حواري باريس تفتقد صائد السوانح المبهجة صلاح عبد الرحمن

مع الوقت، قد تتحول الصور التي تحتفظ بها في ذهنك لمن تعزهم في هذا العالم إلى غائمة أو مشوشة، لكن يرسخ كل ما هو جميل ومحبب في أعماق ذاكرتك، ناصعاً وواضحاً ، كما كانوا ، عندما تتأمل صائد السوانح المبهجة، صلاح عبدالرحمن، وتستغرق النظر وتتأمل مثل هذه الشخصية النادرة، تظل عاجزا تماما أمام الذي سطرته أقدار الماضي، تسأل نفسك؟
هل مر في مدينة النور برق يشبه صلاح في وميضه؟
هل باستطاعة القادم أن يأتي بشخصية تحمل روح صلاح في هفهفاتها المبهجة؟
الشخصيات التي يرمي بها القدر في طريقنا، لا تعدو إلا أن تكون مجرد حدث عابر وبسيط في حساب الزمن المذهل، ولكن صلاح غير، غرفة أخرى من غرف الروح تطفئ شمعتها، وتسدل الستائر، في كل مرة نعتقد أنها الأخيرة فيخيب الظن، ونحس بالموت يقترب منا، حتى تخاله قد لامس الأصابع.

عالم أنيق ومدهش

بكل بساطة خلق صلاح عالم من حولة بنسقه، بما يشتهي هو، عالم أنيق ومدهش، احتفظ لنفسه بمفاتيحه، حضوره الطاغي مكنه من عمليات احتواء رحيم لكل من حوله، مبتكر السوانح المبهجة، لا يخشى ساعات الصباح الباكر، ولا يخاف من الأمسيات المتأخرة، حيث اقتضت ظروف عمله أن يستيقظ في الخامسة صباحاً في شتاء وخريف، كان يظهر دائماً بمظهر الرجل الحيوي كثير المشاغل، بينما هو في مجالس الأنس، ذلك العاطل عن كل شيء، إلا عن صيد القفشات المرحة، لم تكن تناقضات وإنما مفارقات، قل ما تحتويها شخصية واحدة لأنها تحتاج إلى مهارة نادرة وطاقة استثنائية.
كان مثالا في الرقة، وعندما تغادرنا مثل هذه الكائنات المحبة نشعر أن العالم الذي لا تنقصه القسوة يفقد وردته الاخيرة.
مساء الجمعة 29-5 كانت الساعة تشير إلى الثامنة، عندما أسلم صلاح عبد الرحمن الروح، وترك حواري وأزقة باريس شجناً مضنياً، ولا عزاء لمن لا يحتمل الفرح ويحمله وفاءً لهذا الرجل، يحلق به كلما تذكر مسامراته الأنيقة ، وبدلته الزرقاء، ربطة عنقه التي يمسح عليها بابتسامته التي لم تفارق محياه.
نحن تربينا على الانطباعية، والأحكام النهائية على الأشخاص، كنا نحكم على الأشياء وعلى الأشخاص بقسوة، ونكثر من التأفف وعبارات الامتعاض، دون مواربة، لكن الأفندي صلاح كان كتوما ومؤدباً وبه حياء فاضح، على الرغم من ذلك فقد كان حراً، صلاح، يأكل واقفاً أو جالسا، لا يهمه إن قدم له الطعام على طبق من الكريستال، أو على صفحة جريدة، ولا يعير بالا لسفرة تتوسطها وردة الخشخاش، أو بجوار زريبة بهائم، لا يختار أصدقاءه ولا يهمه إن كان بينهم شيخ تقي أو صعلوكاً ينفر منه الناس.
صائد السوانح المبهجة، كان كيانا متمرداً، وحدثاً فارقاً بين سودانيي فرنسا، ربط بين ثلاثة أجيال مرت على باريس، وإن جاز لنا، نصنفهم على النحو التالي:

