يُراهن «حزب الله» على المعركة البرية وحرب الاستنزاف وعلى الأكلاف الإسرائيلية السياسية والعسكرية والاقتصادية وتعب الإسرائيليين وعدم قدرتهم على تحمل حجم الخسائر البشرية والتعب والإنهاك. هي الرهانات نفسها عند اندلاع «حرب غزة» بعد عملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023. فإذا بالعقيدة العسكرية الإسرائيلية التي بُنيت عليها حسابات «محور إيران» قد أضحت في مكان آخر مغاير كلياً لكل السرديات السابقة.
كان «منظرو المحور» يُعبِّرون على الدوام عن قناعة راسخة بأنه إذا شنت إسرائيل حرباً مدمرة على «حزب الله» فإن طهران ستتدخل بالمباشر في تلك الحرب، ذلك أن وظيفة «حزب الله» العسكرية هي حماية بوابة طهران، والعملية الحسابية البسيطة تقول: إذا سقط «حزب الله» في لبنان، فسيسقط نظام الجمهورية الإسلامية في إيران.
العملية الحسابية البسيطة إذا طبَّقناها على وضع «حزب الله» تُظهر بوضوح أنه ما قبل سنة كان «الحزب» أقوى بقدرته على فرض «معادلة توازن الردع» مع إسرائيل، عما أصبح عليه بعد انخراطه في «حرب الإسناد» في اليوم التالي لـ»طوفان الأقصى» في 8 تشرين الأول/أكتوبر.
كان هاجس إيران إبقاء الحرب مضبوطة تحت سقف قواعد الاشتباك، فكان أن دفع «الحزب» ثمناً باهظاً في ملاحقة إسرائيل لقياداته الميدانية على مدى الأشهر التسعة، لكن الثمن ما عاد يُقارن مع عملية «تفجير أجهزة النداء» (البيجرز) قبل قرابة الشهر والنصف في 17 أيلول/سبتمبر، والتي أخرجت دفعة واحدة نحو 4000 مقاتل من الخدمة. وما عاد ذلك التاريخ يُقاس بما حصل بعده بأيام حين تمَّ الإجهاز على قيادات الصف الأول في «الحزب»، وفي مقدمهم الأمين العام السيّد حسن نصرالله، ليعاود الارتفاع في مؤشراته السالبة مع الهجوم الجوي المدمر في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية المترافق مع التوغّل البري الإسرائيلي في الجنوب اللبناني من الحدود الشمالية.
هو تراجع في قدرات «حزب الله» العسكرية نجحت المنظومة الأمنية – الاستخباراتية ـ العسكرية الإسرائيلية في تحقيقه، لكن هدف القيادة الإسرائيلية وعلى رأسها بنيامين نتنياهو ليس توجيه ضربات مؤلمة لـ»الحزب» يمكن أن يتعافى منها لاحقاً، بل تفكيكه عسكرياً وتسليم سلاحه إلى الدولة. لن يتوقف الرجل قبل إنهاء التهديد الذي يُشكِّله «حزب الله» ليس فقط على سكان الشمال الذين وعدهم بالعودة وضمان حمايتهم لعقود طويلة، بل على العمق الإسرائيلي.
من هنا، تذهب التقديرات إلى أن الحرب طويلة، وستكون أكثر قسوة على مناطق نفوذ «الحزب» وبيئته الحاضنة تدميراً وقتلاً وتشريداً، على أقله في الشهرين المقبلين، حيث ستكون يد نتنياهو مطلقة بالكامل إلى حين استلام الإدارة الأمريكية الجديدة مهامها، بغض النظر عما إذا كان الجمهوريون سيصلون إلى البيت الأبيض، أم ستبقى الرئاسة بيد الديمقراطيين.
