حين ينتصر طين الأرض لعشاقه

«حصنوا النفطَ.. فالنفط يعرف كيف يقاتل حين تكون الحروب.. وقد يحسن الضربةَ الخاطفة (مظفر النواب)
إننا الآن.. أدركنا جميعا أن المقاومة الفلسطينية الباسلة قادرة على صد الهجمات الشرسة لجيش يعتبر من أعتى الجيوش في العالم، إذ أنها أبدت شجاعة مذهلة في التصدي لدبابات وطائرات الموت الإسرائيلية، وهذا يعني أن إسرائيل عاجزة عن وأد المقاومة الفلسطينية، لا سياسيا ولا عسكريا، كما أنها غير قادرة على تشويه طابعها التحرري، رغم الاختلال السافر في موازين القوى العسكرية لصالح تل أبيب. ومن هنا سقطت الأقنعة وظهرت إسرائيل على حقيقتها في هذا الصراع كدولة عنصرية استعمارية، تمارس إرهاب الدولة بكل همجية، وكأن لا عمل لها خارج ميادين الموت.
وهذا يعني أن الأرضَ الطاهرة تُقاوم مع أهلها، وهذا ما يجري حاليا في غزة، فالمُقاومة علاوةً على الشجاعة والصمود والاستِعداد، تملك الأرض وما فوقها وتحتها، والوقت لصالحها، فكُلما طالت المُواجهات تفاقمت خسائر الغُزاة، واتسعت دائرة الهزيمة.
الإنجاز العسكري الكبير الذي حققته «الخبرات» الإسرائيلية، والطائرات الحربية الأمريكية المُتطورة، هو اغتيال أكثر من أربعين ألف مدني ليس من بينهم مُقاتل واحِد، وتدمير المُستشفيات وقطع الماء والكهرباء، ووقف كُل إمدادات الطاقة والطعام. قرار الحرب كان فِلسطينيا صرفا، والانتِصار الكبير الذي تحقق من جراء اقتِحام الحُدود والوصول إلى أكثر من 50 مُستوطنة وبلده في غِلاف غزة المُحتل وأسْر 250 جُنديا ومُستوطنا، بينهم جِنرالات كِبار، والصمود أكثر من سنة في مُواجهة الجيش الذي لا يهزم، هذا الانتصار كانَ فِلسطينيا أيضا وغيّر كُل قواعِد الاشتِباك في المِنطقة، وفضح الخُنوع الرسمي العربي، وأعاد الثقة والأمل إلى أكثر من 400 مِليون عربي ومِلياري مُسلم وللمَرة الأولى مُنذ ما يَقرُب من نِصف قرن من الهزائم والإحباطات.
قد لا أجانب الصواب إذا قلت إن المجازر المتنقلة، والاغتيالات الوحشية وكل ذلك الدمار المرعب الذي لحق الفلسطينيين بقطاع غزة، أعاد إلى الأذهان المذابح الوحشية التي ارتكبها السفاح شارون في صبرا وشاتيلا، حيث طاردته أشباح جريمته ضد الإنسانية، ومن بقوا أحياء من المخيمين يطالبون بإدانته – وهو تحت التراب -أمام القضاء البلجيكي، وبالتالي إدانة إسرائيل وأعمالها الإرهابية التي التصقت بها إلى الأبد، كما أراد وخطط لها، محترفو القتل بتل أبيب، إلا أن كرة الثلج بدأت تتدحرج وأن مسألة حسم المعركة لصالح الضحية، باتت مسألة وقت، وأن المراهنة الفلسطينية على هذا الإنجاز غدت عاملا استراتيجيا قادرا بفعل الإرادة على إنجاز عزل سياسة بحر الموت، التي بشّر بها سيئ الذكر شارون، الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني وتحقيق السلام المنشود والاستقلال المشرق على أنقاض سياسة الخراب. ومن هنا بات واضحا أن المجازر والمذابح التي يشهدها قطاع غزة من شأنها أن تمنح السلطة الفلسطينية هامشا فسيحا لإعادة النظر في عملية السلام برمتها، واستخلاص العبر من أحداثها ونتائجها، لاسيما أن المخطط الإسرائيلي كان واضحا في سعيه الحثيث إلى نسف هذه العملية، وبالتالي محاولة خلق واقع خطير يعيد الاحتلال الإسرائيلي إلى قلب المدن الفلسطينية، خصوصا إذا استمرت الإدارة الأمريكية في دعمها لهذا الكيان الدموي، دون أن يدرك بايدن، أن الحرب الأمريكية التي تخاض على الإرهاب هي في حقيقة الأمر حرب إرهابية على الديمقراطية وحقوق الإنسان وعلى حرية الشعوب، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها. وهي في جنونها تصوغ معادلات زائفة تخلط بشكل مخاتل بين أي شكل من أشكال النضال التحرري والدفاع عن حقوق الشعوب من جهة، و»الإرهاب» من جهة ثانية، الذي غدا الجواد الجامح، الذي يركض في المضمار الكوني دون أن يلجمه أحد، والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع :

