«مساء الخير يا دمشق… لأول مرة»
هي الكلمات التي بدأ بها الفنان حسن نخلة، أحد أعضاء فرقة «توت أرض» الموسيقية، أول حفل له على الإطلاق في العاصمة السورية دمشق، المكان الذي كان محروماً من زيارته كل حياته، واليوم بات الأمر متاحاً بعد سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد.
على مدار ثلاث ساعات، استمع جمهور متشوق ومتعطش لإعادة إحياء المشهد الثقافي والفني السوري، الذي ظلّ راكداً لسنوات طويلة، إلى أغنيات فرقة «توت أرض» التي نشأت في الجولان السوري المحتل وتتناول تعقيدات الحياة والهوية فيه، إلى جانب مغنية الجاز لين أديب، وفرقة الروك «طنجرة ضغط» المكوّنة من عازف غيتار الباص خالد عمران وعازف الغيتار طارق خلقي وعازف الدرامز داني شكري، ضمن حفل نظمه مطلع هذا الأسبوع فريق مشروع «أرشيف الشرائط السورية» المعني بتوثيق الذاكرة والتراث.
وقد استمد الحفل أهميته وخصوصيته ليس فقط من مكانة الفنانين المشاركين فيه، بل أيضاً لكونه حدثاً غير مسبوق خلال العقد الأخير، إذ غاب عن البلاد مئات الفنانين الذين أبعدوا بسبب الأوضاع السياسية، أو نتيجة مواقف واضحة مناهضة للنظام السابق، لكنهم اليوم يعودون ليكونوا موضع ترحيب وانتظار من الجمهور، وهم أنفسهم متشوقون لأن يكون لهم دور واضح في المرحلة المقبلة من تاريخ البلاد. كما ذهب ريع الحفل لدعم رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا.
«لكل منا دور في كتابة القصة السورية»
تصوير: محمد نمور
قبيل بدء العرض وأثناء التحضيرات، تجوّلت «القدس العربي» في كواليس الحفل، وتحدث إلى الموسيقيين، الذين اعتبروا بأن ما يحدث «أشبه بحلم منتظر منذ سنوات طويلة لكنه كان مستبعداً إلى حد كبير، واليوم يبدو أنه معجزة حقيقية». البعض أشاروا إلى أنهم يكادون لا يصدقون بأنهم في دمشق، يسيرون في شوارعها القديمة ويسمعون الناس وهم يتكلمون، ويتناولون الطعام والشراب ويعيشون التفاصيل اليومية، ويشعرون بالسلام والراحة، والأهم أنهم سيعزفون أمام جمهور سوري حقيقي. ولعل هذا الحدث هو بالنسبة إليهم علامة فارقة في رحلة البحث عن الهوية والانتماء، وهو أمر يشترك فيه سوريون كثر بعد سنوات الحرب والهجرة والتشرد في أصقاع العالم.
بالنسبة إلى لين أديب التي غادرت سوريا عام 2009 ودرست الموسيقى في باريس، فهي أحيت حفلاً وحيداً في سوريا خلال سنوات الحرب، لكنها اليوم تعود بمزاج مختلف جداً وهي التي لم تكن تتخيل بأن تتاح لها فرصة قريبة للغناء في سوريا، وتشعر بأن المزاج العام في المدينة يشبه أيام ما قبل الحرب، حين كان عشرات الموسيقيين من كل مكان يجتمعون ويحضرون لحفلات موسيقية في الطرق وكل مكان متاح. «أن أكون هنا مع هؤلاء الموسيقيين الذين تغربوا قسراً عن بلادهم كل هذه السنوات، أمر جيد لدرجة يصعب تصديقها»، تقول أديب لـ»القدس العربي»، وتأمل بأن تحمل الفترة المقبلة استقراراً وتحسناً في أوضاع البلاد كي يكون فعلاً للفن والثقافة دور مهم فيها. وتضيف شارحة: «كي لا نكون رومانسيين فقط، فالأوضاع الحالية في سوريا صعبة للغاية، خاصة على المستوى الاقتصادي، وكي تصبح الثقافة في متناول الجميع، لا بد من تحسن الأحوال المعيشية وأن نتمكن من دخول كل مدينة وقرية سورية، وإلا سيبقى الأُثر محدوداً ولن نقدم الفن إلا لفئة معيّنة نخبوية». هذه العودة إلى سوريا لا تعني للين فقط الغناء أمام جمهور سوري داخل البلاد، وإنما أن تكون لها مساهمة أوسع في هذا المشهد مستقبلاً: «لكل منا اليوم دور في كتابة القصة السورية المقبلة. أنا من الأشخاص الذين سافروا وباتت هويتهم مزيجاً من هويات مختلفة محلية وغربية، لكن هويتي السورية تبقى الأقوى وهي التي ستدفعني في الفترة المقبلة لمزيد من العمل داخل سوريا لبناء المشهد الثقافي المقبل».
