حين ندرك الكيانات المحيطة بنا، ولاسيما الحيوانات منها ندركها بالأسماء التي وضعت لها، وأيضا نجمّع عنها معلومات ليست هي المعلومات التي نجدها في المعاجم. ماذا تريد أن تجد من معلومات في المعجم القديم عن الحمار، أو الحمار الوحشي؟ ستجد في «لسان العرب» مثلا أن الحمار هو النّهّاق من ذوات الأربع أهليا كان أو وحشيّا» (لسان العرب، 4/212). ميزه التعريف من «ذوات الأربع» من الدواب بالصوت الذي يصدره؛ وفي القرآن ذكر لهذا الصوت في سياق رمزيّ مذموم وقد يكون جاءه هذا التعريف من قوله تعالى في سورة لقمان (19): (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إن أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ). وفي المعجم نجد تمييزا بين الحمار الأهلي والحمار الوحشي، قد يوحي بما يسمّى حديثا حمار الزرد. لا يمكن للحمار الوحشي أن يدجّن ويصبح آهلا فهو يعيش في مجموعات خشية أن يكون فريسة لغيره من الحيوانات. قد يكون الحمار الآهل قد كان وحشيا ثمّ فرط في مجموعته، لذلك صار يعتمد عليه في نقل الأثقال وفي أعمال الزراعة. ومن لطيف ما نجد في مدخل حمار اشتقاقا لطيفا لاسم الوحشيّ منه هو اليحمور ونكتشف أنّها تسمية تطلق على غير الحمار من الحيوانات، إذ جاء في المعجم: «واليحمور طائر واليحمور أيضا دابّة تشبه العنز وقيل اليحمور حمار الوحش».
(لسان العرب، 4/ 215). لم يستعمل الناس اليوم هذه العبارة لتسمية حمار الزرد أو حمار الوحش أو الحمار العتّابي أو الحمار المخطط، اختارت العربية هذه العبارات المركبة، لكي تميز هذا الحمار المخطط الذي لا أعتقد أنّه كان المعنيّ عند العرب بالوحشي أو اليعفور. ولعلّ تشريك أكثر من حيوان في لفظة واحدة نابع من تصوّر المسمّي بأنّ هناك شبها ما بين هذه الكائنات حتى استحقت تلك التسمية. ومن طريف ما نجد في اللسان بيتا من الشعر يستعير فيه الشاعر الحمار للإنسان في وقت كان فيه هذا الحيوان محايدا، ولا يحمل التنكيل الذي بات يحمله، يقول الشاعر: ( فأدْنى حِماريْك ازجري أن أردتنا// ولا تذهبي قي رَنْق لبّ مضلّل) فقيل: «هو مثل ضربه يقول: عليك بزوجك ولا يطمح بصرك إلى آخر.. وقال ثعلب: معناه أقبلي عليّ واتركي غيري» (لسان العرب،4/212).. أن تصيح المرأة بحمارها الأدنى يعني أن تقول له: (هيت لك) بمعنى أقبل ليس بمعنى أدبر. نحن في ثقافة غير التي شاعت من التعالي على استعمال استعارة الحمار للذات. حمار ما قبل شيطنة الحمار هو حمار لطيف ووديع، وتحت ذمة المرأة التي تختار بعلها ولا تختار غيره هو حمار داخل في ثقافة الانتخاب، لكنّه انتخاب لا يجريه الرجل مثلما يفعل في الثقافة الذكورية، بل تجريه المرأة في الثقافة الأنثوية، أو الأموية. الرجل المطيع هو المعنى المقصود في هذا السياق وهو لا يتناسب مع الحمار الوحشي الذي يبدي شدّة ونفورا في السلوك الطبيعي.
في «لسان العرب» أيضا إشارة إلى الحمار الوحشي في عبارة «مقيّدة الحمار»؛ يقول صاحب اللسان: «بنو مقيّدة الحمار الحَرَّة، لأنّ الحمار الوحشيّ يعتقل فيها فكأنّه مقيّد. وبنو مقيّدة الحمار العقارب، لأنّ أكثر ما تكون في الحرّة: وأنشد ثعلب: (لعمرك ما خشيت على أُبَيٍّ / رماح بني مقيّدة الحمار)» (لسان العرب، 4/ 212). الحرّة هي الأرض المكسوة بالصخور السوداء، الناتجة عن الحمم البركانية وهي أماكن وعرة لا يمكن للحمار أن يسلكها فكأنّها تقيّده ولذلك يسهل اعتقاله وصيده. وهنا يكون الحمار حاجز نفسه يجعلها لقمة سائغة للصيد وهذا دليل على أنّه كان مقصدا في الصيد وهدفا في القنص. نحن نعتقد أن المعاني التي يحملها الحمار شأنها شأن غيره من العبارات العربية تختزن قربا دلاليّا ما لا يمكن إيجاده بسهولة لأنّ الروابط الثقافية التي كانت تربط بينها قد ضاعت وبقيت لنا مداخل الكلمة أشتاتا من الدلالة المتفرقة، التي تحتاج عالما في اللغة ينظمها على خلفيات اشتقاقية وإيتيمولوجية وأنثروبولوجية.