الحرب الأمريكية التي تخاض على الإرهاب هي في حقيقة الأمر حرب إرهابية على الديمقراطية وحقوق الإنسان وعلى حرية الشعوب، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها

هل يمكن أن يتحقق التحرير من دون هذه المقاومة؟ وكمحاولة للإجابة أقول:
إن المقاومة الفلسطينية في مختلف تجلياتها الباسلة، غدت أمرا مطلوبا من أجل التحرير، لاسيما أن القرارات الدولية عدا عن كونها جائرة، غير قابلة للتطبيق بسبب الرعاية الأمريكية للمشروع الإسرائيلي، وقد أثبتت التجارب في لبنان أن المقاومة استطاعت أن تحرر أغلبية الأرض اللبنانية، بينما لم تتمكن القرارات الدولية وعلى رأسها قرار 425 أن تحقق شيئا، ولم تتمكن الفترة الزمنية التي امتدت 22 سنة من احتلال إسرائيل للبنان أن تعالج تلك الأزمة المستعصية.
ومن هنا نقول إن الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد للدفاع عن النفس وتحرير الأرض واستعادة المقدسات، كما أننا نرفض بشكل صارخ أن يكون هذا الكفاح المشروع مقدمة لاستدراج بعض العروض السياسية المحدودة التي تؤسس لمقايضة الكيان الغاصب ببعض المكاسب السياسية للفلسطينيين، ذلك أن عنوان التحرير هو الأساس ويجب أن يظل راسخا في الوجدان.
إن راكمت المقاومة الفلسطينية عبر تجاربها ما هو مشرق من إرث نضالي يرتقي إلى الشهادة، من أجل أهداف نبيلة في التحرر الوطني والإنساني، فإن كشف الجوهر الذي قامت على أساسه هذه المقاومة المشروعة، غدا مدخلا لتقويم التجربة برمتها، عبر تحليل سياسي مفصل. إلا أن النضال هدف عام ونشاط عام يخص شرائح المجتمع الفلسطيني كافة، لاسيما في ظل العدوان الإسرائيلي الغاشم. وعليه فإن الشعب الفلسطيني مدعو لصوغ منهج استراتيجي واضح المعالم وقائم على أهداف دقيقة لعل من أهمها:
– التمسك بالأهداف الوطنية وعدم الإقرار بالتنازل عنها، وما تحقق عليه الإجماع من أهداف النضال الفلسطيني.
– إحداث الإصلاحات البنيوية الداخلية، وفقا لما يتماشى مع المشروع الفلسطيني التحرري، وبما يكفل تحقيق القدرة على الثبات والصمود والاستمرار على درب النضال حتى تحقيق الحرية والاستقلال. وهذا الأمر يتطلب تفعيل آليات ديمقراطية حقيقية تنآى عن الارتجال والمزايدة، وقادرة على تصليب الخطاب الفلسطيني والارتقاء به إلى مستوى الوعي السياسي الواعد.
– وقف مسلسل التنازلات الذي انطلق منذ مؤتمر التسوية في مدريد وما زال يتواصل..
نحن نعيش إذن، أياما تاريخية، أو بالأحرى نعيش تصحيحا تاريخيا، يفضح الاحتِلال وجرائمه والدعم الأمريكي الغربي له، ويظهر الوجه المُشرف للجينات العربية والإسلامية، ويعكس القُدرات الخارقة لرِجال المُقاومة الذين اختاروا طريق الشهادة لتحرير الأرض، وحِماية المُقدسات، واستِعادة الكرامة المهدورة بسبب جُبن القادة، ورُضوخهم المُهين للإملاءات الأمريكية، والهرولة إلى حِماية هذا العدو الذي لا يستطيع حِماية نفسه من جِنرالات غزة خريجي أكاديميات عزة النفس العربية والإسلامية الصرفة.. وأهم دُروسها ومراجعها «الجِهاد».
ما يُميز قائد عن آخِر هو القُدرة على اتخاذ قرار الحرب، وتحديد ساعة الصفر، وهذا ما فعله الجِنرالان الشهيد يحيى السنوار ومحمد الضيف ومُساعدوهم في غُرفة عملياتهم تحت الأرض. قِطاع غزة، هذا الشريط الحُدودي الذي لا تزيد مساحته عن 150 ميلا مُربعا، ولا تُوجد فيه غابات ولا جِبال أو هِضاب، ولا يحظى بأي دعمٍ أو مُساندة من الجُيوش العربية وجِنرالاتها المُتكرشين والحمد الله.. هذا القِطاع انتصر، ودخل التاريخ بتضحية، ودعم أشقائه في الضفة الغربية وكتائبهم، والأيام المقبلة حافلة بالمُعجزات.. والأيام بيننا. لست أحلم.. لكنه الإيمان الأكثر دقة في لحظات التاريخ السوداء.. من حسابات البنتاغون.. وأوهام تل أبيب..
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية