لندن ـ «القدس العربي»: الحدث الجلل الذي تلقته بيروت، وتلقاه معها ملايين العرب في كل مكان، بردّات فعل متفاوتة ومختلفة ومتناقضة، لم يكن في متخيل أحد أن يحصل.
فالأمر يتعدى اغتيالا عاديا لقائد أو قادة، حتى لو كان هذا القائد أمين عام «حزب الله» بل يعكس نتيجة لسياسة الإفلات من العقاب التي دفعت بالدولة الإسرائيلية إلى تكرار جرائم حربها في لبنان، بعد عام تقريبا من مذبحة مستمرة يمارسها جيشها المحتل في قطاع غزة، المنكوب الأول والخاسر الأول من كل ما يحصل.
لم يكن خارج إطار القراءة أن رئيس وزراء حكومة أقصى اليمين بنيامين نتنياهو سيقدم على خطوة كبيرة في لبنان،
مسلحا بدعم شعبي متزايد لسياساته الإجرامية، وبشعور يقين عند غالبية الإسرائيليين أن حربهم هذه لا تشبه الحروب الأخرى، وتتعدى في خطورتها ربما ما يسمونه حرب الاستقلال – وهو نكبة فلسطين في الواقع، وبتأييد من معظم الأحزاب الإسرائيلية التي تتبارى في استطلاعات رأي لانتخابات يؤجّلها بالحرب نتنياهو كلّ مرة، وبفشل دولي وأوروبي خصوصا في تشكيل موقف موحد رافض لجرائم الحرب الإسرائيلية وتمادي إسرائيل في الحرب ورفض وقفها، وبعجز أمريكي عن ضبط إسرائيل في إطار قواعد اشتباك مقبولة منها، وبتواطؤ كامل معها في الدعم والمساندة والاستخبارات وجسر الأسلحة المفتوح، وبالتوكّل عنها أمام كل المحافل الدولية في رفض الدعاوى والمطالبات القضائية لمحاسبتها.
كل هذا، وليس كله، خلق الواقع الإسرائيلي المنفلت من عقاله الذي يسكن عقل المتطرف نتنياهو، ومعه صفّ كامل من أحزاب متطرّفة في إسرائيل، ودرّة التاج يتنافس عليها بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير.
ولم يكن ليحصل ما حصل في بيروت، لولا أنه في ظل انفكاك عربي عنه، له أسبابه، ودول تضع أولية مواجهة إيران وسياساتها في المنطقة، وتحملها مسؤولية كبيرة في زعزعة استقرار المنطقة وفي الاحتراب الأهلي وفي إقلاق النظام العربي التقليدي.
ولولا أن بعضا من الدول العربية، المعروفة، مع دول صديقة، حافظت على سياسة مواجهة للصلف الإسرائيلي – في التفاوض على غزة – وفي جرائم الحرب المتواصلة وفضحها الإعلامي والسياسي – وفي جريمة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين – وفي الحاجة إلى سياسات متوازنة، لكان المشهد العربي أكثر تعقيدا.
وكل هذا، وليس كّله، لم يكن ليحصل ربما لولا الاندفاعة الإيرانية في المنطقة، التي تعود اليوم لتطرح أسئلة حول مدى موقف إيران الحالي في الوقت الذي تسعى فيه قياداتها إلى تسوية تشمل البرنامج النووي ومصالحها الأخرى في الدول العربية. والسياقات التي أفضت إلى الحرب، التي بدأت في لبنان بشكل متصاعد خلال الأسابيع الأخيرة الماضية، وتدرّجت في طبيعة استهدافاتها ونطاقها، لترتقي إلى مصاف جرائم الحرب الجماعية اليوم، مؤشر على أن سياسة الإفلات من العقاب التي تستفيد منها إسرائيل تدفعها قدما في بطشها وجبروتها.
ومدعاة خطورة مثل هذا السلوك الإجرامي لإسرائيل، تتعدى تأثيراته شعوب المنطقة التي تعاني من الاحتلال، ومن تهديدات أخرى، وفي مقدمتها أصلا الشعب الفلسطيني، أصل القضية، بل تطرح السؤال: كيف لدولة تحظى بكل هذا الدعم الأوروبي والأمريكي و«الغربي» وتمارس الجريمة المنظمة على هذا القدر من الاتساع والإتقان، أن تسهم في خفض التهديدات الأمنية التي تواجهها أوروبا سواء على حدودها مع روسيا، أو في سياساتها الداخلية وفي مقدمتها الهجرة والمهاجرون؟
ويتعدى القلق هنا موضوع النقاش الحقوقي بشأن طبيعة جرائم الحرب، ليدخل في نقاش بشأن سياسات الحكومات الأوروبية التي لم تنجح في أن يكون لديها دور مؤثر في الشرق يحافظ على استقرار دولي تنشده أيضا لدفع عجلات اقتصاداتها والتعامل مع مشكلاتها الداخلية.
وإذا كان الدور الذي تسعى إليه أوروبا في الشرق الأوسط هو حل سلمي للقضية الفلسطينية يقوم على أساس الدولتين (وتخضع حدود وسيادة الدولة الفلسطينية للتفاوض ومعها القدس واللاجئون) فإنه من الواضح ان هذه السياسة التي يعمل لها الأوروبيون مع شركائهم العرب، ستصطدم بجدار كبير من معارضة إسرائيلية لأيّ حلّ يقوم على إنشاء كيان فلسطيني، معزّزة بتصويت في الكنيست بنحو سبعين من نواب الائتلاف والمعارضة اليمينية على حد سواء.
