تحول حقل ظهر العملاق للغاز الذي احتفلت مصر باكتشافه عام 2015، ودخل مرحلة الإنتاج في عام 2017، وأصبحت بفضله عام 2018 دولة مصدرة للغاز بعد أن كانت مستوردة، إلى مصدر للصداع وتبادل الاتهامات بين الشريك المصري، الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية، والشريك الأجنبي الرئيسي، شركة إيني الإيطالية، بسبب تدهور إنتاج الحقل اعتبارا من اب/اغسطس 2023. مصر تتهم «إيني» بالتقصير في تطوير الحقل وعدم ضخ استثمارات جديدة كافية لزيادة الإنتاج، بينما «إيني» تتهم مصر بعدم الالتزام بسداد قيمة الغاز الذي تحصل عليه من حصة الشركة نفسها بمقتضى الاتفاقية بين الطرفين، والتخبط في سياسة الاستثمار بين منطقتي شرق البحر المتوسط وغرب الإسكندرية، وسياسة الاستغلال الجائر للحقل، الذي أدى إلى تسرب المياه داخل مكامن الغاز. وخلال العامين الأخيرين استمر تدهور إنتاج الحقل، ما أدى إلى عجز مصر عن توريد الغاز المحلي إلى إسرائيل والأردن والاتحاد الأوروبي، طبقا لاتفاقيات التصدير طويلة الأمد التي كانت قد سارعت إلى عقدها مع هذه الأطراف في إطار استراتيجية لتحويل مصر إلى مركز إقليمي لتصدير الغاز والطاقة بشكل عام. ومع أن مصر تستورد الغاز من إسرائيل منذ عام 2020، فإن تناقص إنتاج الحقول المحلية أدى إلى اتساع فجوة الإمدادات اللازمة للإنتاج المحلي والتصدير، الأمر الذي دفع حكومة مصر إلى زيادة الاستيراد من الخارج من خلال عقود فورية حسب الحاجة، وهي صيغة مكلفة جدا، تخضع لتقلبات الأسعار في السوق. كما تتحمل مصر أيضا تكلفة إضافية في حال التخلف عن تسوية الأسعار في الموعد أو طلب تأجيل السداد لأكثر من شهر.
كيف استفادت
إيني من حقل ظهر
على مدار السنوات منذ بدأ حقل ظهر الإنتاج استطاعت شركة «إيني» الحصول على إيرادات بقيمة تصل إلى حوالي 10 مليارات دولار، جمعتها من بيع حصص في امتياز التنقيب عن النفط والغاز في منطقة شروق في شرق البحر المتوسط، الممتدة من شمال بورسعيد إلى جنوب قبرص ومن التصدير. «إيني» باعت 30 في المئة من الامتياز إلى شركة روسنفط الروسية مقابل 1.2 مليار دولار إضافة إلى ما يعادل حصتها من الاستثمارات السابقة التي نفذتها إيني. وجدير بالذكر أن شركة قطر للطاقة تملك 19 في المئة من رأسمال روسنفط. كما باعت أيضا نسبة 10 في المئة إلى شركة بريتش بتروليوم البريطانية، ونسبة مماثلة إلى شركة مبادلة الإماراتية. وكانت شركة «إيني» قد حصلت على امتياز التنقيب في منطقة شروق بعد توقيع اتفاقية بين الهيئة المصرية للبترول وشركة «أيوك» الإيطالية للزيت (فرع شركة إيني في مصر). وتبلغ مساحة الامتياز 3765 كيلومترا مربعا في البحر الأبيض المتوسط. وبمقتضى الاتفاقية تعهدت الشركة باستثمار 150 مليون دولار على الأقل في الامتياز، بالإضافة إلى مكافأة التوقيع البالغة 5 ملايين دولار وحفر بئرين استكشافية على الأقل. هذا الامتياز هو المكان الذي تم فيه اكتشاف حقل ظهر (100كيلومتر مربع) في عام 2015.
