في البداية كانت مالي ثم بوركينا فاسو وغينيا والسودان وأخيرا النيجر، حيث امتد حزام الأنظمة العسكرية على منطقة الساحل والصحراء الأفريقية من المحيط الأطلنطي غربا للبحر الأحمر شرقا، وهو حزام يمتد على مسافة 3.500 ميلا . ففي 30 تموز/يوليو 2023 قام الحرس الجمهوري القوي في النيجر بالانقلاب على الرئيس المنتخب، محمد بازوم واعتقاله في القصر الجمهوري، وكانت جمهورية النيجر قطعة الدومينو الأخيرة في الانقلابات العسكرية التي شهدتها منطقة الساحل في السنوات الأخيرة. ولا تزال الصورة غير واضحة في المشهد النيجري، حيث تهدد المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا «إيكواس» باستخدام كل ما لديها من قدرات لإعادة الرئيس المخلوع بازوم، وفي الوقت نفسه طالب الرئيس الأمريكي جو بايدن بالإفراج عن الرئيس بازوم وتأمين الحماية له ولعائلته. ودعا بازوم نفسه بمقال نشرته صحيفة «واشنطن بوست» (4/8/2023) العالم لإنقاذه وندد بمزاعم الانقلابيين وأنهم تحركوا لإنقاذ البلاد ووصف نفسه بالرهينة.
الانقلابيون بدورهم قاموا بالرد على محاولات إيكواس بالقوة. واتهموا فرنسا وأنها كانت تخطط لعملية عسكرية لإنقاذ بازوم وهو ما نفته الحكومة الفرنسية.
وما هو واضح في سلسلة الانقلابات العسكرية الأخيرة في منطقة الساحل أنها تشترك في شيء واحد: الترحيب الشعبي بها ورفض السكان للنخب الحاكمة المنتحبة ديمقراطيا، ورفع الأعلام الروسية في التظاهرات إلى جانب تحويل فرنسا، الدولة المستعمرة السابقة إلى كبش فداء. وليس غريبا بدء فرنسا في 1 آب/أغسطس بعمليات إجلاء لمواطنيها ومواطني الدول الأوروبية عن النيجر، فيما أبقت على قواتها المنتنشرة في النيجر.
وخلف الصورة تصارع النخب العسكرية التي تشعر أن حظوظها باتت مهددة من الأنظمة المنتحبة، إلى جانب فشل الأنظمة المحلية في تخفيف الفقر وتحقيق الأمن والاستقرار في البلاد. والبعد المهم في صراع السلطة في الدول الأفريقية هو الصراع القائم بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين وطموحات دول مثل تركيا والصين وروسيا لتوسيع مصالحها في القارة الأفريقية. وما يحدث في الدول الأفريقية هي تغيرات جيلية، لم يعد فيها الجيل الجديد راغبا بتلقي الأوامر من المستعمر القديم الذي يواصل لعب دور الأب والحامي للنخب الحاكمة التي ارتبط مصيرها بمصير باريس. وما كشفت عنه الانقلابات الأخيرة هو فشل الجهود الغربية في عمليات مكافحة الإرهاب، وخاصة مالي التي نشرت فيها فرنسا آلافا من الجنود لوقف تقدم الجهاديين منذ 2013 إلا أن النخب العسكرية الحاكمة ومعظمها تلقى تدريبه على أيدي الأمريكيين أو الدول الأوروبية حرفت نظرها عن فرنسا وتحالفت مع روسيا التي أرسلت المتعاقدين من شركة فاغنر لتدريب الجنود الماليين ومشاركتهم في عمليات مكافحة التمرد الإسلامي. وبررت النخبة الحالية انقلابها على الحكومة المدنية بأنها فشلت في مهمتها التي كلفها الناخبون بها، وهو نفس ما جاء في خطاب الجنرال عبد الرحمن تشياني، حاكم النيجر الجديد الذي نصب نفسه في الحكم، في خطاب متلفز يوم الجمعة «قررنا التدخل».
وترك التدخل العسكري في النيجر أصداءه خارج النيجر التي تعتبر من أفقر بقاع العالم وغير المفتوحة على البحر. فمن ناحية، هناك ما يثيره الغرب عند كل انقلاب عسكري، ضربة للديمقراطية في أفريقيا إلا أن التحرك اثار تساؤلات للأمريكيين وحلفائهم حول المهام القتالية ضد المسلحين الإسلاميين.
ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» (29/7/2023) عن بول كوليير، أستاذ الاقتصاد والسياسة العامة في مدرسة بلافاتنيك الحكومية في أكسفورد قوله: «إنني قلق للغاية من أن منطقة الساحل الأفريقي سوف تنهار». فقد تفوقت منطقة الساحل على منطقة الشرق الأوسط وجنوب آسيا لتصبح المركز العالمي للعنف الجهادي، حيث سجلت 43 في المئة من 6701 حالة وفاة في عام 2022 ارتفاعا من 1 في المئة في عام 2007 وفقا لمؤشر الإرهاب العالمي، وهو دراسة سنوية لمعهد الاقتصاد والسلام.
وحتى الانقلاب كانت النيجر حجر الزاوية في استراتيجية البنتاغون الإقليمية. يتمركز ما لا يقل عن 1100 جندي أمريكي في البلاد، حيث بنى الجيش الأمريكي قواعد للطائرات المسيرة في نيامي ومدينة أغاديز شمال البلاد، واحدة بتكلفة 110 ملايين دولار.
الآن، كل هذا في خطر، وأنفقت الولايات المتحدة حوالي 500 مليون دولار لدعم النيجر. وترى الولايات المتحدة أن الآمال ضئيلة لعكس الانقلاب. فالمنطقة وإن تحولت إلى مسرح للمناورات الجيوسياسية إلا أن التحركات العسكرية هي تعبير عن مزيج متفجر من العوامل المحلية، ففي غينيا، برر قادة الانقلاب أفعالهم بالتعبير عن الغضب الشعبي من الفساد المستشري. في مالي وبوركينا فاسو، زعموا أن لديهم حلا لموجة التشدد الإسلامي التي ابتليت بها بلادهم. وفي الواقع، انتشر عنف المتمردين تحت قيادة المجالس العسكرية، ما أدى إلى تسريع دوامة عدم الاستقرار.
وقالت مجلة «إيكونوميست» (2/8/2023) إن العنف زاد بنسبة 150 في المئة بمنطقة الساحل منذ خروج القوات الفرنسية من مالي قبل عام. وفي بوركينا، اقتربت الهجمات التي كانت في السابق محصورة في شمال البلاد من العاصمة في الأشهر الأخيرة. وفي مالي، حيث استبدل الجيش 5000 جندي فرنسي بحوالي 1000 من مرتزقة فاغنر، ارتفع عدد القتلى المدنيين، وفقا لمشروع بيانات أحداث الصراع المسلح، الذي يتتبع الخسائر. وتضم منطقة الساحل بعضا من أفقر دول العالم وأعلى معدلات المواليد (النيجر، حيث متوسط إنجاب المرأة سبعة أطفال، تتصدر القائمة) وتضخم أعداد الشباب المحبطين والعاطلين عن العمل في صفوف المتمردين، ويظهر تضخم عدد الشباب بين الانقلابيين أيضا. وقاد معظم عمليات الانقلاب الأخيرة رجال في الثلاثينيات أو أوائل الأربعينيات من العمر، في قارة يكون فيها القائد العادي في الستينيات من العمر. فالنقيب إبراهيم تراوري، الذي كان يبلغ من العمر 34 عاما فقط عندما استولى على السلطة في بوركينا فاسو العام الماضي، هو أصغر رئيس دولة في العالم. ووجد تقرير حديث للأمم المتحدة عن الانقلابات في أفريقيا أن البلدان الأفريقية شهدت 98 انقلابا ناجحا منذ عام 1952. قال جوناثان باول، الأستاذ المساعد بجامعة سنترال فلوريدا، إن معظم الانقلابات حدثت في السودان، حيث أدت عملية الاستيلاء الأخيرة، في عام 2021 إلى نزاع عسكري متفجر تحول مؤخرا إلى حرب واسعة النطاق. وقد تراجعت الانقلابات إلى أدنى مستوى لها في العقد حتى عام 2017 وهي الفترة التي شملت الربيع العربي والإطاحة بالحكام المستبدين منذ فترة طويلة مثل مصر حسني مبارك. ثم تأرجح البندول بقوة في الاتجاه المعاكس. وفي تشاد، الاستيلاء على السلطة تقليد عائلي. تولى حاكم البلاد، محمد إدريس ديبي، السلطة في عام 2021 بعد مقتل والده، الذي وصل إلى السلطة في انقلاب عام 1990، في معركة.
