منذ نشوء الجامعات ومراكز البحث الأكاديمية، والنقاش عن فائدة الدراسات الأكاديمية في فهم الواقع لا يتوقف. تحيط الأكاديميات نفسها بأسوار من القداسة. يقدم الأكاديميون أنفسهم على أنهم مركز المعرفة الوحيد فكل ما يخرج من بين أيديهم، ومن ردهات الأكاديميات على شكل دراسات، أو نشرات، أو كتب لا يأتيها الباطل.
مقابل ذلك يقول نقاد الأكاديميات والأكاديميين، إن الجهاز الأكاديمي عاجز عن تقديم أي شيء جديد، لأنه أسير الأفكار المستقرة، فهو يعتاش من تدريس الأفكار القديمة، وليس من مصلحته التجديد، لأن التجديد يهدم معرفته ومصدر رزقه. يقول مارتن برنال صاحب كتاب «أثينا السوداء» أن كل الاختراقات الحاسمة في تاريخ العلوم الاجتماعية وغيرها، أتت من خارج المؤسسات الأكاديمية ومن أشخاص هواة». ويتطرف بعض النقاد فيعرّفون الدراسة الأكاديمية بأنها عبارة عن تعقيد للمسائل الواضحة. ولا نعدم النكت عن الدراسات الأكاديمية والأكاديميين ومنها، أن أحد الأكاديميين الروس أحب أن يعرف ما هو العامل المسكر . فخلط الفودكا مع الكولا وشرب المزيج فسكر، ثم مزج الكولا مع الويسكي وشربهما فسكر أيضاً فاستنتج أن العامل المسكر هو الكولا.
كتبت هذه المقدمة بعدما قرأت الترجمة العربية لكتاب الأكاديمي الشهير حنا بطاطو «فلاحو سوريا…»، وهي ترجمة طال انتظارها بسبب شهرة الكاتب وأبحاثه الأكاديمية السابقة الشهيرة عن العراق. من صفات حنا بطاطو بشكل خاص، والأكاديمي بشكل عام، أنه يعشق الأرقام والإحصائيات الرسمية لذلك تتصدر مراجع كل فصل من فصول كتابه إحالات إلى تقارير رسمية سورية، من الوزارات المختصة، أو من المكتب المركزي للإحصاء، أو من وزارة التخطيط. مع العلم أنه خلال عقود كانت الإحصائيات تحرص على أن يبدو كل شيء زاهياً. فالقطاع العام إنتاجيته في ازدياد، وكذلك أرباحه ومستوى المعيشة في حالة ارتفاع، والبطالة شبه معدومة والتعليم الرسمي في أوج ازدهاره.. أما قول شيء آخر فهو أمر يشبه العملية الانتحارية. كي تشير إلى سلبية مهما كانت صغيرة عليك أن تكتب مقدمة طويلة أولها الاستشهاد بقول لحافظ الأسد، «لا أريد لأحد أن يسكت عن الخطأ ولا أن يتستر على العيوب والنواقص»، ثم تشرح أنك مخلص ووطني وتهدف لتحصين الوطن، وبعدها تذكر المشكلة التي يعاني منها الوطن، ولتكن مثلاً أن الحمامات العامة في التكية السليمانية غير نظيفة. فتخيل أي أرقام رسمية سينتجها هذا الجو، يضاف إلى ذلك الفوضى الضاربة أطنابها، التي يبدو أنها كانت مصنوعة لتخفي جبال الفساد، حتى أن المرشح الرئاسي حسان النوي صرح ذات مرة، بأن لدينا ثلاثة أرقام مختلفة لعدد العاملين في القطاع العام، وكل رقم أصدرته إحدى جهات الدولة!
يمكنك أن تكتب رواية كوميدية عن حكاية الأرقام، في سوريا، مثلاً إذا لم تكن سورياً وتعرف خلفيات الأمور ستصيبك صدمة عندما تكتشف أن ربع أصدقائك السوريين على فيسبوك يحتفلون بعيد ميلادهم في الشهر الأول من العام. وإذا كنت باحثاُ علمياً ربما خطر لك أن تبحث عن سبب هذه الظاهرة . فتكتب بحثاً عنوانه «لماذا ترتفع خصوبة السوريين في الشهرين الثالث والرابع فيولد ربع أطفالهم في الشهر الأول؟»، أعتقد أنك ستنسب ذلك إلى اعتدال الطقس في الربيع وارتفاع مستوى الشبق عند السوريين. وربما بحثت عن سر ارتفاع مستوى الشبق هل هو زهر الربيع، أم ارتفاع درجات الحرارة، أم الأعياد الوطنية التي تكثر في أبريل/نيسان فيزداد التعطيل عن العمل وملازمة البيوت؟ لكنك لو كنت سورياً وتعرف ما خلف الأرقام يمكنك أن تفسر ذلك بشكل بسيط، ودون دراسات، وهو أن سبب كثرة أعياد ميلاد السوريين في الشهر الأول من كل عام هو، قرار وزارة التربية قبول مواليد الشهر الأول من كل عام مع مواليد السنة السابقة في الصف الأول من التعليم الإلزامي وبذلك يكسب الطفل سنة إضافية ويسبق أقرانه دراسياً . من أجل هذا يؤخر الأهل تسجيل أولادهم المولودين في الشهور 10 – 11 – 12 إلى الشهر الأول من العام التالي. وربما اشتط الأهل وأجلوا طفلاً مولوداً في الصيف!