«مشاعر مختلطة»
لم يتوقع خالد عمران الذي عمل طويلاً في سوريا قبل مغادرتها عام 2011، بأن يعود بهذا الشكل المفاجئ ليعزف مع فرقته «طنجرة ضغط» التي تأسست ما قبل الحرب، وانتقلت إلى بيروت لتأخذ هناك هويتها الواضحة، واليوم يجتمع أعضاؤها على نحو لم يكن منتظراً، في دمشق. «مع ورود الأخبار حول سقوط النظام السوري، كنت أفكر على الفور بأنني أريد الذهاب إلى سوريا، على الأقل لزيارتها وليس بالضرورة للعزف فيها، وها نحن ذا نجتمع من جديد أمام جمهور لا نعرفه بالضرورة، وأشعر بفرحة كبيرة»، يقول عمران في حديث لـ»القدس العربي». ويرى بأن ما يحدث فرصة تستدعي أن يعود المغتربون ليستكشفوا الإمكانيات الموجودة والدور الذي يمكن أن يكون لهم في الفترة المقبلة، كل حسب قدراته ومهاراته، «لكن من الضروري أن نفتح المجال للمساهمة في بناء المشهد الجديد»، يضيف.
بشكل مشابه، لم يزر عازف الغيتار طارق خلقي مدينته منذ عام 2011، ولم يعزف ضمن أي مكان فيها. كانت العودة بالنسبة إليه فكرة مستحيلة، لكنها تحققت ببساطة. «وصلت منذ أيام، نمت عميقاً، يرافقني شعور غريب منذ اللحظة التي قطعت فيها الحدود بين لبنان وسوريا، وحتى لحظات الحفل الآن، فأن نكون هنا معاً في هذه الحالة من الغليان في البلاد هو أمر غريب جداً»، يقول خلقي في حديثه لـ»القدس العربي»، ويأمل أن تتسم المرحلة المقبلة بالاستقرار وتقدير قيمة الفن والفنانين، كي يكون لهم مكان في الحياة الثقافية ويتشجع المغتربون على العودة. يضيف الفنان بأنه لطالما راودته أثناء نومه أحلام حول عودته إلى سوريا، ومن ثم عدم تمكنه من السفر مجدداً، ليستيقظ بمشاعر مزعجة، «لكنني اليوم أستيقظ في منزلي، وفي الحي الذي عشت فيه طفولتي. أشعر بالأمان وأعرف كم هي الحياة بسيطة عندما نكون في بلدنا مقارنة بتعقيدات الغربة، كما عاد إليّ شعور الانتماء بسرعة غريبة وأنا أمشي بين الناس وأسلّم عليهم وألمس طيبتهم وكرمهم».
أما داني شكري الذي اغترب أيضاً عن سوريا لأكثر من عقد، فما زال المشهد الجديد مفاجئاً بالنسبة إليه، وهو يعود ليعزف مع فرقته «طنجرة ضغط» وفي مدينته. ويقول لـ»القدس العربي»: «نحتاج وقتاً لنستوعب كل هذه التغييرات، والآن أشعر بتوتر لوقوفي أمام جمهور جديد، لكنه توتر لطيف، فهناك الكثير من الوجوه التي أعرفها أيضاً، وهناك ألفة في المكان». كما يأمل بأن الفترة المقبلة ستكون مليئة بالفرص الفنية وأن يكون قادراً خلالها على تقديم الكثير كفنان وعازف محترف.
المسؤولية المجتمعية للفن
في ختام الحفل، تحدثت «القدس العربي» مع يامن المقداد، المنتج الموسيقي ومنظم الحفل والمؤسس المشارك لمشروع «أرشيف الشرائط السورية»، عن أهمية هذا الحدث: «الموسيقى والثقافة جزء أساسي من الحياة، ومن المهم أن نستغل مساحة الحرية وهذه الفسحة التي تخلصنا فيها من المخاوف والرقابة والخشية من الاعتقال والترهيب، كي ندعم المشهد الفني، طبعاً مع إدراكنا للمسؤولية التي تترتب عليها هذه الحرية»، ويضيف بأن هذا الحفل توجه أيضاً لدعم واحدة من القضايا المهمة والملحة في سوريا اليوم وهي قضية المعتقلين والمغيبين قسراً، وهي واحدة من عشرات القضايا التي تحتاج الاهتمام.
يشير المقداد إلى أن الواقع بطبيعة الحال ليس وردياً، «فهناك الكثير من التحديات المتعلقة بالبنى التحتية المدمرة، والتراجع بأداء المؤسسات والأماكن التي يمكن أن تستضيف فعاليات كهذه، إلى جانب الهجرة الواسعة للشباب السوري. تحديات هائلة، لكن الأمل كبير والفرصة كبيرة أيضاً».
تصوير: محمد نمور