موازين المعركة
يجهد «حزب الله» ومن خلفه إيران، التي تخوض المواجهة مع إسرائيل على ملعب لبنان، أن توقع بالقوات الإسرائيلية المتوغلة برياً خسائر كبرى علها تُعدِّل في موازين المعركة الدائرة على الأرض. ورغم ما يظهره مقاتلو «الحزب» من شجاعة في القتال، فإن المتابعين لمجريات المعركة يرون اختلافاً كبيراً بين حرب 2006 وحرب 2024 لجهة الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية التي أخذت العِبَر من «حرب تموز» وبنت خططها مستفيدة من أخطائها في مواجهة لم تكن مستعدة له حينذاك كما استعدت اليوم. وبعيداً عن التصريحات الإعلامية حول إخفاق القوات الإسرائيلية في التقدّم، فإن بيانات «الحزب» عن عمليات إطلاق صواريخه على تجمعات الجنود الإسرائيليين داخل القرى الحدودية وآخرها حي المسلخ في الخيام ذات التلال الاستراتيجية، كفيلة بأن تؤشر إلى البقع الجغرافية التي وصل إليها الجيش الإسرائيلي. فما يأتي من الشريط الحدودي من مشاهد وفيديوهات يدل على أنّ الجيش الإسرائيلي سوّى بلدات في الحافة الأمامية بالأرض، وجعلها أرضاً محروقة غير قابلة للحياة، وهو ما تظهره أيضاً «الفيديوهات» عن تفجيره أنفاقاً وأبنية في البلدات التي يتقدَّم إليها، بحيث بات وصوله إلى نهر الليطاني مسألة وقت، حتى ولو كانت كلفة خسائره مرتفعة، وهي ليست كذلك برأي خبراء عسكريين، إذا أخذنا بالاعتبار طبيعة الجغرافيا اللبنانية الصعبة، واستعدادات «الحزب» منذ سنوات لما كان يُسمِّيه «الحرب الأخيرة». ولعل التساؤل الذي يعتري الجميع هو: هل ما يعيشه لبنان اليوم سيكون الحرب الأخيرة بين إسرائيل و«حزب الله» أم أننا سنكون في نهاية المطاف أمام وقف إطلاق نار وهدنة من دون حلول نهائية تؤسِّس لحرب جديدة في المستقبل؟
ليس هناك من شك في أن إسرائيل ماضية بسياسة قطع الأذرع الإيرانية بغطاء أمريكي – غربي، فبعد تغيير المعادلة في غزة لجهة الإجهاز على حركة «حماس» عسكرياً، تقوم بالمهمة نفسها بالنسبة لـ»حزب الله» في لبنان التي لن تكون سهلة نظراً إلى مداه الجغرافي وامتداده الحيوي من بيروت إلى طهران. لكن ضرب مخازنه في سوريا والعمل على قطع طرق إمداده والاستهداف المركّز لحديقته الخلفية قد يجعل الهدف ممكناً، وإن لم تكن هناك أوهام بأن ذلك سيستغرق وقتاً زمنياً لم يحدد نتنياهو سقفاً له، بل قال إنها طويلة، بعدما اعتبر أن المسألة الآن لا تتعلق بالاتفاقات.
كل الرهانات على التوصل لوقف إطلاق نار في غزة على مدى سنة من عمر الحرب سقطت. نجحت هدنة واحدة لأيام ولم تتجدد رغم كل محاولات الوسطاء والضغوط الداخلية على نتنياهو للتوصل إلى صفقة تُخرج الرهائن الإسرائيليين لدى «حماس». هذا «السيناريو» سنشهد له تكراراً مع لبنان الرسمي الذي يفاوض بالنيابة عن «حزب الله» والذي شهدنا نموذجاً عنه في المساعي الأخيرة لموفدَي الرئيس الأمريكي آموس هوكشتاين وبريت ماكغورك قبل أيام.
ذهب الأمين العام الجديد لـ»حزب الله» الشيخ نعيم قاسم إلى القول، في أول خطاب له، إن «الحزب» لن يستجدي وقفاً لإطلاق النار، لكنه في حقيقة الأمر حاجة ضرورية له ولإيران التي ستدخل في فصل جديد من المواجهة المباشرة مع إسرائيل من خلال إعلانها أنها سترد من جديد على الرد الإسرائيلي، وهو رد سيستجلب رداً جديداً من تل أبيب قد يكون متحرراً أكثر من الضوابط التي مارستها عليه إدارة جو بايدن، ولا سيما إذا وصل ترامب إلى البيت الأبيض.
على أن اللافت في كلام قاسم إشارته إلى أن «الحزب» بعد الحرب سيكون أقوى في الحضور السياسي الداخلي، وهو كلام يستبطن قراءات عدة، تبدأ بقرار يشدّد على الحفاظ على دور «الحزب» في الداخل اللبناني وبالتالي ضمان تأثير إيران فيه، وحماية مكتسباتها بالحصول على موطئ قدم على البحر المتوسط، ولا تنتهي بمخاوف تعتري قوى سياسية لبنانية من ارتداد «الحزب» إلى الداخل تعويضاً له عمّا سيخسره من الدور العسكري.