لو جمعت عدد الأشجار التي كانت اللجنة العليا للتشجير تدعي زراعتها كل عام في عيد الشجرة، لاقتنعت أن سوريا باتت غابة أمازونية كبيرة، لكن عندما تنظر إلى الواقع لا ترى إلا التصحر الزاحف. قرار من وزارة النقل بإعفاء السيارات التي تستخدم لتربية النحل من رسوم التسجيل. يجعل من سوريا من أكبر البلدان المنتجة للعسل طبعاً على الورق لأنها كلها مناحل وهمية لأجل تسجيل السيارة. قرار من وزارة السياحة باعتبار كل من يدخل من المنافذ الحدودية سائحاً، ولو كان من أبناء البلد المغتربين يجعل أعداد السياح في سوريا بالملايين، وهكذا دواليك هذه حكاية الأرقام الرسمية في سوريا.
حكاية أخرى على سبيل المثال، حتى وقت متأخر من التسعينيات كان هناك شيء اسمه دولار التصدير وهو الناجم عن تصدير البضائع خارج سوريا، فقد سُمح للمصدرين باستيراد كل البضائع الممنوع استيرادها من الخارج بواسطة دولار التصدير . ما هي النتيجة؟ عمليات تصدير وهمية بملايين الدولارات، مثل تصدير «دربكات» مصنوعة من الفخار إلى لبنان، وبعد دخولها الأراضي اللبنانية يتم رميها هناك، أو تصدير الملوخية، التي في حقيقتها جمع عيدان الملوخية من القمامة ثم رميها في لبنان أو البطيخ إلى مصر عبر البواخر، وما إن تبتعد الباخرة قليلاً عن الشواطئ السورية حتى يتم رميه في البحر، وكلها تسجل في الأرقام الرسمية التي يعتمد عليها بطاطو. وفي كتاب حنا بطاطو طُرف لا تنتهي، وإحدى طرفه أنه يقارن ظواهر هذا البلد «النامي» مع الولايات المتحدة واليابان. مثلاً عندما يتحدث عن النمو الديموغرافي، وهذا خطأ لا يرتكبه مبتدأ لأن الثورة الديموغرافية في العالم الثالث، بدأت بعد الحرب العالمية الثانية ولم تنته حتى اليوم وإن بدأت بالتخامد قليلاً، أما في العالم المتقدم فهي بدأت في القرن التاسع عشر وانتهت. فأي معنى للمقارنة مع الولايات المتحدة التي تحقق النمو الديموغرافي أساساً بفعل الهجرة إليها وليس وفق آليات داخلية أو مع دولة متقدمة كاليابان أنجزت ثورتها الديمغرافية في القرن التاسع عشر، كما قلنا. ويصل الظُرف بحنا بطاطو مبلغاً أنه يقارن بين الديمقراطية في سوريا وأمريكا، ليستنتج أنه إذا كان المقصود الديمقراطية الحقيقية فهي غائبة في الحالين .
بنى حنا بطاطو كتابه على فكرة وحيدة أن المسؤولين البعثيين الذين استلموا السلطة هم من أبناء أغنياء الريف، أو بالتعبير الروسي الكولاك. وهي ملاحظة معروفة لكل مهتم بالشأن العام ويعرف قليلاً عن الخلفيات الاجتماعية التي انحدر منها قادة الصفين الأول والثاني من المسؤولين المدنيين والعسكرين، وحتى أساتذة الجامعات، وهذه المعلومة تتعارض مع السردية الرسمية التي كانت تقدم الريف السوري على أنه طبقة واحدة من الفلاحين المضطهدين. لنقل إن هذه هي قطعة السكر التي كان يمكن أن يقدمها حنا بطاطو في مقال، أو في دراسة من عشرين إلى خمسين صفحة، لكن كيف يمكنك أن تحولها إلى مجلد ضخم؟ نعم يمكن فعل ذلك إذا راقبت طريقة عمل صانعي غزل البنات، الذين يضعون ملعقتي سكر في جهازهم ثم يدورونها تحت نار هادئة، مع إضافة بعض الصبغة فيحولون ملعقتي السكر إلى كيس ضخم من غزل البنات الذي ما إن تضعه في فمك حتى يذوب ويعود إلى أصله. كذا يعمل الأكاديميون الأمريكيون كما لاحظ المفكر سمير أمين في سياق حديثه عن تقارير الأمم المتحدة، «هذا النظام يسير على الطريقة الأمريكية التي تقضي العمل الكمي الكبير، حتى في عدد الصفحات التي يجب على الباحثين في الجامعات نشرها سنوياً! وفي رأيي أن المبالغة في المعلومات تعني المزيد من الأخطاء، وبالتالي تضر بالفعالية».
