ss محمود قرنيsssالقاهرة ـ ‘القدس العربي’: حصل الكاتب الروائي والقاص ‘حمدي أبو جليل’ على جائزة ‘نجيب محفوظ’ للأدب الروائي لعام 2008 عن روايته ‘الفاعل’ الصادرة قبل عام عن دار ‘ميريت للنشر والتوزيع’، ومن المنتظر أن تصدر الجامعة الأمريكية، التي تمنح الجائزة، ترجمة للرواية في العام القادم إلى الانكليزية في كل من القاهرة ونيويورك ولندن.وقد قام ديفيد أرنولد ـ رئيس الجامعة الأمريكية بالقاهرة ـ بتسليم الجائزة الى الفائز بناء على إجماع لجنة التحكيم المكونة من الدكتورة سامية محرز والدكتور عبدالمنعم تليمة والناقد الأردني فخري صالح والدكتور جابر عصفور والدكتورة هدى وصفي.وقد جاء في حيثيات منح الجائزة أن رواية ‘الفاعل’ تفصح عن وعي المؤلف بالمنجز الجمالي الذي أنجزته الرواية والسيرة الذاتية في الإبداع العربي الراهن، وأن أبي جليل يكتب عن حكايات القاع، عالم الأشخاص الذين يعملون في المهن الدنيا لكي يؤمنوا لقمة عيشهم اليومي وأن حيوية الشخصيات التي تصورها الرواية وتنقلها البارع بين الأحداث والمشاهد، وذلك ما جعل من لغتها لغة بصرية بالدرجة الأولى، وعلى نحو يجعل من التعاقب السردي المتوقع تتابعا مشهديا غير متوقع، ويبدو النص شديد السذاجة ولكنه يأخذك دون أن تشعر الى عالم تعتقد أنك تعرفه ولكن هذا الثرثار أو الراوي بصيغة الأنا لا يكف عن تلوين حكاياته واستعادة فقراتها بتكرار حاذق، وقد اجتهد في أن يكون له بين كتاب السيرة الذاتية الروائية ملامحه الخاصة، وهو لا يقترب من طريقة جوركي وإن اشتبك مع صوت أستاذه ماركيز في الأدب العالمي ليخلق صوته الخاص، ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين يجيء حمدي أبو جليل بروايته الفاعل ليبني قاهرة جديدة مغايرة: إنها قاهرة الفواعلية الذين شيدوها وبدلوا وجه الأطلس الأدبي المتعارف عليه للأبد’.وقد أعد قسم النشر بالجامعة الأمريكية في حفل تسليم الجائزة انتهاءه من ترجمة روايتين جديدتين لنجيب محفوظ هما ‘القاهرة الجديدة’ التي ترجمها ‘وليم هتشين’ وخان الخليلي التي ترجمها روجر آلن’.ويعد قسم النشر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة الذي أنشأ جائزة نجيب محفوظ للأدب الروائي عام 1996 الناشر الرئيسي لأعمال محفوظ باللغة الانكليزية لأكثر من عشرين عاما، وهو المسؤول عن إصدار أكثر من 500 طبعة باللغات الأجنبية الأخرى لأعمال الراحل التي ترجمت إلى 40 لغة في جميع أنحاء العالم منذ فوزه بجائزة نوبل عام 1988، وبنشر اكثر من 100 عمل جديد سنويا في أكثر من 1000 كتاب آخر.الغيطاني ونصف قرن مع محفوظكان ضمن برنامج الحفل إلقاء الكاتب الروائي جمال الغيطاني محاضرة عن علاقته بنجيب محفوظ والتي تساءل في بدايتها: هل تتغير معرفة الإنسان بآخر اتصل به وعايشه بسبب الرحيل الى الأبدية؟