يواصل المفكر اللبناني مشير باسيل عون الخوضَ في الدروب الهايدغرية، بسعيٍ حثيثٍ، ودقةٍ وتفكيرٍ رصينَين، بعيدا من ضروب الخطابات التبجيلية. فبعد أن خصص ثلاثة أبحاث لفيلسوف الغابة السوداء: «التقنية الحديثة بوصفها استكمالا للمِتافيزيقا الغربية في فكر مارتن هايدغر» (دبلوم الدراسات المعمقة في الفلسفة، 1990) و»المدينة الإنسانية وأسُسها في فكر مارتن هايدغر» (صدر في ألمانيا عام 1996، وفي طبعةٍ ثانيةٍ في فرنسا عام 2016 و»هايدغر والفكر العربي» (صدر في فرنسا عام 2011) ها هوذا يُطل علينا من جديد بدراسةٍ رابعةٍ اختار لها عنوان: «الإنسان في رعاية الكينونة، هايدغر في المتناول الفلسفي العربي» صدر حديثا عن منشورات بيت الفلسفة، الفجيرة/الإمارات العربية المتحدة 2023.
في الكتاب الجديد هذا اختار مشير باسيل عون نهجَ استراتيجيةٍ تحليليةٍ لم يدأب على توظيفها ضمن مصنفاته السابقة قط، إذ ارتأى أن يبسط تضاعيف المتن الهايدغري بتوسلِ لسانٍ عربي سلسٍ، من شأنه أن يَلج مختلف مداخل المدونة الفلسفية العربية، لكي يُغنيها بسائر الخلفياتِ الفلسفية التي وسمت طرق هايدغر التفكرية الأصيلة، ونقصد بها الكينونة واللغة والتقنية والسياسة والفن والدين، إلخ.
يتميز هذا المصنف «الإنسان في رعاية الكينونة.. هايدغر في المتناول الفلسفي العربي» من جهةٍ باستناده إلى نصوص هايدغر الألمانية كما صدرت في مجموعة أعماله الكاملة(Gesamtausgabe) ، وبيسر الترجمة الفلسفية ووضوحها لغة وبناء وتحليلا، من جهة أخرى. ويُحسب لمشير باسيل عون في هذا المصنف سهرُه على سبك الجهاز المفاهيمي الهايدغري سبكا أنيقا ينسجم وإواليات التداول اللساني العربي. ومَرَد انكبابِ عون على تأليف هذا المصنف إدراكُه أمرَين أساسيين: عُسرَ اللغة الألمانية التي من خلالها تَفكر هايدغر في معنى الكينونة؛ وبساطةَ فكر هايدغر المنبثق من جراء إصراره على التفكر في معنى الكينونة في استقلالٍ عن حقائق الكائنات المنتشرة في تضاعيف الكون والتاريخ. ذلك أن هاجس هايدغر الوحيد تركز في رعاية تفتحات الكينونة الحرة، وصونها من هيمنة العقلانية الغربية الحسابة، لاسيما بعد أن أبانت الفلسفة عن عجزٍ مطلقٍ على مستوى التأمل في ماهية الكينونة إثرَ انبجاس فلسفة أفلاطون وأرسطو. على أن أزمنة الكينونة الذهبية هي تلك التي شهدتها الإنسانيةُ في زمن المفكرين الإغريق الأوائل الذين سبقوا سقراط؛ بحيث استطاع هؤلاء أن ينفذوا إلى عمق الحرية الذاتية التي تتلذذ بها الكينونةُ، إثر سيروراتِ إيقاعات الانكشاف والانحجاب اللصيقة بطبيعتها القدَرية. يقول مشير باسيل عون: «إن الأشياء تَظهر على حقيقتها حين تصون في ذاتها بُعدا جليلا ينحجب عن أنظار الإنسان المترصد الحساب. لا بد إذن من لغةٍ جديدةٍ ترعى تجليات الكينونة وانحجاباتها حتى يفوز الفكرُ المقبلُ بإقامةٍ هنيةٍ في استضافة الكينونة الجوادة».