والمبالغة في المعلومات تجعل حنا بطاطو يكدس معلومات سريعة مستقاة من مصدر واحد دون أن يدقق بها مثلاً يقول عن مجلة «الإنسانية» التي أصدرها حسن رزق في حماة عام 1900، إنها مجلة ذات توجه شعبوي؟ أجزم أنه لم يطلع على أي عدد من أعداد هذه المجلة التي كانت نخبوية، بل شديدة النخبوبة تهتم بالفكر الغربي، بل إن مستواها فوق مستوى الناس اليوم فكيف بذلك الزمان، من أخبره أنها شعبوية؟! لا أعرف. وعند الحديث عن قادة الفلاحين في ريف حماة يستقي معلوماته من الاشتراكيين العرب، الذين يقدمون أشخاصا بعضهم دورهم ثانوي . يقدمونها لا لأهميتها، بل لأنها بقيت ملتزمة بالحزب فقط، ولم تذهب باتجاهات أخرى، أو لأنها بقيت على قيد الحياة فتذكروها. وبالطبع لا يقاطع المعلومات ولا يدققها فهو مشغول بزيادة حجم صفحات الكتاب. توجد مطبات وأخطاء كثيرة في كتاب بطاطو.. قد نعود اليها في وقت آخر.
كاتب سوري
شكراً أستاذ ثائر،
لقد أثرتَ وبأُسلوب لطيف ومُضيء وساخِر أحياناً موضوعاً في غاية الأهميّهً.
في كندا الإحصاء يتبوأ مكانة هامة لدى صُنَّاع القرار. ولذا تُفرَغ له الميزانيات والمديريات. ف Statistics Canada هي دائره فدراليه تُعنى بجمع الإحصائيات في الاقتصاد والمجتمع والبيئه لِتضعها أمام السياسيين للاستئناس بها لدى استخلاص العِبَرْ على مدى نجاعة أو إخفاق السياسات السابقه ولتوجيه البوصله مستقبلاً. كما أنّها تضع كل هذه الإحصائيات أمام العامّة أيضاً ليتسنى لهم اتخاذ قراراتهم الخاصه على ضوئها.
مع الأسف الأرقام في الشرق الأوسط هي أولى الضحايا، “لِسَماجَتِها وقِلَّةِ أَدَبِها”، ويتم دفنها على عَجَل. والأكثر إيلاماً استبدالُ المَوْتَى وخاصةً على يدِ المُثَقَّفين، كما أسلَفْتَ أُستاذي الكريم، فقط “لتدعيم رأيٍٍٍٍ”. متى يعيشُ الرَقَمُ ويُدفَنُ “المُثَقَّف”؟
شكراً أستاذ ثائر،
لقد أثرتَ وبأُسلوب لطيف ومُضيء وساخِر أحياناً موضوعاً في غاية الأهميّه.
في كندا الإحصاء يتبوأ مكانة هامة لدى صُنَّاع القرار. ولذا تُفرَغ له الميزانيات والمديريات. ف Statistics Canada هي دائره فدراليه تُعنى بجمع الإحصائيات في الاقتصاد والمجتمع والبيئه لِتضعها أمام السياسيين للاستئناس بها لدى استخلاص العِبَرْ على مدى نجاعة أو إخفاق السياسات السابقه ولتوجيه البوصله مستقبلاً. كما أنّها تضع كل هذه الإحصائيات أمام العامّة أيضاً ليتسنى لهم اتخاذ قراراتهم الخاصه على ضوئها.
مع الأسف الأرقام في الشرق الأوسط هي أولى الضحايا، “لِسَماجَتِها وقِلَّةِ أَدَبِها”، ويتم دفنها على عَجَل. والأكثر إيلاماً استبدالُ المَوْتَى وخاصةً على يدِ المُثَقَّفين
شكرا لك استاذ عادب