حملة الأيادي النظيفة: ثورة على الفساد أم إفساد للثورة؟

بشير عمري
حجم الخط
1

على الرغم من مرور أكثر من الشهر على اقتلاع بوتفليقة دون كامل نظامه من الحكم، لا يزال يُستعصي على الكثيرين فهم ما يحدث حول الحراك الثوري وما يتهددها من عديد الأطراف منها القوات المسلحة التي تسعى للتمركز في دائرة الحل بعدما وجدت نفسها، معها المجتمع برمته، إزاء وضع استثنائي ناجم عن التكسير المُمنهج لقدرات الدولة، من خلال تعطيل مستديم  لمؤسساتها وتصحير كلي للنشاط السياسي الحقيقي، وشل آليات إنتاج البدائل على صُعد الرؤى والأطر ذات الكفاءة الوظيفية والنزاهة الأخلاقية، التي اتبعها بوتفليقة طيلة العقدين اللذين تسلم فيهما الجزائر وأركسها في وحل المجهول – وجدت نفسها – أمام مسؤولية جديدة تتجاوز نطاق صلاحياتها الدستورية، وفي مواجهة وعي جيل جديد متسلح بالمعرفة ومتشبع بوطنية غير مؤدلجة تقفز على كل الصراعات الأيديولوجية والجهوية والشللية التي عادة ما كان النظام الفعلي في الجزائر يوظفها بخبث، للاستفراد بحركات الاحتجاج التي كانت تتفجر هناك وهناك للمطالبة بتغيير النظام، فيجهز عليها، بل بالعكس، كانت وحدة مطلب الشعب المتحققة لأول مرة منذ الاستقلال، هي من زجت بالنظام في حالة تشظي وتكسر غير مسبوقة حتى راح بعضه يسعى لتوظيف الحراك الثوري ضد الآخر بقصد تصفية حساباته معه وهو ما أخر الحسم الثوري كل هاته الفترة.

فكيف تم ذلك؟ وبأي وسيلة؟ وما حقيقة الحرب على الفساد التي أعلنها قائد الأركان كاستجابة، كما زعم، لمطلب الحراك؟

قبل الغوص في الإجابة عن تلكم الأسئلة ومنهجا، تلزمنا الموضوعية، التذكير بأن أكثر من خمسة آلاف احتجاج قطاعي واجتماعي عرفها حكم بوتفليقة على مدى عقديه، ما يعني أن فساد نظامه لم يظهر مثلما يسوق له، فقط بعد الطفرة النفطية وبلوغ سعر البرميل الـ160 دولارا، اغتنت بفضله خزينة الدولة بما ناف عن الـ1200 دولار لكنها أغنمت من طرف مفترسي البلد، بل سبق ذلك بكثير، وبدأ تحديدا مع بداية عهدته الثانية في 2004، ومن وقتها ما لبثت المقاومة الشعبية لذلك الفساد المتنامي تندلع عبر مسيرات، وقفات ومواجهات، دامية أحيانا مع قوات الأمن، مطالبة بتحسين أوضاعها الاجتماعية والقطاعية وإبعاد المفسدين من مواقع المسؤولية، وهو ما كان يوحي بأن الفساد قد استبطن جهاز صنع القرار، ولا يفتأ بكبر ويلتهم كل مصادر الثروة في البلد، لتتجمع كل تلك المقاومات الشعبية للفساد في الجزائر، مشكلة وحدة وطنية ثارت على بوتفليقة سلميا وأطاحت به يوم 22 فبراير الماضي، تماما مثلما فعلت المقاومات الشعبية ضد الاستعمار التي كانت تتفجر عبر ربوع البلاد على مدار القرن ونصف من الاحتلال قبل أن تتوحد كلها في ثورة تشرين الثاني/نوفمبر 1954 وتحرر البلاد سنة 1962.

لكن ما تكشَّف بعد رحيل بوتفليقة، هو أن النظام السياسي المفروض على الجزائريين منذ 1962 في ازدواجية تشكله، المخفي منه والظاهر، لم يتغير في بنيته سوى على مستوى مرجعية استمراره، إذ بعدما كانت تضمن بقاءه عقيدة زائد مصلحة، أضحى بلا عقيدة واتسع على نطاق مصلحته إلى أن صارت ارتباطاته بالخارج أكثر من الداخل! وما تصريح وزير ألماني مؤخرا، حول رفض بوتفليقة إنشاء المحطة الأكبر عالميا لإنتاج طاقة شمسية في الجزائر، إذعانا لتوجيه من فرنسا وخدمة لمصالحها، لخير دليل على حجم وطبيعة التحول الخاطئ والخطير للنظام في الجزائر وانحرافه عن مبدأ السيادة الوطنية وخدمة مصالح البلد.