ورغم كل هذه الأشكال إلا أن النيجر بدت مختلفة، على الرغم من تاريخ طويل من الانقلابات، بدا أن الدولة التي تهيمن عليها الصحراء ويبلغ عدد سكانها 25 مليون نسمة في طريقها إلى الاستقرار في عهد بازوم، الذي تم انتخابه رئيسا في عام 2021 وكان يحرز تقدما ضد المسلحين، ويبدو أنه حظي بدعم القوات المسلحة واحتفى به الغربيون ذوو النفوذ. وجلس على المنصة مع بيل غيتس وميليندا فرينش غيتس في حديث في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وتم تقديم بازوم المبتسم على أنه «محارب جنساني» لتعزيز تعليم الفتيات وتقليل معدل المواليد. لكن بعد ذلك ظهر عامل شخصي: التوترات مع رئيس الحرس الرئاسي، الجنرال عبد الرحمن تشياني، التي يبدو أنها تسببت بتمرد الأسبوع الماضي، كما قال الدكتور إيزاكا سوار، مؤلف كتاب عن الانقلابات في غرب أفريقيا.
دخول روسيا
في قلب القلق الأمريكي والغربي بشكل عام، وهو أمر ليس جديدا أو مرتبطا بانقلاب النيجر الأخير، هو دخول روسيا التي أخذت في السنوات الماضية ببناء أو إعادة بناء علاقاتها التاريخية التي قامت أثناء الاتحاد السوفييتي، من خلال تزويد الدول بالدعم العسكري وارسال المرتزقة من شركة فاغنر التي اعترف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن دولته تدعمها رغم إنكار الكرملين المستمر لأي علاقة، إلا أن تمرد زعيمها يفغيني بريغوجين، كشف الغطاء عن تشابك مصالح الدولة الروسية مع المرتزقة وكيف أنهم استخدموا كرأس حربة لتوسيع التأثير الروسي في دول أفريقيا. ومع أن دول أفريقيا التزمت الحياد في الحرب الأوكرانية إلا أن روسيا مثلت لبعض الدول، بديلا للتعبير عن غضبها من فرنسا والدول الغربية. وتكرار مشهد أنصار الانقلابيين وهم يلوحون بأعلام روسيا لا يعني أن موسكو تقف وراء الانقلاب، بل وترمز إلى الكيفية التي وضعت بها روسيا نفسها على أنها حامل شعلة المشاعر المعادية للغرب، وخاصة الفرنسيين، في رقعة من أفريقيا في السنوات الأخيرة.
وقد سعى الرئيس الروسي بوتين لاستغلال هذه الفجوة في قمة افريقيا الأخيرة في سانت بطرسبرغ، حيث اقترح تحرير الدول الأفريقية من «الاستعمار والاستعمار الجديد» – حتى مع قيام مرتزقة فاغنر في بلاده باستغلال الذهب والماس الأفريقيين، وارتكاب فظائع ضد المدنيين. وبالنسبة لرئيس فاغنر الزئبقي، بريغوجين، فإن الانقلابات هي فرصة عمل. تعمل قواته بالفعل بشكل علني في مالي والسودان في حزام الانقلابات، وكذلك في جمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا المجاورتين. وأثنى بريغوجين، وهو يحوم على هامش قمة سانت بطرسبرغ الأسبوع الماضي، على الانقلاب في النيجر، ثم اقترح إرسال مقاتليه المسلحين للمساعدة.
تصادم دول الساحل
ورغم اللهجة الجدية البارزة من إيكواس وتكليف قادة الدفاع في دولها، بالتحضير لأي خيار إلى جانب إنذار العسكريين، إلا أن تحرك قادة دول غرب أفريقيا بقيادة نيجيريا يؤشر من جهة إلى مرحلة مختلفة من السياسة الإقليمية. وقال أليكس فاينز، رئيس برنامج أفريقيا في تشاتام هاوس، وهي مؤسسة فكرية مقرها لندن، لصحيفة «فايننشيال تايمز»: «هذا هو المكان الذي ربما أخطأ المجلس العسكري في نيامي في تقديره. ربما يكونون قد افترضوا استجابة ضعيفة من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا كما كان الحال في مالي وبوركينا فاسو. لكن المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا وضعت خطا في الرمال. تم تكليف مخططي الدفاع بالتخطيط للتدخل – هذا ليس خدعة». وفي تصعيد للرهانات، أصدر النظامان في مالي وبوركينا فاسو بيانهما المشترك يوم الاثنين، محذرين من أن تدخل المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا في النيجر قد يؤدي إلى رد عسكري من دولتيهما. وتتوخى القوى الغربية، وعلى رأسها فرنسا والولايات المتحدة، مزيدا من الحذر وحرصا على عدم تأجيج