نحن نعتقد أن تداخلا حدث بين معنى الحجر الناري الذي ترمي به الحمم في الحرّة واسم الحمار الوحشي الذي يمكن أن يكون فريسة للحجر الناريّ. إن ما حدث هو ضرب من تأويل اللغويين الذين أغواهم تاريخ الكلمات الحقيقي ليربطوا بين الحمار والأحمر واليحمور الذي في معنى العنز وفي معنى حمار الوحش. ونحن نجد في عبارة الحمار القديمة معنى يمكن أن نؤرخ به لهذا الانفلات المعجمي والتشقق الذي لم يحسن المعجمي الربط بينه. الحمار في اللغة يعني أيضا ثلاث خشبات أو أربع خشبات تعترض عليها خشبة وتؤسر بها (لسان العرب:4/ 214)؛ والحماران حجران ينصبان يطرح عليهما حجر رقيق يسمى العَلاة يجفف عليه الأَقِطُ (لبن مجمد مستحجر يطبخ به» (نفسه). نحن لا نعتقد أن هناك فصلا بين الحمار مؤنث الأتان والحمار باعتباره من النواصب الصخرية أو الخشبية هناك تقارب على الأقلّ في هيئة الانتصاب فالصخرات المنصوبات والسيقان التي تعتمد سندا لصخرة، أو لوحة كالطاولة لا شكّ أنّها توحي بمنظر الحمار الذي ينتصب على أربع. يضاف إلى ذلك منظر النار في الحجر وهو يتقد أو يكون نافذا من بين الأثافي.
من خلال هذه المعطيات المعجمية المجمّعة في مدخل حمار يمكن أن نجد عناصر سرديّة معجمية، قد تنبئ بأنّ أصل هذه المعاني المعجمية، حكاية مترابطة العناصر قد توجد في مخيال مبتدعي الكلم: إن جوف الأرض ألقى حممه وتشكّل ما يعرف بالحرّة، عبارة عن أرض صخرية حجرها بركاني مسودّ مجمّع لا يمكن أن تسير فيها قدم دابة أو بشر، دون أن تعلق. الحمار دابة وحشيّة وكذلك الماعز علقت بالصخر وقيّدت ولم تستطع فكاكا فدجّنها البشر وربّاها كي تكون له غذاء في نهاية الحكاية. النار هي السلطة القاهرة لكل هؤلاء الكيانات هي أصل الصخر وأصل الأرض وهي نار الطبخ.. وما الزوج في هذه الأسطورة إلاّ دابة مقيدة كانت وحشية فصارت ذات أهل.
لا نحتاج المعاجم لكي نعرف ما الحمار؟ هو من نفسه معروف عنّا ولا نحتاج أن تقدّم لنا معلومات في تحديد سماته أو خصائصه التي تميزه من غيره من الدوابّ. يعتقد علماء الدلالة العرفانيّون أنّنا نعرف الدواب من خلال تجاربنا معها وهي تجارب ورثناها عن غيرنا سماعا أو تعلمناها بأنفسنا. كان العرب قديما يتخيلون أن الحيوانات يمكن أن يتوالد بعضها من بعض، ووضعوا لها تسميات على سبيل الثراء اللغوي الفاحش فاستمع إلى هذا المقطع من كتاب «الأمالي» للزجاجي وفيه يقول: «الديسم ولد الذئب من الكلبة والعِسْبار ولد الضبع من الذئب والسِّمْع ولد الذئب من الضبع، وتزعم العرب أن السِّمْعَ لا يموت حَتْفَ أَنْفه وأنّه أسرع من الذِّيخ (أي الذكر من الضباع كثيف الشعر) وإنّما هلاكه بعرض من أعراض الدنيا» (أمالي الزجاجي ، 212) هذه حكايات السمار قديما وقد خلقت لها تسميات تضيع الحكايات وتبقى الكلمات آثارا مبهمة قد نستدل بها لا على المعاني، بل على الحكايات التي ولدتها.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
كلّ عامّ والجميع بخير…أرى أنّ مقالك الختاميّ لسنة 2024 وداع لحمار جوزيف بايدن الديمقراطيّ والذي شهد عهده الكثير من القتل والنزاعات ضد بني الإنسان؛ بقيادة عقل حماريّ.وسيأتي الفيل الجمهوريّ لنرى ماذا سيفعل بأصحابه؟! شيء على هامش المقال أودّ ذكره؛ وهو غير مسبوق؛ ورد في سورة الجمعة الكريمة قوله سبحانه : { مثل الذين حُمّلوا التّوراة ثمّ لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا…}(5).هنا { الحمار } ليس حيوان الحمار من الحمير بل اسم شخص من قوم عاد اسمه: { حمار } كان يقرأ ولا يفهم شيئًا؛ وهو معروف لدى العرب قبل الإسلام…فالآية ضربت به المثل على عدم الفهم والحفظ مهما قرأ من كتب وأسفار؛ فهو : { كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثًا }( النحل 92).وهي امرأة من مكة معروفة في كتب التاريخ…{ وفوق كلّ ذي علم عليم } ( يوسف76).