علي شريعتي
في خطبة من خطب المفكر الإيراني علي شريعتي – التي دونت بعد رحيله- وردت العبارة التالية؛ (لقد خرج الحسين؛ الوريث الشرعي للجد الأعظم، والأب الأكرم، ليواجه سلطة قوية غاشمة مستبدة، كانت أسلحتها متعددة؛ الأفكار والدين والسيف والمال والدعاية وعباءة النبي، وما زالت المواجهه مستمرة). وهي عبارة تحمل فخا عاطفيا وإنشائيا، وتعكس حالة من الهوس الارتدادي التاريخي والفكري، الذي ما زلنا آسارى له جميعا.
ففي تضاعيف وثنايا الحكاية الكربلائية، تتناول السرديات السنية التراثية أهل العراق كأهل شقاق، لا ينصرون من أخرجوه، بينما يلقي الشيعة مغبة عدم النصرة هذه على غيرهم في أطول سياق تلاسني عقائدي بين أمة من المفترض فيها التجانس الديني. سياق تلاسني ممتد عبر التاريخ وعابر للزمان والمكان، وغير قابل للتوسط ولا المقاربة، لاسيما وأن الحكاية تستعاد كل عام في طقس مسرحي بتفاصيلها الدقيقة، وتجليات أحزانها في تماه لا يفرق بين الحادث الأصل، ونسخته المستعادة عبر المحاكاة.
كربلاء كانت «معركة» غير متكافئة، ترتب عليها انشقاق سياسي هائل، تحول لاحقا إلى عقيدة وأيديولوجيا لدى البعض، لا تقبل المراجعة. إلى جانب أنها لم تفرز ثنائية الشيعة والسنة وحسب؛ بل كانت نقطة مفصلية في ظهور غالب منجز فرق الكلام الإسلامية. وهي حالة تاريخية شديدة التفرد نظرا لتتابع أحداثها بشكل دراماتيكي، حمل في طياته آليات وعوامل التراجيديات المكتملة (صعود البطل المتعالي على الزمكان، ونهايته بطريقة مأساوية). وهي النهاية التطهرية الشهادية التي حجبت وضع الحدث على المحك التاريخي المجرد، وقراءته كفصل من حروب قريش الأهلية، بين حزبيها الرئيسيين الأموي والهاشمي.
أحزاب قريش
كانت قريش قبل البعثة النبوية تبدي تماسكا قبليا ظاهريا، كونها تحمل استثناءات دينية كسدنة لكعبة مكة، التي علا شأنها على النماذج العبادية المكعبة الآخرى في شبه جزيرة العرب وخارجها، نظرا للبعد الإبراهيمي المضفور في ثنايا قصة بناء الكعبة «رفع القواعد» والمسمى لاحقا «بيت الله الحرام» ما عزز مكانة قريش وهيبتها بين القبائل العربية، وجعل مكة مهبط الحجيج كل عام. ومع ذلك فإن قريش كانت تعاني من انقسام داخلي وشرخ بين أجنحتها. شرخ تأخر طفوه لما بعد البعثة لأسباب قبلية بحتة.
تقاسمت قريش عدة أحزاب كبيرة؛ الحزب الهاشمي، والحزب الأموي؛ والحزب المخزومي، الذي قاد بواكير الصراع، وتجمعت تحت قيادته كل أحزاب قريش الأخرى، وأعلن زعيمه أبو الحكم بن هشام بوضوح، أنه يتحرك بغطاء قبلي عنصري وليس دينيا، حتى أنه وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه (ما كذب قط، وكنا نسميه الأمين، ولكن؛ إذا كان في بني هاشم السقاية والرفادة والمشورة ثم تكون فيهم النبوة، فأي شيء لبني مخزوم؟!)، في خضم هذا الصراع الهاشمي المخزومي، توارى الصوت الأموي المعادي عن تصدر المشهد، فيما دعم متوالية الحروب الأهلية بالمال والعتاد والأفراد، محتفظا كذلك ببعض خيوط الاتصال مع الحزب الهاشمي «صداقة أبو سفيان بن حرب، والعباس بن عبد المطلب».