وما يزال الحقل يمثل علامة بارزة في تاريخ الاكتشافات التي حققتها «إيني» في البحر المتوسط. وكان إنتاج الحقل خلال فترة الذروة (2022) يعادل ما يقرب من 40 في المئة من الإنتاج الكلي للغاز الطبيعي في مصر، بينما كان احتياطي الحقل فقط يبلغ حوالي 30 تريليون قدم مكعب من الغاز. ويتردد في الآونة الأخيرة بين خبراء الغاز في العالم أن الإنتاج هبط أخيرا إلى حوالي 1.5 مليار قدم مكعب يوميا، وأن شركة «إيني» المشغل الرئيسي للحقل، يتعين عليها إعادة تقدير الاحتياطي عند رقم يبلغ حوالي 10 تريليونات قدم مكعب. إذا تأكد إعادة تقييم الاحتياطي عند هذا الرقم، فإنه يمثل ضربة شديدة لطموحات مصر في مجال تصدير الغاز، ويفرض ضرورة مضاعفة قيمة الاستثمارات السنوية في هذا القطاع، بما يساعد على تغطية فجوة الإنتاج وتوفير إمكانيات ملائمة للتصدير من محطتي إنتاج الغاز المسال في إدكو ودمياط. وتبدو «إيني» في الوقت الحاضر أكثر اهتماما باستثماراتها في أفريقيا، وعودتها إلى أنشطتها في ليبيا، وهو ما يتضح من سياسة ضخ الاستثمارات الجديدة، وتوظيف إمكانيات شركة الحفر التابعة لها «سابيم». كما تبدو الشركة أيضا محبطة من سياسة الإنتاج والاستثمار في قطاع الطاقة في مصر، التي أصبحت أكثر تركيزا على مناطق الامتيازات البحرية في غرب الإسكندرية، وإهمال مواصلة الاستثمارات في مناطق شمال بورسعيد وغرب العريش.
متأخرات مستحقة على الحكومة
تواجه الحكومة مشكلة كبرى في علاقاتها مع شركات النفط والغاز الأجنبية العاملة في مصر، تتمثل في تراكم المستحقات غير المسددة عن شراء كميات من حصص الشركاء الأجانب في الإنتاج. ومع أن التأخر في السداد يعتبر إحدى المشاكل المزمنة في علاقة وزارة البترول بالشركات، إلا انها تفاقمت كثيرا في السنوات الأخيرة حتى وصلت إلى حوالي 12 مليار دولار. ومع عجز الحكومة عن السداد توقفت الشركات عن ضخ استثمارات جديدة أو أبطأت عملياتها، وهو ما أنشأ وضعا متأزما في عام 2023 حيث اضطرت مصر إلى تخفيض إمدادات الكهرباء للاستهلاك المنزلي والصناعة بنسبة تصل إلى 13 في المئة تقريبا. وفي العام الماضي تمكنت الحكومة، مستفيدة من تدفقات استثمارية استثنائية، منها صفقة رأس الحكمة، من سداد نسبة كبيرة من المتأخرات المستحقة للشركات. وتقدر قيمة صافي متأخرات الشركاء الأجانب لدى «البترول» بحوالي 5 مليارات دولار بنهاية 2024، منها حوالي 600 مليون دولار تقريبا لشركة «إيني». وتحاول الحكومة حاليا الإسراع بسداد المتأخرات المتبقية لتشجيع الشركات على ضخ استثمارات جديدة، وبالتالي رفع مستوى الإنتاج وتضييق الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك. ومن ناحيتها فإن الشركات، ومن بينها «إيني» تحاول مساعدة الحكومة على مواجهة أزمة نقص العملات الأجنبية، بقبول تسويات تتضمن سداد نسبة من المتأخرات بالعملة المحلية. لكن إحدى المشاكل المترتبة على ذلك تتمثل في تقلبات سعر الصرف.