فحتى جرائم الحرب التي ترتكبها الحكومة الإسرائيلية لن تفضي في النهاية إلى حل سياسي جدي في المنطقة، في ظل استعصاء إسرائيلي لهذا الحل، واقتصار المتاح على إنشاء تجمعات محصورة ومحاصرة للفلسطينيين في غزة والضفة، وبإدارات غير واضحة الصلة بالكيان الفلسطيني، سواء القائم اليوم ممثلا بمنظمة التحرير والسلطة، أو بالمأمول قيامه.
وليس خافيا على الفلسطينيين، الذي يقولون في نقدهم ونقاشاتهم في كل الطيف الفلسطيني إن أخطاء ارتكبت، أن يكون الإسرائيلي رافضا لخيار الدولة الفلسطينية، ومنذ زمن طويل.
وهذا ما عبّر عنه جدعون ليفي، الصحافي الإسرائيلي المنشق كما وصفته المجلة – في مقابلته مع Current Affairs في تموز/يوليو الماضي، فأجاب في معرض حديثه عن رفض الحكومة والكنيست اليوم لخيار الدولة الفلسطينية، «إسرائيل لم ترغب بذلك أبداً، حتى في سنوات اتفاقيات أوسلو. لكنني أدركت هذا اليوم فقط، لم أكن أعلم ذلك في ذلك الوقت. كان لدي شعور بأن أوسلو يحمل الأمل، لكنني أعتقد الآن أنه كان خدعة».
أما في دول الجوار العربي التي بقيت حتى الآن خارج الحرب، الأردن ومصر. فالنقاش أيضا داخلي وحقيقي، في الأوساط السياسية وكذلك لدى الحكومات، عن مخاطر سياسات إسرائيل على استقرارها الداخلي، وعن مخاطر موجات نزوح وتهجير للفلسطينيين من غزة أو الضفة، في الوقت الذي لا يزال الخيال غير قادر على التنبؤ بما يمكن أن يفعله البطش الإسرائيلي الللامتناهي، والرافض دائما لحلّ سلمي طالبت فيه الدول العربية منذ عقود وأبدت استعدادها للانخراط به حتى النهاية.
فحتى لو نجحت إسرائيل في القضاء على غزة ولبنان، أو على «حماس» و«حزب الله» أو على توجيه ضربة قاصمة لـ«محور المقاومة» كله – أو التنظيمات المسلحة العربية المتحالفة مع إيران في المنطقة – فلن يكون البديل قيام نظم ودول بل حروب أهلية وإمعان في الفوضى واللا استقرار طالما أن القضايا الكبرى العالقة لم تحلّ.
وسياسة العقاب الجماعي التي يمارسها الإسرائيلي بحقّ ما بات يطلق عليه تسمية البيئة الحاضنة للمقاومة في لبنان، وغالبيتها في الطائفة الشيعية، لن تنتج فقط ردّات فعل ضد «حزب الله» تحمّله تبعات الحرب، خصوصا بعدما حصل ما حصل، بل من المحتمل جدا أيضا أن تنتج بؤر عدم استقرار تتهدد المنطقة، ولديها تداعياتها الأمنية والسياسية في المستقبل على كل المشهد في العالم العربي، لأن السياسة الإسرائيلية بشكل واقعي ليست البديل الخيّر عن الواقع الحالي.
وواقع العراق بعد 2003 وهو أيضا عام الانقلاب الإسرائيلي الكامل على أوسلو، يخبر كيف يمكن للهزائم والحروب غير المكتملة بحلول سياسية ناجحة، أن تؤدي إلى تهديدات أمنية وسياسية متعاظمة، وكيف أن التّطرف المزعوم المنهزم ينتج تطرّفات أكبر.
كل هذا والإسرائيلي يفترض انتشاءً، أنه هزم «حزب الله» وهي فرضية يشكك فيها المحللون الإسرائيليون رغم كل ما حصل.
وكل هذا يفترض أن هزيمة «حزب الله» المفترضة ستمهّد الطريق لطمس معالم الإبادة التي ارتكبها جيش الاحتلال في غزة.
ويفترض أنه لن تكون هناك مقاومات جديدة، ومعها حروب أهلية، طالما أن إيران ستوقف الدعم، وهي فرضية مبكرة جدا وغير محسومة، لأن التسوية أيضا غير محسومة، حسب التقارير عن التفاوض الأمريكي الإيراني، وتراوح مكانها تنتظر الانتخابات الرئاسية الأمريكية الحالية والأشهر الطويلة الصعبة التي ستليها كما يقولون، وحالة عدم اليقين.
وفي الانتظار، وبعد نحو 12 شهرا من حرب الإبادة على غزة والشعب الفلسطيني، سيُسمح للإسرائيلي أن يفعل ما يشاء وأن يسخر من كل قانون إنساني ومن كل قانون دولي، صار من الصعب على الدول الأوروبية أن تشهره من دون نفاق في وجه روسيا أو الصين أو حتّى ميانمار.
وسيكمل نتنياهو حروبه على الجبهات السّت التي ذكرها في خطابه أمام الجمعية العام للأمم المتحدة، تحت ناظر العالم كلّه، ولكل جبهة سيكون لها نصيبها من مواجهة إسرائيل.