نيران المشاعر المعادية للغرب التي اندلعت حول الانقلابات في بوركينا فاسو ومالي المجاورتين. وقالت صحيفة «وول ستريت جورنال» (1/8/2023) إن الانقلاب أدى لمواجهة بين الدول المتحالفة مع روسيا في غرب أفريقيا والدول التي عملت بشكل قريب مع الولايات المتحدة والقوى الغربية. وبدأت عمليات الإجلاء فرنسا- المستعمر القديم للبلد- ويظهر أن الحكومات الغربية باتت تتعامل مع الوضع بطريقة جدية وإمكانية تعرض مواطنيها للخطر في بلد كان مهما لجهود الولايات المتحدة في مكافحة التيارات الجهادية بمنطقة الساحل والصحراء الأفريقية. ويخشى المسؤولون الغربيون من اقتراب النخبة العسكرية التي أطاحت ببازوم أكثر لروسيا، وبخاصة لو قررت فرنسا والولايات المتحدة قطع الدعم العسكري والمالي. وكشف الانقلاب في النيجر عن انفسامات بين الجيران في دول غرب أفريقيا، حيث شهد العديد منها انقلابات ضد الحكومات المنتخبة. ودعمت نيجيريا زعيمة المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ايكواس) بازوم، وخاصة أن حدودها تمتد على مسافة 1.000 ميل مع النيجر. وربما كان الطرفان يصدران تهديدات فارغة من ناحية التدخل العسكري، خاصة أنهما ليسا مهتمان بنزاعات حدودية، كما يقول كاميرون هدسون، مدير طاقم المبعوث الأمريكي السابق للسودان. وتواجه مالي وبوركينا فاسو أعباء من ناحية العمليات العسكرية الحدودية ضد المتشددين الإسلاميين، وتواجه نيجيريا معارضة من داخل الجيش لو قررت التدخل، فهي القوة الاقتصادية الأولى في المجموعة وعليها قيادة المهمة لو حدثت. وقال هدسون إن التهديدات من بوركينا فاسو ومالي زادت من الرهانات المالية والعسكرية لأي تدخل في النيجر، وركزت ضوءا على التأثير الروسي في المنطقة.
وقائع انقلاب
وقالت «وول ستريت جورنال» (4/8/2023) إن سلسلة من الأخطاء الأمريكية وسوء التواصل قد تفتح المجال أمام دخول روسيا، لو نجح الانقلاب، وبالتالي، فسترث قواعد للمسيرات. وفي الوقت الذي جلس فيه بازوم في الغرفة يتصل طالبا المساعدة وجدت أمريكا نفسها وسط توتر قد يقود لحرب مع الدول المؤيدة لروسيا بالمنطقة.
وتقول الصحيفة إن عملية الانقلاب بدأت بفكرة لتغيير قيادة الحرس وإعادة تشكيل القوى الأمنية، حيث شعر الحرس الرئاسي أنه مهمش وسط تدفق المال لوحدات مكافحة الإرهاب، وكانت المخابرات الفرنسية قد حذرت باريس من المخاطر على الحليف في نيامي، لكن لا فرنسا أو الولايات المتحدة التقطت الرسائل.
وقدمت الصحيفة وصفا لوقائع الانقلاب في النيجر وكيف قام رئيس الحرس الجمهوري عبد الرحمن تشياني الذي حمى بوحدته قادة البلاد على أكثر من عقد بالتحرك، ولم يكن هو ورجاله قادرين على محاصرة القصر الجمهوري إلا أن قيادة الجيش لم يكن لديها فكرة بشأن من تقف معه، وكانت تنتظر حتى تنجلي الأمور عن الرابح.
وقالت الصحيفة إن قادة الانقلابات الجدد كانوا في ضيافة بوتين بمؤتمر سانت بطرسبرغ، حيث اجتمع رئيس بوركينا فاسو ومالي أسيمي غويتا لتنسيق الرد. وأخبر تراوري بوتين أن بلاده تدعم غزو أوكرانيا. وعلى العموم فإن نتيجة المواجهة الحالية بين العسكر في دول الساحل والصحراء والمتحالفين مع الغرب، مصير التأثير الأمريكي والفرنسي، والغريب أن الرئيس إيمانويل ماكرون وعد في خطاب للأفارقة عام 2017 بعلاقة متساوية تختفي فيها فكرة السيد والتابع، لكن ماكرون ظل يتصرف بطريقة السيد، وخسر الحضور الفرنسي شيئا فشيئا، وبالنسبة لأمريكا التي حولت النيجر إلى قلعة تأثير ومركز عمليات، فقد ظلت بدون سفير لينسق الأمور ولم تعين سفيرا لدى الاتحاد الأفريقي. وطالما استفادت روسيا من التخبط الغربي في أفريقيا ولم تقرأ أمريكا أو فرنسا تغير الولاءات، وظلت سياسة واشنطن غير متوازنة، فمحمد ديبي، رئيس تشاد دعي إلى قمة أفريقيا بواشنطن العام الماضي، وفرش له البساط الأحمر، مع أنه قتل أكثر من خمسين متظاهرا طالبوا بإنهاء الحكم العسكري.