جيل الأفنديات

جيل الأفنديات، جيل الفرجة، و”الجيل الراكب راس”.
تمدد صلاح في هذا الفارق الزمني وإتكأ عليه ضاحكاً كعادته، جيل الأفنديات: هم الذين ابتعثوا من أجل الدراسة في فرنسا والعودة لترقية الخدمة المدنية في السودان، ذاك زمان برجالاته ومواضيعه، ثم جيلنا الذي تورط في منتصف المسافة، فلا هو انتمى إلى جيل التحرير والبناء ولا هو جزء من الجيل “الراكب راس” الذي يطالب بالقطيعة مع الماضي، جيلنا سمع بفكرة الابتعاث الخارجي من أرشيف الإذاعة، طمرنا تحت أنظمة شمولية لأزيد من اربعين عاما، ولم نحرك ساكنا، “جيل فراجة”.
أما الجيل “الراكب راس” هم جيل زوارق الموت.
صلاح عبد رحمن يخاطب الدبلوماسيين ويتحدث لغتهم عندما تقتضي الضرورة، ويسخر من الجيل المحشور «جيل الورطة» ويستمتع بقاموس «المكنات» و«الراسطات» ويجيد لغة «الراندوك» وصل بين كل هذا بروحه المداعبة، ربطهم في مجالسة بحبال من الود والسوانح المضيئة.
يتصرف في مجلسه وكأنه لا يلاحظ شيئا، في حين أنه لا يغفل عن شيء، لديه تجارب متراكمة بحكم تربيته وأسفاره وعمله، خبر لؤم الحياة، كان يصارحها ويفضحها، ويسخر منها.
إذا حظيت بزيارة صاحب لا تعرفه جيدا أو صديق طال الزمن بينك وبينه، رافقه إلى حيث مجلس صلاح، فصائد اللحظات المبهجة سيقوم « بنبشه» في دقائق معدودات، ويقدمه لك في صحن «اسبيرات» وعلى الرغم من هذه الجرأة الطاغية، إلا أنه لم يكن فظاً، يراعي أصول اللياقة، لديه عبارات ترحيب جوهرة مميزة وودودة ، يكرمك ببعض الكلمات المقرظة التي تشعرك أنك استثناء وسط الحضور، يدخلك في حميمة المجلس على نحو ساحر. يبادرك بالسؤال البسيط: “أخبار البلد شنو” سيقبل منك وجهة نظرك أيا كانت، ولكن احذر فقبلك كان يجلس مع دبلوماسي مختص في شؤون السودان، أو رجل أعمال شخص مختص في الاقتصاد السوداني، أو « ترس » من لجان المقاومة كشف له دفتر التظاهرات، كان يحتقر الأدعياء والمتقعرين والمتعالين على الناس، ولا يفوت فرصة في مجالسه للاستهزاء بهم والتعرض لماضيهم إن دعت الحاجة فلا بد أن يتخلص الناس من شرورهم، هكذا كان ولم يكن نبيا، لكنه كان أنيقا وضاحكاً ، بفطرة سليمة ورحمة لا تخطئها عين. خالطهم جميعا، أذكياء ومحدودي معرفة، ولصوص، وكرماء، لكن فطرته أوصلته إلى اختيار البسطاء من الناس وبشكل حاسم، يبحث عنهم في حواري وأزقة باريس، يجمعهم ثم يتوسطهم، لتبدأ حفلة الطعام والضحك.

كتلة من المرح والحيوية

كان كتلة من المرح والحيوية تنبثق منة وتشيع أثرا محسوسا في كل من يجالسه، رغم تقدمه في العمر، يخاطب مكامن الروح التي أهملت في ضباب الغربة، وتقلب الفصول، كانت له مصادر استثنائية للطاقة، يضيء ويمنح الآخرين، كان لديه مفتاح احتياطي للفرح يعمل آلياً، عندما تظلم من حوله، يدير محرك سياراته بعد انتهاء ساعات الدوام، يرمي بكل تلك الساعات المتطاولة والضغوطات المستمرة وراء ظهره ، يكفي اتصال واحد منه لصديق، حتى تكتمل عناصر المرح ولمة الأصدقاء لتثلج الروح المعنوية.
ترجل صلاح وضميره مرتاح «ما في قلبه على لسانه» عاش واضحاً صريحاً.
يعشق آلة الاكورديون، ويجيد عزفها، هذه الآلة التي تشبة القدر في تمددها وانكماشها، وهي تصدر نغماتها الشجية، وتموجاتها الطروبة، رافق بها الفنان عبد رحمن عبد الله وعبد القادر سالم وغيرهما، وظلت روحه السمحة تتمدد وتنكمش وتهفهف بيضاء بين الناس كرمال كردفان وقلبه ينبض إيقاع المردوم حينما يجد «اللمة».
يغمض عينية فجأة وينصت إليك حتى تخال أنك المتحدث الأخير في هذا الكون.
لماذا لا يحتمل صلاح ثقيلي الظل والخائضين في عروض الناس و« اللزجين»؟ على الرغم من سعة باله؟ سيجيبك بجرأته المباغتة وصراحته: أنا نبي؟ بلاش كلام فارغ.
يلحقها بضحكة مجلجلة.. وبكلمات متتابعة، تدخل الحضور في نوبة من الضحك المتواصل، هذه الوصفة يتبعها صلاح مع الدبلوماسي ومع رجل الأعمال ومع العاطلين عن العمل.
يسافر بسيارته الى مدن أخرى ليتفقد القادمين الجدد، وأحوالهم، يحمل لهم معه الخير والطعام وروحه الطروب، يجالسهم بالساعات، ويحضر لماتهم، يردد دائما «دول ناسي». يسألهم عن أخبارهم وأخبار البلد، ويتنسم بانفة الطويل راوئح الاماكن التي جاءوا منها، يتفحص ملابسهم ويسترجع معهم ذكرياتهم ، يبحث بينهم عن أقرباء مشتركين، ودائماً ما يطلق ضحكته المجلجلة متبوعة بعبارة « ياخ أنتا قريبي».
كان بارعاً في تحطيم الحواجز النفسية، يحتاج لسويعات ليشيع جوا من الإلفة بين الحضور، حديثه لا يمل وكرمه بلا حدود.