بعد مقتل أبي الحكم بن هشام، وتقبل ابنه عكرمه للدين الجديد، خرج الحزب المخزومي من دائرة الصراع، وذابت بقاياه ما بين مؤيد للهواشم والأمويين. لتخلوا الساحه أمام الحزبين الكبيرين وحدهما.
غداة وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) وعقب سقيفة بني ساعدة وبوعي – عرقي حاد وصادق – عرض أبو سفيان بن حرب على علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب أن يتحد الحزبان في انتزاع الخلافة من أبي بكر، (ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش، والله لإن شئت لأملأنها عليه خيلا ورجالا). وبوعي لطبيعة هذا التحالف القائم على أسس عصبية، رفض علي بن أبي طالب هذا الاندماج الحزبي، مغلبا النزعة الدينية على النزعة القبلية. في خلافة عمر بن الخطاب هدأ صوت النزاع الهاشمي والأموي، لأن عمر وازن وبحساب دقيق بينهم؛ فنحى وجوها بارزة في الحزبين كالعباس بن عبد المطلب، وأبوسفيان بن حرب، فيما كان أكثر مرونة مع علي بن أبي طالب؛ وأكثر براغماتية مع معاوية. لكن بصعود عثمان بن عفان لسدة الحكم، لم يتورع رأس الحزب الأموي أبو سفيان عن الإفصاح برأيه أمام الخليفة الثالث، داعيا الأمويين بصراحة أن يتلقفوا الحكم تلقف الكرة. لهذا سارع بنو أمية للسيطرة على مفاصل الدولة، مدفوعين بتاريخ قبلي لا يرى لأحد غيرهم فضلا بهذه المكانة. هذا التسارع وبهذه الوتيرة خلق معارضة في الأمصار لحكم عثمان، سرعان ما انضم إليها عدد من الصحابة، وأبناء الصحابة، لينتهي الأمر بمقتل عثمان، والقضاء على «الدولة الأموية الأولى»، ليصعد علي بن أبي طالب معرقلا مرحليا مشروع الحزب الأموي، ليواجه بمعارضة من الأمويين ومواليهم المطالبين بالثأر لعثمان من قتلته.
كان علي بن أبي طالب أكثر الهواشم وعيا بطبيعة الصراع القائم على الإثنيات والإحن القديمة، لذلك رفض دحرجة الصراع وصبغه بصبغة الدين، سواء من جهة أتباعه الذين انقسموا عليه لهذا السبب (تحكيم الرجال بدلا من القرآن)، أو حتى خصومه رافعي المصاحف على أسنة الرماح، ما عكس فهما شديد العقلانية للنص القرآني «كمدونة ذات بعد تاريخي» والتفريق بين النص الشفاهي التعبدي الترندستالي المتعالي؛ والمدون في المصاحف، «كحمال أوجه» ينطق به الرجال، (عملية التأويل والإحالات الدائمة، المختلفة باختلاف النسق المعرفية والسسيولوجية).
هذا الفهم للحالة الإثنية، ورفض علي استخدام المكون الديني وتطويعه في صراع قبلي بحت، عجل بنهايته اغتيالا على يد أحد انصاره وشيعته المنقلبين عليه، ليتنحى بعدها ابنه الحسن – مؤثرا سلامته الشخصية والنفسية – لمعاوية بن أبي سفيان، فيما سمي بعام الجماعة في الأدبيات السنية.
