حين يجلس الحزن في الأركان

هل هو العمر والتقدم فيه يجعلك تنتبه إلى ما قد تأخذك عنه مشاغل الزمن، أم هي المشاغل التي حولنا والتي فاقت كل زمن في تفاهتها، في صراعات لا معنى لها بين المثقفين حول جوائز أو غيرها، أو في ما يخص الوطن كله، ومشاكل السياسة التي تحاصره مثلما يحدث في غزة، أو الأبواب المفتوحة في السجون لأصحاب الرأي من الكتاب والفنانين، رغم ذلك ورغم الوهن الذي أعانيه، أجد فرصة بين وقت وآخر للخروج إلى الحياة، ومنها خروجي مساء يوم السبت السابع عشر من مايو/أيار لحضور حفل من أجمل الحفلات كان في مبني القنصلية الفرنسية وسط القاهرة، حيث عقدت مجموعة بحثية لكتابات حول قناة السويس، حفلا بمناسبة إصدار دار نشر جامعة جرينبل الفرنسية كتابا بالفرنسية بعنوان «قناة السويس في مرآة الأدب والتاريخ، بين عامي 1850-1975»
الكتاب هو أنطولوجيا ضمت مختارات من أعمال لفيف من المفكرين والأدباء مصريين وأجانب، يطول ذكر أسمائهم من الراحلين، أو من لا يزالون بيننا، منذ ظهور فكرة القناة، وبينها صفحات من روايتي «طيور العنبر»، وجدتها فرصة رغم الوهن والأخبار المحزنة حولي أن أذهب. قابلت نخبة من أجمل الأحباء ممن لهم نصوص في الموسوعة مثل الفنان أحمد نوار ومحمد أبو الغار والكاتبة سهام بيومي والكاتبة ريم بسيوني وغيرهم كثير، فضلا عن أساتذة اللغة الفرنسية ومعدّي المشروع مثل هناء السيف وآخرين. المجموعة البحثية التي تعمل على المشروع منذ أكثر من عامين تتكون من فريقين من الأكاديميين الرائعين، أحدهما من قسم اللغة الفرنسية في كلية الآداب جامعة القاهرة، قادته رندة صبري، والآخر من الأكاديميين الفرنسيين على رأسهم سارجا موسى الفرنسي المصري الأصل. كان هدف المجموعة البحثية إطلاع القارئ الفرنسي على الجوانب التي يجهلها من تاريخ قناة السويس، والظلم الذي وقع على مصر والمصريين خلال تاريخها. وهكذا جاء هذا العمل الرائع.

رغم ذلك فللأسف مهما غبت عن الآلام حولي، أعود إليها ومن بينها حزني على حالة صنع الله إبراهيم، الذي تعلمنا منه الكثير، والذي أُجريت له عملية جراحية في مفصل الحوض للمرة الثانية، وعلى حالة صديق أيام الأمل في الإسكندرية مصطفى نصر ووجوده في المستشفى في حالة صعبة، ما بين أزمات القلب والفشل الكلوي، والذي أتمنى حين ينشر هذا المقال أن يكون قد خرج معافى من المستشفى. بين ذلك جاء الحزن العظيم على رحيل الفنان الكبير عصمت داوستاشي. سأتحدث بإيجاز مقاومة للحزن عن هؤلاء الثلاثة رفاق الحياة، ولا يعني هذا إنكار غيرهم، لكنه التاريخ الذي يجمع بيننا منذ أيام الشباب وطول الزمن والأخبار التي حاصرتني عنهم بالحزن أو القلق.
بالنسبة لصنع الله إبراهيم فهناك أكثر من محطة لي معه، أولاها قراءتي المبكرة لأعماله، وانجذابي للكتابة التسجيلية التي برع فيها، فكتبت روايتي «في الصيف السابع والستين» متأثرا به، وكان من حسن حظي أن نشرها هو عام 1979 في سلسلة روائية كان يشرف عليها في دار الثقافة الجديدة، لكنني بعد ذلك ابتعدت عن التسجيلية كما عرفتها عنده، ورغم أني كنت قد قرأتها عند غيره من كتاب العالم، حملني هو لأكمل قراءتي فيها مثل رواية ثلاثية «الولايات المتحدة الأمريكية» لجون دوس باسوس، أو «كل شيء هادئ في الجبهة الغربية» لإريك ماريا ريمارك. عدت إلى النزوع إلى التسجيلية بعد سنوات طويلة في روايتي «لا أحد ينام في الإسكندرية» وغيرها، بطريقة تجعلني ابتعد عن المعاني السياسية، وأحاول الإمساك بروح العصر، فتجد خبرا مثلا عن هتلر، يأتي بعده خبر عن حلاق في الإسكندرية، أو حادثة شعبية غريبة وهكذا. سأتوقف عن بقية المحطات التي كانت كلها رائعة وأدخل إلى عصمت داوستاشي أيضا بإيجاز.

عصمت الذي كانت زيارتي للإسكندرية لا تكتمل إلا بزيارته في بيته في منطقة العجمي، وزيارة الفنان مصطفى عبد الوهاب في منطقة سموحة، والاثنان رحلا عن الحياة. باعدت الأيام بعد رحيل مصطفى عبد الوهاب بيني وبين عصمت داوستاشي بسبب الوهن الذي أصابني، وبسبب رحيل كل أصدقائي في منطقة العجمي، فصار الحزن يمشي معي مع كل ذكرى. كذلك بسبب ما جرى على العجمي من تغييرات عشوائية في البناء، جعلتني لا أرى أشجارا ولا زهورا. فقط هي العمارات العالية العشوائية في شوارع ضيقة، فضلا عن اختفاء البحر أمام البنايات. عصمت الذي أطلق على نفسه «المستنير دادا» ليذكرك بالسريالية والدادية، لكن في كل أعماله كان ابن التراث المصري. أنظر إلى رسومه عن الموالد، أو الكف مثلا رغم احتفاظه الدائم بعناصر تكوينه. الخطوط الثابتة والقلوب والدوائر وما أشبه. وأنظر في بورتريهاته لأصدقائه من الفنانين والأدباء والسياسيين، التي لم تبتعد عن التحولات السياسية اللصيقة بجيله أو جيلي. الجيل الذي أفاق على هزيمة 67. عصمت داوستاشي الذي عرفته عشرات المعارض في مصر والعالم، لم يفز بجائزة من جوائز الدولة، وكان حريا، على الأقل، حصوله على جائزة النيل. غير ذلك كثير يمكن قوله أقله، إنه هو ابن البحر المتوسط بامتياز، لذلك يملك القوة لهذا الإبداع العظيم في كل مجال.
أذهب إلى مصطفى نصر صديق أيام الأمل، الذي كان أول من عرفت من أدباء الإسكندرية في قصر ثقافة الحرية. كيف أقمنا جماعة للقصة كانت تشرف عليها سيدة رائعة رحمها الله هي عواطف عبود، وكانت تستدعي لنا أدباء ونقادا من القاهرة يسمعون أعمالنا ومن ثم ينشرونها في مجلاتهم، التي يشرفون عليها في القاهرة.

كان اللقاء حافلا بأسماء رحلت مثل، سعيد بكر وعبد الله هاشم وأسماء باقية مثل رجب سعد السيد وسعيد سالم، ومن النقاد السعيد الورقي، الذي أبدع لنا أيضا قصصا شعرية رائعة تحمل عنوان «أبيجرومات السعيد الورقي»، سبق وكتبت عنها هنا منذ حوالي العامين. كيف كنا بعد الندوة نتجه إلى مقهى في شارع الشهداء في محطة الرمل نكمل الليلة في الحديث أو لعب الطاولة حتى تركت الإسكندرية. من أعمال مصطفى نصر روايات مثل «جبل ناعسة» و»الجهيني» التي تحولت إلى فيلم سينمائي أخرجه علي عبد الخالق وكتب له السيناريو مصطفى محرم. «الهماميل» و»ليالي غربال» و»سينما الدرادو» ومجموعات قصصية وغيرها كثير، وكان في السنوات الأخيرة ينشر كثيرا جدا على صفحته في فيسبوك مقالات فيها ذكرياته في الحياة الأدبية في المدينة، ومقالات عن شوارع ومناطق شعبية بشكل مثير، كما كتب قصصا للأطفال عديدة، وتحولت بعض قصصه القصيرة إلى أفلام روائية قصيرة مثل قصة «الكابوس» التي أخرجها أحمد رشوان باسم «الصباح التالي» وغيرها. كثير جدا يمكن قوله عنه وعن أصدقاء العمر الباقين أطال الله أعمارهم.
من أغرب ما حدث أنه تم ترشيحه أكثر من مرة لجائزة الدولة التقديرية، ولم يفز بها وهو يستحقها بجدارة، وهو مرشح لها هذا العام أيضا وأتمنى له الفوز. ذلك حدث كما ذكرت مع عصمت داوستاشي الذي يعرفه العالم كله، وهو أحد أهم أعلام المدينة التي أتمنى أن يطلق اسمه على أحد شوارعها ويحدث كثيرا مع أدباء وفنانين من الإسكندرية، ما أكثر ما طالبت لهم بالجوائز، لكن لا تزال مركزية القاهرة لها تأثيرها رغم أن العالم صار هاتفا محمولا، وليس كما كان يقال قديما إن العالم قرية صغيرة. ابتعاد جوائز الدولة عن كتاب وفنانين من الإسكندرية لهم هذه القيمة وغيرهم أيضا، من أغرب ما جرى ويجري في حياتنا الثقافية.
هكذا يغلفني الحزن الذي أهرب منه إلى الكتابة التي أحمد الله عليها رغم لألم، ورغم أني كلما حاولت الهرب منه جاء إليّ في خبر عن مرض شديد لصديق أو رحيل، فهل سيبتعد الحزن، أم سيظل ينظر إليّ ويضحك ساخرا متسائلا، يبدو أنك جننت يا إبراهيم لا تدري مقتضيات العمر أو إرادة الله.

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكراً أخي إبراهيم عبد المجيد.مازلت لم أتقدم في العمر وبعيداً عو أمراض تجعل من الحياة أقل سعادة والحمد لله. ولايخيم عليّ الحزن بسبب موت أصدقاء ومعارف من جيلي أو من عرفتهم منذ مقتبل العمر. ولكن لايخيم عليّ الحزن بسبب هو مايحدث في غزة والصفة الغربية بل يخيم عليّ ضيق يكاد لايفارقني لهذا العجز الذي نعيشه. لقد انتهى كابوس كنا نعيشه في سوريا وومازال مستمراً في السودان ولكن كابوس غزة أفظع وأشد هولاً ولانرى أملاً في الأفق وأشتد غيظاً عندما أرى كيف أن النخبة العربية بعد أن تخلفت عن ثورات الربيع العربي تتخلف اليوم عن دورها لدعم الشعب الفلسطني والوقوف في وجه هذا العجز الذي وقعنا فيه حيث لا نرى أصوات عالية تجاه الدول العربية التي تبدو لمل ناظر وكأنها غير معنية بحرب الإبادة والجرائم الوحشية والتجويع والتهجير والتطهير العرقي الذي تقوم به حكومة الإحتلال الفاشية المتطرفة ضد الشعب الفلسطيني في غزة والصفة الغربية. ولكم الله ياشعب فلسطين.

اشترك في قائمتنا البريدية