ذاكرة الأمكنة

(مبتكر السوانح المبهجة) رجل «الذاكرة»، ذاكرة الزمان، ذاكرة السفر، ذاكرة الأمكنة، في حواري وطرقات باريس، كان لديه ولع خاص بالسفر، وزيارة المدن والقرى الصغيرة في أوروبا، يحب الطبيعة على نحو خاص، يهتم بتفاصيل الأشياء، بالحكايات العابرة، طبائع الناس، ولون الطعام، وطعم النساء، ورائحة خبزهن، لديه ذاكرة توثيقية، يستدعيها كاملة متى ما شاء بشكل مذهل وأنيق، لكن تراجعت ذاكرته بعد سقطة عابرة، فرفض ذلك، وربما قرر الرحيل، صلاح أحبط بشكل خاص بعد تراجع مشروع السودان الجديد، وتناوشته الأفكار حول مصير الآلاف من الصبيان وصبيات البلد الذين تدفقوا إلى أوروبا، تركوا خلفهم بلدا بائسا، جرحه نازف وطري، كان يتأمل صلاح العودة إلى داره التي بناها على مر السنوات التي قاربت من نصف قرن وهو في الغربة، أن يعود اليها كعودة صديقه صلاح أحمد أبراهيم.
نشأ صلاح في بيت تعليم، مدرسة كبيرة، تنقل مع والده من مدينة إلى مدينة داخل السودان، عبد رحمن أحمد عيسى، الأب كان معلما ومفتشا تربويا تخرج في كلية غردون، وكان يشرف على السكن الداخلي للطلاب أيضا، يستضيف المرضى في منزله وكانت تقوم حرمه بتقديم الرعاية لهم، أسوة بأبنائها، تربى صلاح في هذا « الحوش » الكبير، الذي لم يستطع أن يميز فيه بين أخوته وبين المرضى من طلاب المدارس ولا يستبين عددهم، صلاح كان طاقة استثنائية ومعطاء كوالده.
ابن عبدالرحمن الذي انتصر على «الكورونا»
لم يكن يدري أن «أمصال» الجرعة المضادة للمتحورة هي التي ستسقطه السقطة الكبرى، كان دائماً يمازح القدر ويلاطفه، وكان يدري أيضا أن للقدر مشيئة لا تتأخر ساعة ولا تتقدم. رحل مبتكر السوانح المبهجة، ستفتقدك شوارع باريس ومتنزهاتها الضيقة، أرصفتها التي تغتسل يومياً بالماء والبرد والثلج ، تلقي عليك التحية والسلام. سلام على روحك.

إعلامي من السودان يقيم في باريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د. اسماعيل الفحيل:

    الف شكر على هذه الكتابة الرائعة لقد وفيت صديقي وابن عمتي صلاح حقه. لغتك جميلة ورائعة

  2. يقول عماد الكامل عبدالرحمن:

    الحمد لله على ما اراد الله
    احساس اني فقدت اب و ليس الذي فقدته من صغري
    اللهم نسألك الرحمة و المغفرة و الصبر والسلوان

  3. يقول ازهرى ادم على:

    نسأل الله أن يتقبلك قبولا حسن ويجعل مثواك الجنة.
    وان يجعل البركه في زريتك
    ومهما يقال ويكتب عنك لا
    نوفيك حقا..
    اخى الاكبر نستودعك الله الذي لاتضيع ودائعه..
    وتظل ذكراك العطرة تفوح دوما.

  4. يقول امال:

    الرحمة و المغفرة لصلاح عبدالرحمن
    التعازي لسارة و الأولاد و كل الأسرة

  5. يقول وعدكريم ..مغنى:

    شكرا استاذ عاطف لانيق الكلمات وجميل العبارات عن الراحل العم صلاح ..كم كنت وفيا وبارا به ..وهذ يؤكد اصل معدنك ..رحم الله العملاق صلاح اسكنه فسيح جناته

  6. يقول سعدية الامين:

    كلمات أنيقة في حق شخص لا يجود الزمان بمثله. الرحمة والمغفرة لزميلي وصديقي صلاح عبد الرحمن زميل الدراسة ورفيق الغربة، والتحية لكاتب السطور على سرد أشهد عليه أنا من جيل (الأفندية) انه صحيح مائة بالمائة

اشترك في قائمتنا البريدية