لا أنسى أبدا يوسف إدريس. في الأول من أغسطس/آب الجاري يكون قد مرّ ثلاثة وعشرون عاما على وفاته، فجأة حين تعثر في بيته في سجادة على الأرض فوقع وفاضت روحه. كنت قد هاتفته بالتليفون قبلها بأيام أهنئه باختياره مشرفا على الملحق الأدبي لجريدة «الأهرام»، وقال لي سنعيده كما كان يوما منارة للفن والثقافة الرفيعة، وقد كان كذلك يوما تقرأ فيه لطه حسين وتوفيق الحكيم وبنت الشاطئ ونجيب محفوظ وحسين فوزي، الذي علمني كيف استمتع بالموسيقى الكلاسيكية في برنامجه في الإذاعة المصرية، أو مقالاته في «الأهرام» أو كتبه في الموسيقى، أو الرحلات أو كتابه التاريخي «سندباد مصري» الذي لم أكف قط عن المطالبة بتدريسه لطلبة المدارس الثانوية ولم يحدث، لتعرف الأجيال الجديدة ما جرى من تحول رجعي في تاريخنا.
كانت معرفة هذا الجيل باللغات الأجنبية كبيرة، ولا أنسى مقالا لحسين فوزي عن الموسيقار فولفجانج أماديوس موزار كان عنوانه « فولفجانج حبيب الله موزار « وحبيب الله هي الترجمة العربية لأسم أماديوس. لا أنسى خروجي في الصباح الباكر كل يوم جمعة لأشتري صحيفة «الأهرام» قبل أن تنفد في سنوات الستينيات، وكيف كانت مقالات الملحق الأدبي هي زادي في معرفة أنهار وشواطئ الفنون والآداب. أعود إلى يوسف إدريس الذي لم أكن قد قرات له قصصا قصيرة حتى عام 1969 وهو العام الذي فزت فيه بالجائزة الأولى في القصة القصيرة في نادي القصة في الإسكندرية. وقتها حدثني صديق كان يكتب القصة معنا في الإسكندرية اسمه سيد الهبيان عن قصص يوسف إدريس. اندهشت كيف لم أقرأها بينما أقرأ مقالاته ومسرحياته. أعطاني ثلاث أو أربع مجموعات قصصية، منها طبعا المجموعة الأولى «أرخص ليالي» التي قدم لها طه حسين وترك عنوانها كما هو بينما لغويا كان يجب أن يكون» أرخص ليالٍ» لأن ولع يوسف إدريس باللهجة العامية كان مختلفا عن كتاب القصة.
بالمناسبة هو لم يقع في القسمة الشائعة في التاريخ عن الكتابة بالعامية أو الفصحى، لكن العامية جاءت نوعا من الصدق الفني في تجسيد وتصوير شخصياته، وليس انتصارا للعامية على الفصحى، وهذا ما أقوله دائما. بعد أن قرأت المجموعات القصصية له رأيته في المنام يأتيني يملي عليّ قصة قصيرة كاملة. فتحت عيني لحظة مندهشا وكنا قبل الفجر، لكني عاودت النوم قائلا لنفسي سأكتبها حين استيقظ في الصباح. حين استيقظت في الصباح اكتشفت أني نسيت القصة. ضاعت القصة التي أقول لنفسي عنها دائما إنها كان يمكن أن تكون مادة للدراسة النقدية، إذا كنت كتبتها وقلت إنه هو الذي أملاها عليّ. توقفت عاما بعدها تقريبا عن الكتابة، لأنه كان يقفز في كل كلماتي وتصوراتي. قررت أن أخرج من عباءته فكان هذا التوقف. حكيت ذلك مرة فكانت بداية لقاءاتنا التي لم تكن كثيرة. قال لي إنه حدث معه الأمر نفسه حين قرأ تشيكوف وإدغار آلان بو.. اضطر للتوقف بعض الوقت ليخرج من عباءتيهما.
يمثل يوسف إدريس لي الكاتب متعدد المواهب، الذي لا يمكن اختزاله في نوع واحد من الكتابة. دائما يقال عنه كاتب القصة القصيرة العظيم، بينما هو أيضا كاتب المسرح العظيم في موضوعاته أو تجديده في الشكل المسرحي، وأول ملامح التجديد هو كسر الحائط الرابع في مسرحية مثل «الفرافير» إلى جانب ذلك كانت مقالاته تحرك الدنيا. كتب الرواية لكن ليس بغزارة المسرح أو القصة القصيرة أو المقالات. كان منذورا للحرب المباشرة، إذا اعتبرنا ما يكتبه من قصة ومسرح حربا على السائد في الكتابة، وأيضا مقالاته كانت حربا على السائد من تدهور في الحياة حولنا. لذلك جاءت رواياته أشبه بالنوفيللا أو الرواية القصيرة، فلا وقت لديه. بالصدفة منذ أيام كانوا يذيعون بمناسبة الثالث والعشرين من يوليو/تموز فيلم «لا وقت للحب» المأخوذ عن روايته القصيرة «قصة حب» فأحالني الفيلم إلى ذكراه. أعود لأؤكد أن الكاتب الموهوب عادة إذا ساعدته الظروف يتجسد في أشكال عدة من الإبداع، وإن وصف كاتب بصفة واحدة هو حالة مصرية ربما جاءت من فكرة الزعامة التي هي أقرب إلى السياسيين، لكن في الإبداع فكل الأبواب مفتوحة للدخول، وكل النوافذ أيضا للإطلال منها. ليس مهما أن تجد للكاتب الإتقان نفسه في الفنون المختلفة، لكن مع يوسف إدريس تجد الإتقان الرائع نفسه في القصة القصيرة والمسرح والرواية القصيرة والمقالات التي كان يكتبها بروح الفنان المتمرد، رغم ما فيها من فكر، فكنت تقرأ المقال بالسرعة والجذب اللذين تقرأ بهما القصة، حتى قيل يوما، إن مقالاته قصص قصيرة، لكن طبعا هي مقالات فكرية، وإن كانت لغتها تحمل إيقاعا متسارعا كأنه حدث في قصة. أعود إلى الحلم الذي ضاع مني والدرس الذي أخذته منه، وهو أن لا أترك الأحلام حتى الصباح، فصرت حين يداهمني حلم أو كابوس وأستيقظ، لا أنام مرة أخرى قبل أن أكتبه حتى لا يضيع مثلما ضاع حلم قصة يوسف إدريس.
