بإمكاننا وصف الفلسفة الدارجة اليوم بـ»التنوير المضاد»، إذ يجب أن يتجه التاريخ الإنساني نحو غاية، ربما تكون «العدالة»، عبر نزع الخطيئة الأصلية، التي أتى بها الاستعمار والتحديث. ومجدداً: الحروب الأهلية والمجازر والتطرف الديني والقومي ما هي إلا عوارض جانبية على الطريق التاريخي العام، معروف الاتجاه.
استعادة النقديّة
قد يمكن السعي إلى الخروج من تلك التصورات التاريخية، غير المبررة منهجياً، برفض مقولات «رد الفعل»، و»الغاية»، و»الضحية»، و»الثمن»، أو غيرها مما يمكن أن يختلق الأعذار لممارسات تزيد من دموية الأوضاع، وتعيق استمرار المجتمعات. وتعويض تلك المقولات بمفاهيم أكثر انضباطاً، تقوم أساساً على المسؤولية والمحاسبة: لا يوجد طرف غير قابل للمساءلة، مهما كانت ظروفه وادعاءاته ومظالمه؛ وكل قوة فاعلة يجب أخذ مقولاتها وخطابها وممارساتها على محمل الجد، لا إعادة تأويلها ضمن منظور تاريخي، لا دليل عليه. من دون هذا، قد لا يؤدي «التحرر الوطني» و»نزع الاستعمار» إلى أكثر من زيادة الأوضاع سوءاً، وردّ البشر إلى الحالة البيولوجية، بعد سحب أي ضمانات حقوقية أو أخلاقية عنهم، وهو ما تفعله دولة الاحتلال أيضاً، التي لديها، بدورها، ادعاءاتها التاريخية، ونمطها من التنوير المضاد.
بعيداً عن حرب التواريخ هذه، قد يقدّم القانون الدولي، على نواقصه، ما هو أفضل، باعتباره ما توافقت عليه أغلب الأمم في عالمنا المعاصر. وبالاعتماد عليه، قد يمكن بناء مشروع سياسي جدّي، يطالب بحقوق الشعب الفلسطيني، ويناضل لأجلها؛ ويرفض الميليشياوية والتطرّف الديني وممارساتهما في الآن ذاته. وعندها قد نستطيع استعادة أفضل ما في مفهوم «التحرر الوطني».
كاتب سوري