وبالنسبة لشركة إيني، فإنها كانت قد وافقت على ضخ استثمارات جديدة في حقل «ظهر» تتضمن حفر آبار جديدة في منطقة الامتياز، إضافة إلى إصلاح الآبار المنتجة، التي تراجعت معدلات إنتاجها إلى حوالي نصف ما كانت عليه عندما وصل الإنتاج إلى ذروته عام 2022. وطبقا لخطط الشركة، فإنها كانت بصدد إرسال واحد من أكبر الحفارات البحرية للعمل في حقل ظهر قبل نهاية العام الماضي، لكن ذلك لم يتحقق. السبب، كما أعلنت الشركة هو أن الظروف الجوية الصعبة خلال فصل الشتاء من شأنها أن تعيق عمل سفينة الحفر العملاقة. ومن ثم فإن الشركة أعلنت تأخير وصول الحفار إلى ما بعد انتهاء فصل الشتاء. وإذا افترضنا أن الحفار سيصل إلى منطقة العمل في شهر أيار/مايو المقبل حسبما قالت الشركة، فإن الفترة الزمنية لن تكون كافية لرفع كمية إنتاج الغاز من الحقل ككل إلى 2.3 مليار قدم مكعب يوميا، لغرض تقليص فجوة الإمدادات في فصل الصيف. في هذه الحالة فإن إمدادات الكهرباء ستكون أقل من الاحتياجات الفعلية، الأمر الذي قد يؤدي مرة أخرى إلى تقليل استهلاك الكهرباء إجباريا من خلال أسلوب «تخفيف الأحمال» الذي تلجأ إليه الحكومة. المشكلة الأخرى التي تواجهها الحكومة بسبب انخفاض الإنتاج هي ضرورة استيراد كميات كافية من الغاز المسال والغاز الطبيعي لغرض الوفاء بعقود التصدير المبرمة مع كل من المملكة الأردنية والاتحاد الأوروبي، تجنبا للدخول في نزاعات قضائية سيتم تسويتها حتما لمصلحة الطرف الآخر، كما حدث في النزاع القانوني مع إسرائيل بسبب العجز عن الوفاء بعقد تصدير الغاز. وقد تمت تسوية النزاع بمنح امتيازات أكبر للشركات الإسرائيلية، إضافة إلى استيراد الغاز الطبيعي من إسرائيل، لأغراض الاستهلاك المحلي وإعادة التصدير بعد تحويل نسبة منه إلى غاز مسال. ومن ثم فسوف يتعين على الحكومة تدبير موارد كافية بالنقد الأجنبي لتمويل استيراد الغاز الطبيعي من إسرائيل والغاز المسال من السوق الفورية للغاز. وبافتراض عدم زيادة الإنتاج في فصل الصيف المقبل فإن تغطية فجوة الإمدادات خلال أشهر الصيف الثلاثة فقط يحتاج إلى تدبير 3 مليارات دولار على الأقل. وطبقا لتصريحات أخيرة أدلى بها رئيس الوزراء المصري فإن فجوة الإمدادات من المتوقع أن تستمر حتى نهاية عام 2025. وتتسع الفجوة خلال أشهر الصيف إلى ما يعادل 45 في المئة من الاستهلاك المحلي.
ارتفاع تكلفة الاستيراد
من المتوقع أن ترتفع تكلفة واردات الغاز في العام الحالي عما كانت عليه في العام الماضي، بسبب وقف إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا الغربية، وحالة عدم اليقين في السوق بشكل عام نتيجة تضارب التقديرات بشأن تأثير السياسة النفطية التي يعتزم الرئيس الأمريكي المنتخب تطبيقها، سواء من ناحية إغراق أسواق العالم بالنفط والغاز، أو من ناحية فرض أسعار مرتفعة على أوروبا لشراء الغاز الأمريكي. وقد أظهرت مؤشرات أسعار العقود الفورية في سوق «تي تي إف» الهولندية ارتفاعا متواصلا في الأسعار خلال العام الماضي، حيث تضاعفت تقريبا لتصل إلى 14.6 دولار للمليون وحدة حرارية بريطانية قبل نهاية العام، مقارنة بحوالي 7.3 دولار في شباط/فبراير.