تولى معاوية الحكم واضعا الأساس بشكل فج وصريح للدولة الأموية الثانية، في ظل استنكار ممن تبقى من المهاجرين والأنصار وأبنائهم. وهي المعارضة التي صفيت في زمن معاوية ومن تلاه بتصاعد وبوحشية، ولاسيما الأنصار الذين خرجوا من المساهمة في قواعد اللعبة السياسية الإسلامية في وقت مبكر جدا، غداة سقيفة بني ساعدة، الذين حملوا تبعية احتضان الحزب الهاشمي، ومغبة قتلى أمية في المواجهات الأولى بدر وما بعدها.
وحده الحسين بن علي الذي ظل رقما صعبا وعصيا على معاوية لحساسيته الدينية، ولحسابات سياسية وقبلية دقيقة.
الغريب أننا بعد كل هذه المدة ما زلنا آسارى المتوالية الماضوية تلك، ولم يجرؤ أي من الرفقاء الفرقاء «الشيعة والسنة» مس التابوهات المرتبطة بالشخصيات التاريخية هذه، ولهذا تفشل كل محاولات المقاربة والتقريب؛ لأنها محاولات لم تتحرر من عبء الأساطير المؤسسة؛ ومن وهم التاريخ المتخيل، وليس الفعلي.
بموت معاوية وفرض يزيد على الحكم أصبح الحزبان إزاء مواجهة حتمية. يزيد المهيأ من أبيه سلفا لإنهاء الصراع وتصفية زعيم الحزب الهاشمي الطوباوي الكاريزماتي الحالم، حتى لا تجذب هذه الكاريزما الأنصار إليه مرة أخرى، (وهو ما يفسر رفض يزيد السماح للحسين بالرحيل من أرض كربلاء والنفي بعيدا).
إزاء الحسين الذي لم يعدم في وعيه الهاشمي العميق من دوافع قبلية، رغم طوباويته ومثاليته، جعلته يصف معاوية بالطاغوت الهالك ورأس الكفر، وجعلته أيضا يتحين ويتعجل المواجهة دون قراءة الواقع قراءة سليمة، لذلك تم قتل الحسين بقسوة، وبطقس دموي عنيف مخطط له بعناية لإخراس الأصوات المعارضة، سواء الهاشمية أو غيرها. هذه المواجهة العنيفة أدت إلى رد فعل عكسي، ولم تنه الصراع للأبد، كما ظن الحزب الأموي، بل ساعدت على حشد شريحة أنصار جدد في الأمصار البعيدة، في خراسان والشام والجزيرة العربية للحزب الهاشمي، الذي اشتدت قوته بقيادة الجناح العباسي البراغماتي، الذي أبدى خبرة ووعيا سياسيين غير محملين بعبء الميتافيزيقا؛ وسرعان ما زحفت هذه الحشود محاصرة لعاصمة الدولة الأموية، وسرعان ما أسقطتها وقضت على رموزها وقيادتها، وأسرفت في الانتقام، حتى أنها نبشت قبور قادة أمية التاريخيين.
لاحقا سينشق الحزب الهاشمي، إلى جناحين كبيرين؛ الجناح العلوي، والجناح العباسي الذي أستأثر بالحكم وحده، ما أذن ببدء صراع آخر بين أبناء الحزب الهاشمي القرشي، وهو فصل أخر من الصراع بحاجة إلى قراءات تاريخية متأنية.
إحالات الصراع
في خضم المواجهات القبلية المسلحة هذه، كان لا بد من أدبيات سياسية وفقهية وعقائدية تغذي مآلات الأحداث، وتجذب شرائح مناصرة للفرقاء، ما خلّف سرديات فقهية وعقائدية لا تزال تلقي ظلالها حتى هذه اللحظة على المسلمين، وتزيد المشهد الفكري انقساما وتعقيدا، ورجعية وجمودا ورجوعا أبديا للخلف.