هكذا تراكم للانحراف السياسي والسيادي لنظام وسلطة بوتفليقة، وما أفرزه من تداعيات خطيرة على المستوى المعيشي للمواطن، كان يرافقه في كل مرة تعديل دستوري يعزز من حكم الرئيس ويعطل كل الآليات القانونية التي يناط بها تكريس الرقابة الشعبية والقضائية على مقدرات الأمة، ومقاضاة المفسدين على مستوى كامل هرم السلطة والإدارة التنفيذية، وهنا يستغرب الدبلوماسي الجزائري عبد العزيز رحابي، إصرار قيادة الأركان على أن تتم عملية حلحلة الأزمة في إطار الدستور “الكل يطالب بالعودة إلى الدستور ولا أحد طيلة العشرين سنة الماضية طالب بضرورة التقيد به، حين اغتصب سنة 2008 بغرض فتح العُهدات الرئاسية، ولا أحد تحدث عن سبب عدم تفعيل بعض المؤسسات الدستورية مثل المحكمة العليا المتخصصة في محاكمة المسؤولين السامين في الدولة، التي لم تتأسس حتى هذه الساعة، والمجلس الوطني الأعلى للطاقة الذي يسطر السياسة الطاقوية للبلاد، الذي لم يجتمع منذ عشرين سنة، فالدستور هو الذي يجب أن يكون في خدمة الشعب وليس العكس، ظللنا سبع سنوات رهينة صحة الرئيس واليوم يُراد لنا أن نرتهن لدستور الذي بموجب مادته 102 يبطل كل الجهود للتوصل إلى حلول باتجاه التجديد والانتقال السياسي، وهذا كله من أجل عدم فتح النقاش حول الانتقال السياسي”.

كلام رحابي حول عدم وجود نية لفتح نقاش بخصوص كيفية تحقيق الانتقال السياسي السلس والسليم، يكشف لنا بوضوح ثلاثية المكنون الإستراتيجي الذي يقوم عليه مسعى ما تبقى من النظام السياسي في الجزائر، تحت إشراف قيادة الأركان، في سياق مقاومته للمد الشعبي الجارف في الشارع وهي: 1) فرض الحل الدستوري وتقييد الجميع به 2) فتح ملف الفساد بانتقائية بغرض تحريف الحراك الثوري عن جوهر مطلبه المتمثل في التغيير الشامل للنظام 3) إطلاق مبادرة الحوار حول كيفية تنظيم انتخابات رئاسية تحت مبادئ الدستور بإشراف بقايا نظام بوتفليقة البائد.

وهذا ما استبان للجميع وبلا غُبش أو لُبس في الخطاب الأخير لقائد الأركان بالبليدة، حينما زعم أن الكثير من مطالب الحراك الثوري قد تحقق (يعني محاربة الفساد باعتقال بعض رجال الأعمال والمال) وعلى الجميع العمل على إتمام خريطة الطريق التي رسمها والقائمة أساسا على القبول بالأمر الواقع وللتعامل بإيجابية مع حكومة بدوي المرفوضة شعبيا وحَراكيا، وبن صالح الرئيس المنبوذ وطنيا باعتباره من الخُلص لبوتفليقة وآله وعصابته، والذهاب إلى انتخابات وفق الآليات السياسية والقانونية الانتخابية القديمة التي صيغت وفُرضت لتكريس سلطة الفساد، فالواضح إذن أن عملية محاربة الفساد ليست بادرة قائمة لذاتها أي لا تندرج في سياق تكسير منظومة المال القذر التي على قواعدها أسس وأزَّل بوتفليقة وإخوته ملكهم بالجزائر، بما يفضي بعدها بالضرورة إلى طرح ميكانيزم بديل لمنظومة الحكم، بل هي مجرد عملية تجريد خصوم قيادة الأركان من مصادر قوتهم المالية، التي كانوا يستندون عليها في معارك التموقع في باحة السلطة، وهذا حسب الدبلوماسي الجزائري المعارض عبد العزيز رحابي، يظل مرفوضا بكل المعاني والمعايير القانونية والسياسية “شخصيا لا أؤمن بعدالة انتقالية في مرحلة سياسية انتقالية”.