، بعد استكمال الدائرة وتعلقنا به وتأثرنا وأصبح جزءا من تكويننا ربما تكون الإجابة بنعم، ولعل غياب نجيب محفوظ الدليل الأكبر.وبعد رحيله في أغسطس عام ألفين وستة أقدمت على قراءة آخر أعماله ‘أحلام فترة النقاهة’ وفوجئت أن الرجل كان يتأهب لانتقاله الأبدي ونحن لا ندري ولا نستشعر.ويضيف الغيطاني: في ديسمبر من كل عام يقوي حضوره عندي يهل عليّ من كل فج عميق ينتمي إلى القاهرة الى الروح المصرية العميقة بكل ما تمثله، غير أن الصورة الغالبة عندي هذا العام سعيه في شارع عبدالخالق ثروت صباح يوم جمعة عام 1959، لا أعرف كيف عرفت أن هذا القادم من ميدان العتبة إلى الأوبرا، لم تكن صورة ذائعة وقتئذ، لم يكن التليفزيون، ربما من صورته التي كانت منشورة في الصفحة الداخلية لروايته ‘خان الخليلي’ و’زقاق المدق’ طبعة الكتاب الذهبي عام 1954، ربما كان في الثامنة والأربعين وقتئذ، عملاقا في مثل ثلاثة أضعاف حجمه الذي توفى عليه، لم يصب بعد بمرض السكر الذي اكتشفه أول الستينيات ولزم بعد. نظاما غذائيا صارما إلى آخر أيام حياته.ويضيف الغيطاني معلقا على أول لقاء بنجيب محفوظ: تقدمت منه، كنت أحمل مجموعة قصصية مترجمة لأنطون تشيخوف، ترجمة الدكتور محمد القصاص، حرصت على أن يكون غلافها ناحيته حتى يعرف أنني قارئ للأدب، من أجل ذلك تقدمت إليه، فأطل عليّ بنظرة تصفها وصفا مصريا لم أعرف مثله في أي لغة أخرى ‘طيب’ هذا الرجل طيب، وعبر نصف قرن لم تختف هذه النظرة من مجالي، حتى بعد رحيله، يتطلع إليّ حتى الآن من مكان ما لم يمكنني تحديده، أو السعي إليه، يكفيني أنه ينظر إليّ عبر مقاهي القاهرة تنقلت معه، ونمت علاقتنا، من مقهى الأوبرا، الى مقهى عرابي بالعباسية الذي كان دعوته لي نقلة كبرى عام خمسة وستين، إذ كان ذهابي إليه يعني اللقاء بأصدقاء طفولته بما يشمله ذلك من مظاهر دعابة وتبسيط لم أعتدها منه ولا له.ثم ينتقل الغيطاني الى مقهى الفيشاوي الذي يقول عنه: انفردت به وأسرّ إليّ بما يمكن أن يكون بين طرفين تحقق لهما التقارب ونما الود الجميل بينهما، ثم إلى مقهى ريش عام 1957، وإلى لقاءات الثلاثاء بالسفينة الراسية ‘فرح بوت’ في النيل الذي أحبه وعشقه ولزم شاطئه أوقاتا طويلة يتخيل فيها شخصياته، وربما إعداد رواياته، وبعض منمنماتها، ويضيف: استمر لقاؤنا الاسبوعي مع غياب قليل حتى شاء القدر أن ينتهي عمليا ورمزيا قبل أيام قليلة من سقوطه في بيته فجرا، ونقله إلى مستشفى الشرطة التي لم يخرج منها على قدميه، وشاء القدر لترتيب دبرته الأقدار أن أكون آخر من يدخل إليه وهو راقد على ظهره، بدون نظارة طبية محدقة بعينيه إلى اللا شيء، فقلت له إن الناس يتوجهون إلى الله بالدعاء له، خاصة في الحسين، عندما نطقت الحسين خيل إليّ أن مصباحا خفيا أضاء بسرعة وخبا.