عودة إلى حرية التعبير مرة أخرى. هذا المصطلح الذي يمثل لبّ المسألة الديمقراطية، ويحظى بسجال متواصل ويمثّل مشكلة حقيقية في عالم القرن الحادي والعشرين لم يتوقف السجال بشأنه نظرا لأهميّته في عالم اليوم الذي تغمره أدوات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.
فهو توصيف آخر للسجال حول «الحرّيّة» بل عن الفطرة الإنسانية التي منحت الإنسان الرغبة في الكلام كجانب مكمّل أساسي لوجوده. فبعد نعمة البصر التي وهبها الله الإنسان يحتل اللسان الرتبة الثانية من حيث الأهمية الحياتية: قال تعالى: «ألم نجعل له عينين، ولسانا وشفتين». فكما أن حرمان الإنسان من استخدام عينيه يفقده نعمة البصر التي هي جوهر الحياة، فإن منعه من استخدام لسانه يفقده القدرة على التفاعل مع الحياة. فالبعض لا يستغني عن هذا اللسان حتى عندما يخلو بنفسه. فما أكثر من يرفعون أصواتهم في خلواتهم مردّدين ما يحفظونه من شعر أو نشيد أو آيات قرآنية. لقد منح الله الإنسان هذا اللسان وفوّضه باستخدامه ضمن ضوابط العقل والمسؤولية، ومنعه من استخدامه لبث الفرقة والفتنة وكل ما يضر بالمصلحة العامة والسلم الأهلي، وشجع على الكلام البنّاء المتوازن الذي ليس فيه شطط: قال تعالى: «وإذا قلتم فاعدلوا». وهذا تعبير بليغ عن دور اللسان في ترويج الفضيلة التي تعتبر صورة أخرى للعدالة. كما منع ترويج ما يُعتبر سوءا: قال تعالى: «لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلّا من ظُلم».
اهتمت الثقافة السائدة بمصطلح «حرّيّة التعبير» تعبيرا عن تطور منظومة حقوق الإنسان التي جعلتها أساسية وجرّمت من يمنعها. ونصّت المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تم التصديق عليه من قِبل الأمم المتحدة في العام 1948 على ما يلي: لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير. ولكن برغم ذلك لا يمكن القول بأن هذا الحق متاح بشكل مُرضٍ حتى في الدول «الديمقراطية». فالسجال في هذه المجتمعات حول حرّيّة التعبير لا يتوقف، فما يزال هناك تعسف في السماح بممارسة هذا الحق أو مصادرته. في الأسبوع الماضي مثلا خلال انعقاد مؤتمر الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة منع المنظمون مندوبين ديمقراطيين من إلقاء كلمات بسبب نيتهم الحديث عن الحرب في غزة ودعم إدارة بايدن القوي لإسرائيل، حسب ما ذكرت «واشنطن بوست». وكان هؤلاء المندوبون ينوون التعبير عن عدم رضاهم حيال الحرب في غزة خلال المؤتمر الذي رشّح فيه الحزب الديمقراطي السيدة كمالا هاريس لخوض انتخابات الرئاسة الأمريكية التي يتوقع أن تتقارب فيها النتائج للوصول إلى البيت الأبيض. كما تظاهر الآلاف خارج مقر انعقاد المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي ضد الحرب، وطالبوا بوقف تصدير السلاح الأمريكي إلى «إسرائيل» التي تستخدمه لقتل الفلسطينيين. وكانت ردة فعل أجهزة الأمن الأمريكية على الصحافيين شديدة، حيث اعتقل العديد منهم. وردّت منظمة حماية الصحافيين الدولية قائلة إن من الضرورة السماح للصحافيين بنقل الأخبار بحرّيّة وسلامة. هذا يعني أن حرّيّة التعبير متاحة في حالات محددة، وليس بشكل مطلق. ومن المؤكد أن هذه الانتقائية تمثل مشكلة ستظل ضاغطة على الحرية. ومع الاعتراف بضرورة بعض المحدّدات احيانا إلا أنها يفترض أن تكون في حالات محدودة وأن لا تمثل ظاهرة عامة.