طرح يزكيه الخبير الاقتصادي الجزائري فرحات آيت علي، في تدخله على أمواج راديو “آم” إذ يرى في ما يحدث من مزاعم محاربة الفساد مجرد معاودة النظام للعبة القديمة في التعامل مع الاحتجاجات الشعبية والقائمة على تقديم أكباش الفداء، مفضلا في ذلك الأكباش الخارجة عن قوقعته عن تلك التي في داخلها، وذلك بغرض الحيلولة دون نفاذ الغضب الشعبي إلى أعماق المعبد وهدمه على من فيه بكامله “طالما لم نر سياسيين وعسكريين وبالأخص ممن خدموا هذا النظام منذ البداية، يحالون على المحاكم فلا يزال الطريق أمامنا طويلا، لنصل إلى القضاء العادل” وحسب المتحدث ذاته فإن “كل هذه الأسماء ممن تُعرف بكونها رجال أعمال، طحكوت، حداد وكونيناف، كانوا مبرمجين مسبقا لهكذا مصير، فحتى لو بقي نظام بوتفليقة لكان سيذبحهم، بذات الشاكلة”.

لكن أهم ما تحدث عنه فرحات آيت علي، هو تلك الوسائل القذرة التي يسلكها الفاسدون في نهب المال العام بالجزائر عبر شركات استيراد وتصدير مشبوهة الأصل والنسب مدللا في ذلك بالقول “سترون مستقبلا أن جل فواتير الاستيراد ستأتي من دُبي، وليست من بلدان شركات الاستيراد، وهنا أستغرب شخصيا كيف أن البنك الجزائري، والجمارك لا تستبين مصادر تلكم الفواتير، إذ كيف تأتي السلع من الهند، اليابان، ألمانيا وإيطاليا، في حين الفواتير كلها تأتي من دُبي؟”.

وطبعا يريد هنا الخبير الاقتصادي التأكيد على أن هؤلاء الفاسدين الذي يتابعون اليوم قضائيا، ليسو أكثر من كومبارس في عمليات كبرى تمتد في سلسلتها إلى أعماق مظلمة من بيت القرار الفعلي “هذا كله سيكشف أن شركات الاستيراد تلك لا تنتمي في الحقيقة لكبش الفداء ذلك، فهو سيربح ملايين بالدينار وبعضا من الدولار، لكن حصة الأسد من الدولارات سنعرف يوما ما في حساب من صبت، وعندما قلت مرة بأننا سوف لن نتمكن من استرجاع تلكم الأموال كنت أعرف ماذا أقول”.

تأكيدا لذلك، كان رئيس الجمعية الجزائرية لمكافحة الفساد، جيلالي حجاج قد صرح على أمواج القناة الثالثة للإذاعة الجزائرية أن مبالغ ضخمة تكون قد اختلست في الجزائر فاقت الستين مليار دينار، مستندا في ذلك على معلومات لهيئات دولية متخصصة.

وهذا يمكننا الخلاص إلى أن حملة الأيادي النظيفة المزعومة اليوم، ليست أكثر من أداة تصارع سياسي فيما بين صناع القرار، من جهة ومن جهة أخرى سعي لتحريف الحَراك الثوري عن قصديته، وأن الحرب الحقيقية على الفساد لن تبدأ إلا حين تتأسس دولة الثورة قائمة بعدالتها على مبدأ الحق، فاعلية المؤسسات، والسير الطبيعي للدولة.

 

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد الحفيظ بن جلولي:

    جاء المقال على جانب مهم من مسار الحراك واللحمة الوطنية المتجهة أساسا إلى التغيير الجذري والشامل في كل مؤسسات الدولة، ولهذا وطبقا لتقارير وإثباتات المتخصصين الوارد ذكرهم في المقال فإنّ الحملة على الفساد لا تطال عملية إنتاج وتحويل المال القذر بقدر ما تهدف إلى تصفية الحسابات السياسية والالتفاف حوا المطالب الحراكية.
    شكرا أستاذ بشير على الإضاءات المهمة ..
    كما العادة تنير رؤانا..

اشترك في قائمتنا البريدية