حين ينتصر الطلبة الغربيون لفلسطين

في عالم اليوم الذي تمركز فيه الفرد حول ذاته أكثر، حيث عالم الفردانية الخالصة، ينطلق الحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية والأوروبية المؤيد للقضية الفلسطينية وهو مؤشر إيجابي، خاصة أن الطلاب دائما ما يكونون في الجانب الصحيح من التاريخ، لأنهم غير مرتبطين بمسألة المصالح الخاصة. وهنا علينا أن لا نقرأ الحدث في سياق أنه تم قبل أيام أو أسابيع، إنما هي موجة ربما تخفت أو تنحسر بعد فترة، ولكنها قد تخلّقت وانتهى الأمر، وستفتح عيون العالم أكثر إلى قضايا أخرى، وهذه فرصة كي يسترد الإنسان إنسانيته من جديد، ويقول رأيه في كل القضايا التي تمس وجوده الإنساني، بعد أن جعلته الأنظمة الحديثة رقما.
إن مسألة الاحتجاجات الطلابية هي قضية مهمة جدا، فهذا أخطر جزء في المجتمع يحتج على وضع ما، وأن السلطة في أي بلد تعرف جيدا أن هذا الجزء الخطير من المجتمع، إذا اعترض فمعنى ذلك أن الأمور قد تغيرت. ويقينا أن السلطة ستقف ضدها، سواء في العالم المتقدم أو العالم المتخلف، لكن في النهاية وكالمعتاد سوف تنهزم السلطة أمام الحراك الطلابي. فهؤلاء الطلاب ليس لديهم مصالح شخصية وهم يدافعون عن مستقبلهم وليس شيئا آخر، وهذا الموقف في الحقيقة لا ينطلق من دافع ديني أو سياسي، وإنما الدافع الإنساني هو الذي يقف وراءه. فمنذ بداية الحرب على غزة ونحن نشهد في الولايات المتحدة مسعى حثيثا للجم كل صوت مؤيد للحق الفلسطيني، أو رافض للحرب من خلال الاتهام التقليدي بأنه معاد لليهود، رغم أن الكثير من هذه الأصوات هي من اليهود.

الجيل الجديد، بما أنه يحصل على المعلومة بالدرجة الأساس من وسائل التواصل الاجتماعي، فله القدرة على التفاعل بشكل أكثر وضوحا مع ما يجري في العالم، وفي فلسطين تحديدا

وهنا نجد حالة غريبة حقا، فعلى سبيل المثال أن جامعة هارفرد أدرجت علنا أسماء من شارك في التظاهرات، وأكدت بعض الشركات أنها لن توظفهم مستقبلا. وبذلك هي محاولة صريحة لمنع الصوت الذي يحاول الإشارة إلى ما يحدث في غزة من كارثة إنسانية وحرب همجية، وتصوير المسألة وكأنها معاداة لليهود من خلال تقصي بعض الحوادث الجانبية، وجعلها كأنها معيارية. ففي حين يتم تجاهل مقتل عشرات الآلاف، يتم الاهتمام فقط بشكوى أحدهم من أنه تضايق من أمر ما، أو شعار ما تم رفعه خلال التظاهرات، وهذا هو التفاوت القائم اليوم، ولهذا السبب نرى العديد باتوا يخشون أن يُطردوا من وظائفهم وجامعاتهم، لكن هناك العديد من الشباب والشابات ما زالوا مصرين على الالتزام بالقيم العالمية، ليس التزاما لفظيا فقط، في حين أن النخب السياسية، وعلى رأسها بايدن قرروا التعامي عن هذه القيم، فهم يعترضون على أخذ الإسرائيليين رهائن، ولكنهم يتناسون الشعب الفلسطيني، الذي أُخذ رهينة تحت الاحتلال منذ أكثر من سبعين عاما، بل يُقللون من قيمة الدم الفلسطيني، من خلال التقليل من أعداد الشهداء الفلسطينيين.
إن ما نشهده اليوم هو صراع في السرديات، بين سردية تريد التأكيد على أن إسرائيل هي الضحية والمعتدى عليها، والخصم العربي الفلسطيني المسلم هو المتوحش الذي لا بد من مواجهته بمختلف الطرق وهذه هي السردية الرسمية، ولكن هناك العديد من الأمريكيين الذين يقولون، إن هذه السردية لا تنتظم على أرض الواقع، ولا بد من وقف القتل الدائر في غزة. كما أن التأطير السلطوي لحراك الجامعات لا يعني أن الطلاب يُعبّرون بحرية وسلام عن حقهم الدستوري في التعبير الحر، وعن رفضهم للجريمة البشعة المستمرة في غزة، بل يتم تأطير الحراك على أنه معاد لليهود، وبذلك انتقل تعريف معاداة السامية في الولايات المتحدة فعليا من بُغض اليهود والسعي لإلحاق الأذى بهم كما كان في السابق، إلى عدم الموافقة على الطرح الإسرائيلي حول حق السيطرة على ما يسمونه أرض إسرائيل، أي أن من يقول اليوم في الولايات المتحدة إن من حق الفلسطيني العيش في أرضه وإنشاء دولته، يُصنّف هذا الكلام من جانب المؤسسات المعنية بمكافحة معاداة السامية على أنه معاد للسامية، لأنه، من وجهة نظرهم، ينكر على اليهود الحق في السيطرة على أرضهم.. إذن نحن امام صراع في السرديات بين من يرى أن الحق الإسرائيلي هو الحق الظاهر، وما عداه هو محاولة للقضاء على هذا الحق بصور التفافية، ومن يرى الحق الفلسطيني هو الحق الظاهر. وأن السردية المؤيدة لإسرائيل هي محاولة لمنع تسرّب هذا الموقف الأخلاقي الذي يشكله هؤلاء الطلاب، إلى مجموع الرأي العام الأمريكي، خاصة هؤلاء الذين تعوّل عليهم إسرائيل تحديدا.
إن القراءة الجيلية لحراك الجامعات الأمريكية والأوروبية مسألة مهمة جدا، أي التركيز على مسألة التفاوت في المواقف بين الأجيال هو أمر صائب وضروري، لأنه بالفعل الجيل الجديد، بما انه يحصل على المعلومة ليس فقط من وسائل الإعلام المعتادة، ولكن بالدرجة الأساس من وسائل التواصل الاجتماعي، فله القدرة على التفاعل بشكل أكثر وضوحا مع ما يجري في العالم، وفي فلسطين تحديدا، ولكن المسألة لا تتوقف عند هذا الحد، طبعا هناك أطراف مؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة في مختلف الأوساط، انطلاقا من العاطفة للعديد من اليهود الأمريكيين تجاه إسرائيل كملجأ وملاذ آمن لليهود في العالم، ولكن هؤلاء على الغالب من التقدميين، الذين يعانون اليوم من الاضطراب في هذا الشأن، لأنهم يدركون أن ما تُقدم عليه إسرائيل هو جريمة، ولكن هناك تعاطفا نوعا ما مع إسرائيل، كما أن مشاركة الشباب من اليهود في هذه التظاهرات ناتج عن أن تأثير تجربة المحرقة عليهم أقل من غيرهم من اليهود، لذلك هم قادرون على تجاوز ذلك وهم في طليعة من يشدد على ضرورة تأييد الحق الفلسطيني وإنهاء جريمة القتل في غزة. لكن السؤال المهم هو أين جامعاتنا العربية من هذا الحراك الذي بات يغطي مساحة واسعة من خريطة العالم؟
يقينا أن للقضية الفلسطينية مكانة كبيرة في الوجدان العربي، وكنا نشهد في أحداث أقل مأساوية وكارثية من مأساة غزة الحالية خروج مظاهرات طلابية في مختلف الدول العربية، لكن هذا المشهد غائب اليوم تماما. قد يُعبّر الطلاب العرب عن حزنهم وآلمهم وشعورهم بالإحباط في هذا الموضوع لكن بشكل فردي، ويعزون ذلك إلى أنهم ممنوعون من الاحتجاجات والتظاهر، وان جامعاتهم مُخترقة من قبل السلطات برجال الأمن والمباحث والمخابرات، وأن هناك قمعا سياسيا في الدول العربية. لكن متى كان اتخاذ موقف مع الحق ونصرة مظلوم من دون ثمن؟ أليست الحياة مواقف؟ إن من يتظاهرون في الجامعات الأمريكية والغربية اليوم من أجل إيقاف المجزرة بحق الشعب الفلسطيني، هم يتقدمون بالوعي على غيرهم من الطلبة في دولنا العربية، أولئك يحاولون تغيير الإطار السياسي والثقافي والاجتماعي في بلدانهم بحراكهم، وهؤلاء يُساهمون في إطالة الاستكانة العربية للظلم بصمتهم واتخاذهم موقف المتفرج على المذبحة.
كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عماد غانم:

    كل الإعلام ؛ بمعنى إيصال المعلومة/ المعلومات بتجرد وليس “الصحف والقنوات والسوشال ميديا” يقوم على مقولة حسني البورزان “إذا أردنا أن نعرف ماذا يجري في إيطاليا فيجب أن نعرف ماذا يجري في البرازيل”، فهذا الحراك مطابق تماما لحراك الطلبة ضد حرب فيتنام بإجماع الإدارى بشعاب التاريخ وعلم الاجتماع ؛ آنذاك كان الطلبة معفيين من التجنيد الاجباري؛ ويشعرون أخلاقيا أن هنالك من يقتل بدلا عنهم أو امتياز قانوني وضعي حال دون زجهم في معركة خاسرة ولا أخلاقية باعتراف حكومتهم
    في استطلاع للول ستريت جورنال قالت استاذه جامعية شاركت في حراك “فيتنام” أن الطلبة اليوم أيضا يمثلون وعي وضمير امريكا؛ فحكومتهم تدعم بالسلاح والمال كيان يخوض جرائم دموية؛ أمس استقال الجنرال السابق والمحلل في وزارة الخارجية الأميركية “هاريسون مان/يهودي” وسبقه العديد: انيلي شيلين؛ هالة رهريت وجوش باول على سبيل المثال لا الحصر ؛ بالاضافة للطيار الحربي الذي أحرق نفسه أما سفارة إسرائيل في واشنطن ؛ فالحراك وعي وإعلام

اشترك في قائمتنا البريدية