من خلال مساهمة عون الجادة في فتح اللسان العربي على مخاضات التأمل في مُنجزات الفكر الهايدغري، نراه في أعماله السابقة يراهن على ترسيخِ تقليدٍ فلسفي يقضي بإعمالِ النظر النقدي في مسار التراكمات التاريخية التي عطلت نشاط الفكر العربي منذ سقوط العقلانية الرشدية، وتقلص الحريات السياسية والاجتماعية، وتسلط ذهنية العنف والاقتتال الأبدي بين القبائل التي تتألف منها المجتمعاتُ العربية. على أن الثقافة العربية، في نظر عون، «ثقافةٌ مِتافيزيقيةٌ بحسب المعنى العنفي الذي استخلصه هايدغر من معايناته النقدية. إنها ثقافة الأخذ بالقوة، ولئن اختبرت لدى بعض مُبدعيها شيئا من الصوفية المسالمة الخلاقة. وهذه الثقافة تناقض، في أغلب مطامحها، المسعى السلمي في فكر مارتن هايدغر، ولاسيما في تأملاته التي ساقها في قابليات الكينونة للتجلي الحر في مساحات الرعاية الإنسانية الأصيلة. والحال أن المجتمع العربي يفتقر إلى مثل هذه المساحات الحرة، ولا يني يغرق في مستنقعات التصلب والإكراه والهيمنة على الكائنات الإنسانية وعلى الأشياء التي تستوطن الكون الرحيب».
بناء عليه، يرمي كتابُ «الإنسان في رعاية الكينونة، هايدغر في المتناول الفلسفي العربي» إلى المساهمة في تحرير الفكر العربي من ترسبات مِيتافيزيقا الأخذ بالقوة، من خلال الانفتاح على أنطولوجيا الفكر الهايدغري المستند إلى انبجاس الكينونة الحر في الكائنات. ذلك بأن مِيتافيزيقا الأخذ بالقوة تركن في عمق أعماق الوعي العربي، وتهيمن على اعتباراته النظرية وإيقاعاته التاريخية ومسلكياته العملية. الأمر الذي أكد هايدغر على هدمه من خلال التشديد على ضرورة الاستسلام الهني لنداءات الكينونة، والرعاية الرشيقة لخيوطها المضيئة (=الحرية) في تضاعيف الوجود. يقول مشير باسيل عون: «إن الإنسان الراعي الذي تُصوره الأنطولوجيا الهايدغرية يناقض مناقضة كاملة الإنسان السيد الذي تتعشقه الميِتافيزيقا العربية، وإليه ترنو في حنينها العضال إلى زمن التسيد البدوي الذكوري في الجزيرة العربية وزمن الفتح الأول في بدايات الدعوة الإسلامية. حتى في زمن الحداثة، يزين للوعي العربي أن الفوز بالإصلاح الشامل للمجتمعات العربية لا يتحقق إلا على قدر ما تتعزز قيَمُ السيادة العقلية على الموجودات وعلى الأحوال وعلى المصائر».
أبان مشير باسيل عون عن حنكة وكفاءة قل نظيرهما في مستوى البحث في تضاعيف المتن الهايدغري المتشعب من جهة، وفي مستوى الإنجاز (=الوساطة المعرفية) من جهة أخرى. ومرد ذلك إلى إدراكه مجموعَ الفوائد التي يمكن أن تنجر عن انفتاح الفكر العربي على المشروع الهايدغري.
لقد هيمنت التقنية (=العقل الصوري، الحساب، القياس، التصور، الإحصاء، إلخ) على التفكير، إلى الحد الذي جعل إوالياتها أسا لماهيته، فبعد أن اتخذت التقنية من الفكر الخالص معيارا للتفكير، أمسى التفكير نسيانا للكينونة. من هنا، مأتى دعوة هايدغر إلى وجوب الانتقال من تفكيرٍ ينسى الكينونة إلى تفكيرٍ يُنصت إلى الكينونة، أو بالأحرى يُنصت إلى نداء الحقيقة. علما أن الكينونة لا تنادي أيا كان، بل تنادي الشاعر (=النباهة) والمفكر (=اليقظة) بوصفهما راعيا الكينونة. من الواضح إذا أن هايدغر يُصر إصرارا شديدا على ربط منعطف المِيتافيزيقا الغربية بالتقنية الحديثة. ومن أجل ذلك، يجدر بنا، حسب عون، إخضاع مسوغات هذا الربط السببي لمحك السؤال الذي يستفسر شغف هايدغر المفرط بالكينونة:
«هل يجوز أن نصاحب هايدغر في نقده الجذري الذي يجرم هذه المِيتافيزياء ويَعيب عليها ما جرته على الكائنات والموجودات والأشياء من عدوان شنيع مقيت؟ هل يمكننا أن نركن إلى الكينونة وحدها في تسيير أمور العالم وفي تدبر شؤوننا حسب مزاجها المتقلب المترجح بين انبجاس لا يلبث أن ينحجب في ذروة انبجاسه، وانحجابٍ لا يعتم أن يعتلن في صميم انحجابه؟ هل يحق لنا أن نحصر قابليات الكون ومستقبلات العالم وكيفيات الوجود وطاقات التاريخ في وجهٍ واحدٍ من وجوه اختبار الأشياء، وهو الوجه الذي يومئ إليه هايدغر في ربطه التقنية بالمِتافيزياء، إما مرتسما في معارج الكينونة المتلألئة، وإما مُنحلا في منحدرات التقنية المنحرفة؟ هل يصح أن التقنية التي تستثمر طاقات الأرض وتطمح إلى استعمار الكواكب القريبة في الفضاء الأرحب هي الطريق الضيق الذي سيُفضي إلى العدمية المطلقة؟ أم إن هذه التقنية قد تُفرج عن حالاتٍ في المباني الإنسانية الفردية والجماعية تهيئ لاختباراتٍ جديدةٍ لم يألفها الكائن الإنساني في مُركبه الجسماني الحالي؟ إنها حالاتٌ قد يأنس إليها الكائنُ الإنساني في مُركبه المصطنع المعقد الذي قد تتآلف عناصرُه في هندسةٍ جينيةٍ جديدةٍ مقبلةٍ علينا ستستدخل في بنية الإنسان الدماغية محسناتٍ تكوينية بنيوية تتيح له أن يتجاوز كل الآفاق المعرفية الإنسانية التي تعود ارتيادَها حتى اليوم الاختبارُ الإنساني في مختلف أشكاله. حينئذ يسأل المرء أيضا: هل يظل الإنسان الهايدغري بمنزلة الدازاين الذي فيه تنبجس حقائقُ الكينونة وأسرارُها؟ ربما. لكن هذا الاستمرار قد يتحقق على كيفيات أُخَر لم تألفها المِيتافيزياء الغربية عينها».
أبان مشير باسيل عون عن حنكة وكفاءة قل نظيرهما في مستوى البحث في تضاعيف المتن الهايدغري المتشعب من جهة، وفي مستوى الإنجاز (=الوساطة المعرفية) من جهة أخرى. ومرد ذلك إلى إدراكه مجموعَ الفوائد التي يمكن أن تنجر عن انفتاح الفكر العربي على المشروع الهايدغري، على الرغم من الاستفسار النقدي هذا، وذلك انطلاقا من أن هذا المشروع قد يتيح لنا من إمكانات التفكر في كينونتنا ما يَضمن لنا حيوية نقدية استثنائية؛ إذ من شأنه أن يمهد لنا سبُلا محتملة تمكننا من بلوغ الاختبار الخاص بثقافتنا العربية في عمق مسعاها التاريخي الخصوصي. وتأسيسا عليه، يجدر بنا الشروع في أقلَمَة المنهج الفِنومِنولوجي في الفضاء الثقافي العربي الراهن. على أن يلتزم هذا الانفتاحُ ضربا من المساءلة النقدية المتيقظة، دون الإسراف في مديحِ ما خطه فيلسوفُ الكينونة، على غرار النقد الذي ساقه عون بشأن مركزية الكينونة المطلقة.
ومن ثم، يُعَد التزامُ المساءلة الأنطولوجية الهايدغرية، وما تتيحه من إمكانات مساءلة الذات في ضوء مسألة الكينونة، استمرارا للجهود التي بذلتها النخبُ الثقافية العربية، سواء تلك التي نحت منحى الماركسية الاشتراكية، أو التي ركبت مركبَ الوجودية الشخصانية. فالهدف واحدٌ، وهو تحرير المجتمع العربي من الظلم الذي ارتكب بحق الوجود التاريخي للبشرِ، دون الوقوع في فخ الأيديولوجيا. وذلك كله حتى يجري تخليصُ النفس العربية من الانحرافات والأمراض التي ابتُليت بها على نحوٍ مريرٍ دون الانعزال في طيات الأنا الآسرة، الأنا الجوانية الهانئة.
كاتب مغربي