وعلى ذلك فإن وزارة البترول تحتاج إلى تدبير موارد مالية عالية التكلفة في الأجل القصير من البنوك أو السوق المالية، لأنها لا تملك موارد ذاتية للتمويل، وذلك نظرا للعجز الكبير في صافي حساب التجارة البترولية (النفط والغاز) مع العالم الخارجي. وقد بلغت قيمة العجز في السنة المالية الأخيرة 2023/2024 حوالي 7.6 مليار دولار، بعد أن كانت الوزارة تحقق فائضا في ميزان التجارة البترولية منذ عام 2018. وقد فقدت مصر عائدات التصدير التي كانت البلاد تحصل عليها، التي بلغت في السنة المالية 22/23 حوالي 7.2 مليار دولار، ثم هبطت في السنة المالية الأخيرة إلى 605 ملايين دولار فقط، بخسارة تصل إلى 6.6 مليار دولار. وبسبب نقص إنتاج النفط والغاز فقد ارتفعت تكلفة الاستيراد إلى 13.4 مليار دولار في السنة المالية الأخيرة.
وأرست مصر في ايلول/سبتمبر الماضي، مناقصة شراء 20 شحنة من الغاز الطبيعي المسال لتغطية الطلب في فصل الشتاء، وذلك بعد تراجع في الإنتاج المحلي من الغاز، وتم ترسية المناقصة بعلاوة تتراوح بين 1.70 دولار و1.90 دولار فوق سعر الغاز القياسي في سوق عقود الغاز الفورية «تي.تي.إف» الهولندية.
وطبقا لما يمكن استخلاصه بشأن سياسة الاستيراد فإن الحكومة تعتزم توفير احتياجات سد فجوة الإمدادات من خلال مسارين، الأول عبر تعاقدات بتسهيلات في السداد تصل نحو عام، يتم تمويلها من مصادر مختلفة أهمها مؤسسة تمويل التجارة الإسلامية. والثاني هو طرح مناقصة عالمية خلال الفترة الممتدة من الأسبوع الأخير من الشهر الحالي إلى نهاية الشهر التالي، على أن يتم الاعتماد على الشحنات المؤجلة من الربع الأخير من 2024 لسد احتياجات السوق المصرية من الغاز خلال أول شهرين من العام الحالي. ومن المرجح اللجوء إلى المسارين معا لتحقيق أقصى استفادة من أسعار الغاز العالمية حال تحسنها في أي وقت من العام. ويقدر خبراء السوق احتياجات استيراد الغاز في العام الجديد بما يتراوح بين 155 – 160 شحنة من الغاز المسال يتم التعاقد عليها من السوق الفورية، تتكلف الواحدة منها ما يصل إلى 50 مليون دولار، ما يعني أن احتياجات تمويل استيراد الغاز المسال فقط على مدار العام تصل إلى حوالي 8 مليارات دولار، هذا غير احتياجات استيراد النفط الخام ومشتقاته، وهو ما يضغط على ميزان المعاملات البترولية مع العالم، بعد أن سجل في السنة المالية الاخيرة عجزا بقيمة 13.4 مليار دولار. وفي حال نجحت «إيني» في حفر آبار جديدة، وزيادة إنتاج الحقل بشكل عام، فإن الزيادة المتوقعة في الإنتاج يمكن أن تغطي أكثر من نصف الفجوة المقدرة في الإمدادات، ما يقلل تكلفة الاستيراد، وينهي الاتهامات المتبادلة بينها وبين الحكومة المصرية، ليس بشأن حقل ظهر فقط، ولكن أيضا بشأن مستقبل أنشطة إيني في مصر، التي تشمل أيضا التنقيب عن النفط والغاز في البحر الأحمر.