التعبير عن الرأي أو الموقف بشكل عام ممارسة إيجابية من البشر، ولولاه لساد الجهل ولتحوّلت الكرة الأرضية إلى صندوق أسود لا يعرف أحد ما بداخله. ولكنّ القمع السلطوي في بلداننا يحول دون انتشار الحقائق والأفكار البنّاءة، بينما يُتاح للمستبدين والسفّاحين والقتلة قول ما يريدون بحرّيّة. فمن يجرؤ على إطلاق تصريحات وتهديدات تناقض الفطرة الإنسانية كما يفعل زعماء «إسرائيل»؟ إذ لم تبق موبقة إلا ارتكبوها. ألم يهدد نتنياهو أهل غزة بحرمانهم من الطعام والماء؟ وهل هناك كلام أكثر فحشا مما قاله مندوب إسرائيل لدى الأمم المتحدة، جلعاد أردان؟
لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير. ولكن برغم ذلك لا يمكن القول بأن هذا الحق متاح بشكل مُرضٍ حتى في الدول «الديمقراطية»
لقد أطلق كلاما خارج اللباقة ولا يخدم الأمن والاستقرار الدوليين. ونقلت صحيفة معاريف الإسرائيلية عن جلعاد أردان إنه «يجب إغلاق مبنى الأمم المتحدة ومحوه من على وجه الأرض». وكان قد دعا في الشهر الماضي إلى إغلاق مجمع الأمم المتحدة في القدس، وترحيل رؤساء الوكالات المتمركزة في «إسرائيل» من أجل «إرسال رسالة واضحة مفادها أن استمرار انحياز واستغلال الأمم المتحدة ضد إسرائيل سيكون له ثمن».
ليست هناك حرية مطلقة، هذه المقولة صحيحة أيضا، فلا بد أن تكون هذه الحرية مسؤولة لكي لا تخلق أزمات أخرى كنشر الظلم أو الفساد أو الرذيلة. ويمكن القول إن المحدِّد الأهم لحرّيّة التعبير مفهوم «السلم الاجتماعي» فإذا كان الكلام وقودا لنيران التوتر والصراع فليس من المصلحة إطلاقه. وحتى في أعرق النظم الديمقراطية هناك قدر من المراعاة لمسائل السلم الاجتماعي والأمن الوطني. والمعروف أنه في حالات الحرب فإن قيودا إضافية تفرض على الصحافيين لمنع تسرّب معلومات عسكرية حساسة قد تؤثر على مجرى النزاع. وقد كثر السجال حول قضية «جوليان أسانج» الذي نشر بعض المعلومات التي اعتبرتها السلطات الأمريكية خرقا للأمن القومي، فبدأت محنته بعد أن سعت السلطات الأمريكية لاعتقاله، فلجأ ألى سفارة «إكوادور» في لندن وبقي فيها سبع سنوات. وانتهت الأزمة في شهر يونيو الماضي بإطلاق سراح مؤسس موقع التسريبات الشهير «ويكيليكس» من محكمة أمريكية بعد إجباره على الاعتراف بالذنب في اتفاق قضائي أنهى معركة قانونية استمرت سنوات. تضمن الاتفاق الذي لم يجد أسانج مجالا لرفضه «اعترافه بالذنب» بتهمة التآمر للحصول على معلومات تتعلق بالدفاع الوطني ونشرها.
ولإعادة قراءة حرّيّة التعبير يجدر مراجعة ما يتصل بها من تطورات في الشهور الأحد عشر الأخيرة التي أعقبت حوادث 7 أكتوبر. فقد قتل خلالها حوالي 110 صحافيين وعاملين في وسائل الإعلام، من بينهم 104 صحافيين فلسطينيين، وإسرائيليان اثنان وثلاثة لبنانيين. يُضاف إلى هذه الأرقام اثنان وثلاثون صحافيًا مصابًا، واثنان في عداد المفقودين وأربعة وأربعون معتقلالدى الجيش الإسرائيلي. وتقول لجنة حماية الصحافيين، ومقرّها نيويورك، إن الصحافيين في غزة يواجهون مخاطر كبيرة بشكل خاص، فهم مستهدفون من القوات الإسرائيلية التي تضررت سمعتها كثيرا بسبب التقارير الدولية المتواصلة التي تؤكد تورطها في ارتكاب جرائم حرب واسعة.