ويضيف جمال الغيطاني: بعد أن خلا العالم من وجوده المادي، صرت أراه من خلال مستويات شتى، لعل القاهرة أبرزها، بالطبع القاهرة القديمة التي اكتشفها أدبيا وإنسانيا، فماذا يعني زقاق المدق أو بين القصرين لولا أنه كتب عن هذه الأماكن المنزوية، المنسية، وعن البشر الهائمين على وجوههم، الذين يفرون إلى الدنيا بدون أن يعرفهم أحد أو يهتم بهم أحد، هؤلاء أصبح وجودهم كونيا الآن.في أكثر من أربعين لغة يتحدثون عن أمينة وسي السيد وزيطة وحميدة والمعلم كرشة وغيرهم، من خلال الأزقة المجهول صور لما يجري في الكون، في الماضي الذي لم يعشه والمستقبل الذي لا يسعى فيه، وتلك إحدى جوانب تألق الموهبة التي تزداد مع الزمان تألقا لذلك كثيرا ما أتساءل، يقول الغيطاني: ماذا يعني تمام نصف قرن على بدء علاقتي بمحفوظ؟، ثم يستطرد: الحضور من خلال العوالم التي أبدعها بتنوعاتها المدهشة الفنية، الغزيرة، لأكثر من سبعة عقود لم يتوقف عن الكتابة، حتى بعد أن شلت يده اليمنى إثر الطعنة الغادرة عام أربعة وتسعين من القرن الماضي والتي تبدلت حياته بعدها، حالة فريدة من الاستمرارية الدؤوبة، الثرية، تنوعت خلالها التجارب والمغامرة الإبداعية، غير أننا يمكن أن نرصد ملامح أساسية سارية، أهمها، اعتبار الكتابة حياة حقيقية، التزود برؤية شاملة، تمثل خلفية كل ما نراه من حركة وشخصيات وتفاصيل عوالم، هذه الرؤية يمكننا أن نلمحها عبر ثلاثة مراحل متوالية، تبدأ بالواقعية.وكانت كلمة الروائي جمال الغيطاني في حفل افتتاح الجائزة حافلة بتفاصيل نادرة عن علاقته لمدة نصف قرن مع الراحل نجيب محفوظ.أبو جليل يمدح العجزأما الروائي الفائز ‘حمدي أبو جليل’ فقد قرأ شهادة متميزة تناولت رحلته مع الكتابة منذ مجموعته القصصية الأولى ‘أسراب النمل’ التي صدرت عام 1997 مرورا بالمجموعة الثانية ‘أشياء مطوية بعناية فائقة الصادرة عام 2000، ثم روايته المتميزة ‘لصوص متقاعدون’ وأخيرا روايته الفائزة بجائزة محفوظ ‘الفاعل’.وهنا نقدم جزءا من شهادة الفائزة:يقول أبو جليل:شكرا للجائزة واللجنة والجامعة، يا لها من مفاجأة ويا له من فرح..شكرا لتفهم الانحراف عن الاستاذ في جائزة الاستاذ، لا ليس الانحراف وانما العجز..شكرا لتشجيع العجز، نعم العجز وليس التجاوز، التجاوز يعني القوة، يعني القدرة الجبارة على استيعاب قيمة جمالية وفكرية ثم تجاوزها ببساطة، وتطور الكتابة ـ كما أفهمه ـ يعود في جانب منه الى الضعف، العجز عن الوفاء لشروط النماذج السابقة، أقصد طبعا النماذج العظيمة السابقة.دون كيخوته ـ الاخوة كرامازوف ـ البحث عن الزمن المفقود ـ الغريب ـ الحرافيش ـ رباعيات الاسكندرية ـ نصف حياة ـ كتاب الضحك والنسيان ـ تاريخ حصار لشبونة، الى آخره عبر تاريخ الكتابة هناك أعمال حالفت الخلود، أعمال تجاوزت الزمن، ولم تؤثر في حضورها المتجدد المتغيرات الثقافية والحضارية، بل أن مرور الزمن يضاعف حضورها وقيمتها، ويكشف كوامن تفردها مثل الجواهر بالضبط.