في السردية الشيعية تحولت فاطمة ابنة النبي «ص» إلى أسطورة ورثت المخيال الشعبي الفارسي، وتناسخته حتى أصبح التفريق بين الشخصية الحقيقية، والشخصية ذات البعد الميتافيزيقي الأسطوري بالغ الصعوبة والخطورة في آن، وتحول بنوها إلى أطفال سماويين معصومين في دورة أئمة سرمدية، وهم المخولون وحدهم، وليس غيرهم بحق التأويل والتفسير والتشريع، في دورة أئمة أبدية، ما عزز بعد ذلك ولاية الفقيه، وهي صورة من أشد الصور الدينية دوغمائية في التاريخ.
في التراث السني لم تحظ هذه الشخصيات بهذا البعد العاطفي المعقد، بينما في سبيل تبرير حكم أمية، وبني العباس الغشوم تم اختراع ثنائية أخرى. الملك السلطان المدعوم بالحق الإلهي «خليفة الله في أرضه» إزاء الرعية – العوام – الذين لا يجوز لهم الخروج عليه، وإن جار السلطان، وضرب ظهرك، وأخذ مالك. ما عزز وبقوة خلق كهنوت فقهي مواز وداعم للكهنوت السياسي، القامع لأي صوت معارض، أو ثوري، وهو مكون توارثته الفرق السنية، وحمل تبعته الفقهاء بعد ذلك، وأدخل الجميع في دوامة فقهية قامعة لأي تجديد أو تطوير أو تنوير، أو تفلسف، وهي نتاج طبيعي للمنظومة المغلقة التي بنيت عليها سسيولوحيا العلوم الإسلامية السنية الأولى.
إلى جانب فرق كلامية أضحت تخدم على هذه الرؤية؛ كالمرجئة الذين قالوا إنه لا يضر مع الإيمان ذنب، وبالتالي تشرعن لتصفية الصوت المعارض أيا ما كان، وترفع العبء والتحرج عمن اسمتهم «ولاة الأمور».
مآلات الصراع
الغريب أننا بعد كل هذه المدة ما زلنا آسارى المتوالية الماضوية تلك، ولم يجرؤ أي من الرفقاء الفرقاء «الشيعة والسنة» مس التابوهات المرتبطة بالشخصيات التاريخية هذه، ولهذا تفشل كل محاولات المقاربة والتقريب؛ لأنها محاولات لم تتحرر من عبء الأساطير المؤسسة؛ ومن وهم التاريخ المتخيل، وليس الفعلي، ونحت القيم الترندتستالية المتعالية للدين والمتفق عليها من الجانبين بلا جدال، والتي كان ينبغي إعلائها وحدها بوصفها الطريق الأوحد للمقاربة، وبوصفها قيما إنسانية عليا في البدء. في ما أعلت من حالة الغيبوبة الفكرية الآنفة الذكر، التي ضببت الرؤية على العقل المسلم، وجعلته لا يمتلك جرأة قراءة النص المقدس المؤسس ذاته في سياقه التاريخي، محررا من الدوغمائيات المعرفية والتاريخية، حيث لا أزمنة سكونية مقدسة، و لا قرون مراحلية خيرية، ولا خلافات راشدة، ولا أئمة معصومون، ولا لحوم مسمومة لملالي وفقهاء.
كاتب وإعلامي مصري
نحليل سليم ولكنه مبتي على تاريخ سردي شفوي لا يستند على اي ادلة تاريخية كله مكتوب في زمن الدولة العباسية للوصول الى الحقيقة نحتاج الى علماء التاريخ الشجعان والمتنورين والمحايدين لمقارنة ما كتبه غبر العرب المسلمين عن تلك الفترة وحوادثها وكذلك الادلة المادية التي اكتشفت كعملة معاوية والتاريخ الاخر يدلنا على معاوية وعلي غير الذان نعرفهما من تاريخ العرب المتداول والمتعارف بيننا فهل كان هناك معاوية غير الذي نعرفه وكذلك علي فكلاهما موجودان في الوثائق السريانية لتلك الفترة ولكن بصورة اخرى تختلف تماما