إن الحديث عن حرّيّة التعبير فضفاض جدا نظرا لمحدّدات تلك الحرّيّة التي تختلف صرامتها من بلد لآخر. ولكن الحديث عن هذه الحرّيّة يجب أن يكون من منطلق تعريفه في الظروف الطبيعية وليس في حالات الاستثناء كالحرب والكوارث الطبيعية. ففي الأساس يجب أن يكون هناك اعتراف دولي شامل بأهمية حرّيّة التعبير كحق ثابت للإنسان، يتجاوز الحدود الجغرافية والخصوصيات العرقية أو الدينية. ويُفترض أن تكون البلدان الإسلامية أكثر حماية لهذا الحق الذي يؤكد انتماء الفرد للجنس البشري القادر على التعبير عن الموقف. فهذا الحق ملازم لإنسانيته، ومنعُه يعني حرمانا غير مقبول. فهذا الحق يساهم في استقامة الأفراد والمجتمعات والحكومات وتوضيح المفاهيم والحقائق، ويحول دون توسع دائرة الاستبداد، ويوفر رقابة عامة على المؤسسات الرسمية والشعبية، وبدون السماح بممارسة هذا الحق لا يشعر الفرد، أيا كان موقعه، بوجود رقابة عامة على المسار الاجتماعي والسياسي، مهما كان عمق الإيمان بالرقابة الإلهية التي تراقب الفرد تفصيلا: «ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد». فليس هناك منع لممارسة التعبير، ولكن ممارسة هذا الحق تخضع للرقابة الإلهية التي وضعت محدّدات تهدف لحماية حق الأفراد في الحماية من تزييف الحقائق او التضليل الناجم عن الجهل او الاستخفاف بالعقول أو عدم تحرّي الدقّة.
إن مجتمعاتنا في حاجة للحرّيّات العامة، فهي الطريق التي تفتح للمواطنين طريق المشاركة العملية في مشروع بناء الدولة الحديثة، وبدون ذلك سوف تبقى الدولة وهمومها بعيدا عن هموم المواطنين وخارج اهتمامهم.
كاتب بحريني
نعم–كل الذين يدعون بحرية الكلمة يريدون منا ان نخرص–والكلمة حقا لنا وعلينا–كلمة حق امام سلطان جائر فرض عين
لم يبقى فى هذا العالم لا حرية رأي ولا تعبير. أمريكا تعتقل من يتكلم ضد الصهاينة وكذلك المانيا و فرنسا. المصيبة انهم يحاولون سن قوانين جديدة ضد من يعبر عن رأيه فى الصهاينة. نحن نعيش فى عالم من النفاق والزندقة. ولا حول ولا قوة الا بالله. رحم الله عمر بن الخطاب عندما قال قبل 1400 سنة متى إستعبتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا. لتتعلم أمريكا وفرنسا و أمانيا و بريطانيا.
قد استولت طبقة من الديكتاتوريّين على الحكم في معظم دول إفريقيا الغنية بثروات طبيعيّة لا تُعدُّ و لا تُحصى، من نفط و فسفاط و معادن متنوِّعة علاوَةً على ثروة هائلة من الأسماك و الرّخويات، و لكنّ شعوب هذه الدول تعيش تحت براثِن الفقر المُدقع، فالحُكْمُ و طبقة محيطة به هي التي تنْهَب و تسرِق هذه الثروات بالملايير من الدولارات، و كلّ مَنْ تُسوِّل له نفسه من هذه الشعوب فَضْح ما يقوم به هؤلاء الحُكّام فمَصيره السجن.. لا تنتظرْ من الحكم الشمولي ان يمنح حرية التعبير و الرأي للشعوب، فهو حكم مُتسلِّط لمْ تخْتَرْه الشعوب، لذلك فهو يُغطّي استبدادَه بخلق مؤسسات دستورية مغشوشة يتولّاها المُحيطون بهذا الحُكْم.