ساد في الثمانينيات والتسعينيات نقد عمومي طال الأنظمة العربية وممارستها القمعية ضد شعوبها، حال دون التمييز بين طبيعة وبنى السلطات الحاكمة. فجرى توحيد النظرة للديكتاتوريين لمجرد أنهم يسلكون سلوكيات متشابهة.
وساعدت القضية الفلسطينية بوصفها معياراً حاسماً للتقييم في منطقتنا في تكريس هذا التعسف المعرفي، ونقلت التمييز المطلوب بين الأنظمة، من الداخل إلى الخارج، بحيث عرّفت الطغم المسيطرة بدلالة الصراع مع إسرائيل، وليس انطلاقاً من تأسيسها وحياكة بنيتها وسياقات تكريسها، فتوزعت في الوعي السياسي، بين خائنة ومقاومة وثالثة محايدة، في حين كان نقد استبدادها يتأرجح بين التأجيل الذي يسبّق القضايا الكبرى على ما دونها، والتعميم الذي يكاد لا يصيب أحداً من شدة تطابقه مع أي تجربة للحكم السلطوي في التاريخ. فبدت مقولة «الأنظمة العربية»، أقرب إلى مديح الحاكمين منها إلى ذمهم، بحيث تم تمييع صفات القمع وراء اللاتحديد، وبات سهل على كل نظام أن يسقط سلوك الاستبداد على نظام آخر، ويبرئ نفسه طالما هو غير مستهدف بما يمس بنيته وجوهر وجوده.
عند فشل الربيع العربي، بدا أن النقد الموجه للأنظمة بوصفها مفصولة عن مجتمعاتها، لم يكن سوى مديح لها، انطلاقاً من خرافة أن البديل أسوأ
خطورة هذا النقد الذي عاد بمنافع جمة على السلطات العربية، تمثلت في إغفال العلاقة بين تلك الأخيرة والمجتمعات الخاضعة لها، بحيث ظهر الحاكمون وكأنهم منتج غريب لا صلة لهم بحاكميهم، حتى درجت مقولة إن المستبدين هم عملاء للغرب الذي يريد أن يسلبنا ثروتنا، وقد وضعهم وكلاء له لتحقيق هذا الغرض. إهمال الجانب الاجتماعي للأنظمة وارتباطها بالشعوب التي تحكم، لم يغيّب الشعوب وحجز حركتها وفاعليتها خلف مصطلحات الاضطهاد والقمع وكبت الحريات، بل ساهم أيضاً في إعفائها من مسؤولية إنتاج الأنظمة، ذاك أن الأخيرة لعبت على التناقضات الطائفية والإثنية، وتجذر العداوة بين الأكثريات والأقليات، وفشل أي محاولات لإنتاج عقود اجتماعية تكفل إدارة التنوع بدون عنف أو دمار. والتناقضات تلك التي باتت ممأسسة في بعض البلدات تحت ستار المحاصصة، بدون أن يؤدي ذلك إلى حل الخلافات، ليست وليدة وقت قصير، بل هي امتداد تاريخي للتكوين المتعسر لبلداننا، حيث الفشل في خلق دولة بالمفهوم الحديث، غير منفصل عن طبيعة المجتمعات التي بقيت رهينة تكوينها الجماعاتي، ما ساعد الأنظمة على تثبيت نفسها، وخلق شرعيات مزيفة تزعم في العلن توحيد المجتمعات المنقسمة، تارة باسم القومية والاشتراكية وطوراً باسم الإسلام، وتعمد في الخفاء على اللعب على التناقضات وتجييرها لصالحها.
مع اندلاع الربيع العربي، استعيدت بقوة تلك الجزئية التي تفصل المستبد عن مجتمعه، وجرى تصديرها لتكون مدخل النقد ضد الأنظمة، فحُوّل الشعب إلى كتلة صلبة مطالبة بالديمقراطية، بدون التنبه إلى أن الانقسامات التاريخية تحولت عبر عقود إلى شرعيات للأنظمة الحاكمة، فهنا عائلة ربطت نفسها بطائفة وبات الأخيرة، تشعر بأنها مهددة إذا سقط النظام، وهناك بديل إسلامي ينظر إليه المجتمع بعين الريبة، لكنه الوحيد المنظم ويملك قدرة على الفوز بالانتخابات، وهنالك قبائل استغلت الفراغ لتمارس الانتقام والانتقام المضاد.
وعند فشل الربيع العربي وتعسره، بدا أن النقد الموجه للأنظمة بوصفها مفصولة عن مجتمعاتها، لم يكن سوى مديح لها، انطلاقاً من خرافة أن البديل أسوأ، ما يجعل الحاجة ملحة لتأسيس نقد أكثر تركيباً للأنظمة، يبتعد عن التعميم ويحدد طبيعتها، ولا يربطها بالمجتمعات، باعتبار الأخيرة عاجزة ومسلوبة القدرة، بل بوصفها مسؤولة عن السلطات التي تحكمها انطلاقا من تكوينها كجماعات، تفضل الاقتراب من هذا النظام وذاك خوفاً من بعضها بعضا.
كاتب سوري من أسرة «القدس العربي»