تلك الأعمال تدفع الكتابة دائما للتطور وارتياد آفاق جديدة ليس من خلال تجاوزها، ولكن من التسليم باستحالة تجاوزها، فالعجز عن الوفاء لشروطها القاسية، شروطها الجبارة، يؤدي إلى البحث عن مناطق جديدة، دائما أتخيل مسار الكتابة على هيئة مجرى مائي به ربوات عالية، راسخة، وعجز الماء عن المرور فوقها أو تجاوزها يدفعه الى مسارات جديدة تماما بل أحيانا مناقضة لمجراه القديم.العجز دافع لتطور الكتابة، لاندفاعها في مسارات جديدة، هناك دوافع أخرى بالطبع كاختلاف ظروف الحياة والوعي بها، ولكن العجز ربما لقسوته يحتل مكانة الدفاع الأوجه، العجز عن الوفاء لنموذج سابق يدفع لانجاز خطوة ما، ترتاد منطقة جديدة وتؤكد العجز في نفس الوقت، خطوة تجمع بين الفرح بجدتها ومغايرتها والحسرة من وضوح عجزها.ربما يتضح ذلك أكثر في المادة، الحاجة أم الاختراع، الحاجة ضعف، الحاجة عجز عن الصبر أو التلاؤم مع أوضاع تعايشت معها الأجيال السابقة دون ألم، من اخترع المروحة مثلا هو ذلك الشخص الذي عجز عن مواصلة التعايش مع الحر مثل كافة الأجيال التي تعاقبت قبله، ومن فكر في اختراع سيارة أو طائرة هو بالتأكيد ذلك الشخص الكسول الذي تخاذل عن المشي أو السفر على ظهور الماشية مثل الجبابرة السابقين، ومن فكر في البندقية هو ذلك الجبان الذي ارتعب من مبارزة الفرسان.هذا لا يعني مطلقا التقليل من شأن إضافات الكتابات الجديدة، بل هو إشادة بها، البندقية بالطبع أكثر فتكا من السيف، وبدون جهود ذلك الشخص الذي عجز عن مواجهة الحر لظلت الإنسانية تصطلي بناره للأبد، وبدون الروائي الذي عجز عن الوفاء لشروط النماذج السابقة لتوقفت الكتابة الروائية عند سرفانتس ورابيليه.ربما التصالح مع العجز هو الذي يجعلني أنظر بنوع من الحسد والحسرة إلى أولئك الكتاب الذين يخططون لانتاج كتابة متجاوزة ويطمحون لارتياد مناطق جديدة، هؤلاء أقوياء حقا على الأقل بالنسبة لي، فمشكلتي التي ربما تدفعني للتوقف نهائيا عن الكتابة هي قصور قاموسي اللغوي عن التعبير عن فكرة أو حدث أو مشهد ما، لا داعي للتواضع، فاللغة بشكل عام قاصرة عن التعبير أو نقل الأشياء والأفكار بالشكل الأمثل والدقيق، كلمة شجرة مثلا هل تكفي لنقل حضور الشجرة التي أراها أمامي الآن، أم أنه لابد أن آخذك من يدك وأضعك أمامها مباشرة، وهل في هذه الحالة ستظل شجرتي أما أنها ستصبح شجرتك، دائما هناك فكرة أو مشهد أو شجرة، ودائما لا توجد اللغة الجديرة بتجسيدها.يذكر أن هذه الدورة هي الثالثة عشرة في عمر الجائزة حيث حصل عليها عدد من الروائيين والروائيات الذين كان آخرهم الروائي يوسف أبو رية الذي يعالج حاليا من مرض عضال بالكبد.وقد حضر حفل تسليم الجائزة عدد كبير من المثقفين المصريين بالإضافة لأعضاء لجنة التحكيم.85