فعلت ذلك في السنوات التالية والحمد لله كانت الأحلام قليلة. في الحقيقة لم أستهدفها. الأحلام لا تأتيك بالإرداة، كما لا أكتب قصة أو رواية بالإرادة. أتركها حتى تحملني إلى الكتابة حين تكاد تنفجر في روحي. يوما ما في التسعينيات جمعت أربعة أحلام صغيرة في عمل واحد ونشرتها في جريدة «الأهرام» تحت عنوان «ما تبقى من الأحلام». ذكرني بهذا الحدث الصديق الكاتب إيهاب بديوي وهو يسألني عن سر عنوان قصة قصيرة لي هي «تحت المظلة 2000» التي نشرت ذلك العام. حكيت له حكاياتي مع الأحلام ونسيت أن أخبره عن حلم قصة يوسف إدريس، وكيف في ذلك الوقت كان نجيب محفوظ ينشر في مجلة نصف الدنيا «أحلام فترة النقاهة». قابلني المرحوم سعيد الكفراوي الذي كان كثيرا ما يحضر جلسات نجيب محفوظ مع المثقفين، التي كنت غائبا دائما عنها، ولم أحضر منها غير مرتين أو ثلاث مرات. قال لي سعيد الكفراوي إن أحد الجالسين سأله بمناسبة «أحلام فترة النقاهة»، هل يمكن أن يكتب الكاتب أحلامه؟ فقال له إبراهيم عبد المجيد يفعل ذلك. أسعدني طبعا أنه قرأ ما نشرته في جريدة «الأهرام»، لكني توقفت عن ذلك، وصرت إذا حلمت استيقظ وأكتب الحلم وأتركه ليوم أضعه في رواية. لم أشأ أن يكون لي كتاب بعنوان «ما تبقى من الأحلام» كما فعل هو في كتابه «أحلام فترة النقاهة». قلت لإيهاب بديوي، لا أعرف هل كنت مخطئا أم لا، لكن هذا ما فعلت. أما لماذا سميت إحدى قصصي «تحت المظلة 2000» فلأنها كانت كابوسا استيقظت وكتبته كأني أراه من جديد وذهبت بها لجريدة «الأهرام» لأنشرها فقد كنت أكتب بالقلم، ولم أخجل من الإشارة إلى قصة «تحت المظلة» لنجيب محفوظ، حين وجدت الرؤية الكابوسية في اللغة والبناء وسريالية الأحداث.
رحم الله يوسف إدريس الذي نبهني إلى أن أكتب أحلامي، ورحم الله زمنا كان الكاتب لا يخجل فيه من الإشارة إلى من تأثر بهم، حتى لو في الأحلام، وسعيد أني من ذلك الزمن. المدهش أن قصة الحلم الذي أملاه عليّ يوسف إدريس ضاعت، لكن قصة الكابوس التي تشبه قصة نجيب محفوظ بقيت، وإن كان السبب هو الدرس الذي استفدته من حلم يوسف إدريس، وهو أن أكتب بعد الحلم أو الكابوس مباشرة. ويبدو أيضا أنه لا بقاء إلا للكوابيس في هذا الزمان.
كاتب مصري
كتاب ” سندباد مصري” كتاب لحسين فوزي وليس ليوسف ادريس على حد علمي، إلا إذا كان هناك كتاب غير معروف بنفس العنوان ليوسف إدريس. الرجاء التدقيق.
شكراً أخي إبراهيم عبد المجيد. الكوابيس نعيشها كل يوم والكوابيس لاننساها عادة لشدة محتواها العاطفي، وهذا يحدث معي ونادراً أنساها. الأحلام عموماً للأسف لم أتعود تدوينها وهذه نقطة ضعفي فاللغة والتعبير والتدوين ينقصني تعلم الكثير منها ومن ثم قد لايمر يوم دون أرى حلماً وأفكر بها كثيراً خلال اليوم وغالباً هي عادية وأستطيع فهمها بعد أن قرأت منذ زمن طويل كتاب تفسير الأحلام لسيغموند فرويد وكثيراً من الكتيبات أو بعض الكتب عن علم النفس والنشاط العقلي عموماً، فهذا هي واحدة من هوياتي. بعض الأحلام القليلة التي لا أستطيع فهمها تبقى غالباً لفترة طويلة في ذهني لكنها عادة يطويها النسيان. لا أقدر التدوين للأسف والتعبير اللغوي هو علتي الكبرى!