يحذّر كثير من المتداخلين في الشأن العام من إشاعة «ثقافة الهزيمة» بين الناطقين باللغة العربية، نظراً لما تتضمنه من استباق لهزائم عسكرية وسياسية، لم يثبت وقوعها بعد، فضلاً عن دورها في انتشار مشاعر اليأس والاستسلام والخنوع، بل وتشكيكها في «العقلية العربية» نفسها، وهو أمر قد يؤدي إلى تصديق الدعاوى العنصرية والاستشراقية بحق العرب، كما أنه يقوم على مفاهيم مثالية أو «ثقافوية»، لا تأخذ واقع وبنى الاستعمار بعين الاعتبار.
بالتأكيد، تصعُب مناقشة مفاهيم الهزيمة والانتصار في حروب منطقتنا، من جهة أنها ليست حروباً نظامية كلاسيكية، تحددها «عقلانية» دولة ما، أي منظومة واضحة من الالتزامات والعقائد والأيديولوجيات والبرامج السياسية والاجتماعية والقوانين، يمكن مساءلتها محلّياً ودولياً، وبالتالي معرفة كيف تفشل أو تنجح؛ كما لا تشبه حتى حروب عصابات، تقودها قوى سياسية ببرامج واضحة، بل هي أقرب لحشد من الممارسات والمقولات، التي يحملها ويؤدّيها عديد من الفاعلين، وأشباه الفاعلين، ولا تضبطها جهة محددة، مسؤولة عن الفعل ونتائجه. وبالتالي فإن «الإيمان» بالانتصار أو الهزيمة، من قبل الكتلة الأوسع من المؤيدين، أساسي في كل ادعاء عمّا يحدث. هكذا، تكتسب مقولة «لن نهزم ما دام فينا من يقاوم»، معناها؛ كما أن الأحاديث عن «التاريخ»، الذي سيظهر فيه النصر على المدى البعيد، تصبح مفهومة إلى حد ما.
ولكن بعيداً عن الإيمانيات، والانتصارات الإلهية، وتحليلها على مستوى وعي القائلين بها، فإن رفض «ثقافة الهزيمة» قد يوحي ببعض الأفكار المثيرة للاهتمام، وإن في سياق آخر، قد يمكن تلخيصه بهذا السؤال: هزيمة مَنْ بالضبط؟ الجواب ليس بديهياً على الإطلاق، فمن المفترض أن هناك كتلة بشرية/سياسية ما، حملت مشروعاً، ويجب أن لا تقتنع بهزيمته. شياطين كثيرة تكمن في كل تفصيل ممكن في هذا الافتراض. فضلاً عن هذا فإن رفض «ثقافة الهزيمة» يعني أنها أحد خيارين، الثاني هو النصر أو الكفاح، وثقافته، وبالتالي فإن الكتل البشرية في المنطقة محصورة دائماً بين الخيارين. هل هذا افتراض سياسي/ثقافي لازم ومنطقي: هنالك «أمة»، وهي في معركة، ولذلك فإن بناها الفكرية، والرمزية، واللغوية، يجب أن تشير دائماً إلى موقفها في المعركة؟
ربما بالفعل يجب التصدي لـ»ثقافة الهزيمة»، لأنها تقوم على مفاهيم وقيم يجب عدم التسليم ببديهيتها، كما أنها قد تحوي مخاطر كثيرة، قد تؤثر على ما تبقى من فرص لاستمرار الحياة في المنطقة، والآمال بالحفاظ على حد ما من السلم الأهلي. من أين يأتي افتراضنا أن مجاز النصر أو الهزيمة هو الأساس في ثقافتنا؟ وماذا إذا لم نتفق على هذا المجاز؟
تراث المهزومين
ليست «الأمة العربية» وحدها من عرفت «ثقافة الهزيمة»، فقد عرفتها أمم كثيرة، كما في ألمانيا واليابان، قبل الحرب العالمية الثانية؛ والصين، التي ما تزال منشوراتها الرسمية تتحدث عن «قرن إذلال قومي» حتى اليوم. في كل الأحوال، التي يشيع بها الإحساس بالهزيمة، سيخرج من يطالبون بنهضة جديدة. بالطبع كانت «المشاريع القومية العملاقة» أحد أهم الأفكار المطروحة لتجاوز الهزيمة وثقافتها، وتلك المشاريع غالباً تصبّ في خانة بناء دولة صلبة، ومجتمع منظّم، واقتصاد قوي، يفيدون في نهاية المطاف بإنتاج ماكينة حرب أفضل، لمواجهة العدو الوجودي. يصبح الأمر أكثر تعقيداً عندما يفقد الناس ثقتهم بقدرة الدولة، إذ يصير الأمل عندها، هو الحفاظ على مجتمع «مقاوم»، ومسلحين عقائديين، وإنتاج تقنيات قتالية تتناسب مع الاختلال في موازين القوى مع العدو، وتمويل ذلك بما هو متاح، سواء كان دعماً خارجياً، أو اقتصاد ظل. ولعل الانتقال من «المجتمع المنظّم»، لخدمة ماكينة الحرب التي تديرها الدولة، إلى «المجتمع المقاوم»، المكرّس ليكون «بيئة حاضنة» للمسلحين غير النظامين، هو أحد أهم العوارض التي عرفتها المنطقة، للهزيمة، وثقافتها، ومن ثم رفضهما معاً. وكما أن «المجتمع المنظّم» سيجد كثيراً من الفئات والكتل السكانية، التي يصعب تنظيمها وإدماجها، وبالتالي ستُعتبر عائقاً يجب إلغاؤه في المعركة الوجودية؛ فإن «المجتمع المقاوم» سيدخل في حرب وجود، ليس فقط مع العدو، بل مع كل مجتمع محلي آخر، ليس «بيئة حاضنة» بما فيه الكفاية.
من ناحية أخرى، توجد في منطقتنا ماكينة حرب أكثر فعالية من كل هذا، وهي دولة الاحتلال الإسرائيلي، القادرة على إبادة الحياة في محيطها، وأثبتت مؤخراً قدرتها على الاستمرار في حروب طويلة، مع الحفاظ على انضباط اجتماعي كبير؛ ووصلت في ممارستها للقتل إلى أبعاد غير مسبوقة، ما سيكرّس بالتأكيد شعور الهزيمة، ومحاولات تجاوزه.
تبدو الصورة إذن قاتمة للغاية: حروب إبادة تشنها ماكينة حرب لا ترحم، و»مجتمعات مقاومة» تزداد أوضاعها سوءاً، من قتل وتهجير وتجويع، والأسوأ أن الحروب التي تدخلها قد تصير مركّبة: حرب العدو؛ وحروب، ربما أكثر شراسة، تجاه «أعداء الداخل». هل من سبيل لكسر هذه الدائرة الجهنمية؟ الإجابة «لا» بالتأكيد، من منظور ثقافة الهزيمة والنصر، سيستمر كل هذا، فإذا هُزمنا اليوم، سننتج غداً جيلاً أكثر حقداً على العدو، الداخلي والخارجي، وسيخوض معارك أشدّ عنفاً، إلى أن يحدث شيء ما، يُفني أحد الطرفين المتصارعين. لكنّ الوقائع التي يمكن ملاحظتها أكثر تعقيداً من كل هذه التصورات الحديّة: كثير من الجماعات المسلّحة، والدول التي ترفع شعارات المقاومة، ومنها إيران وسوريا مثلاً، تدخل في مساومات، وتوافقات، وتقبل بحلول، مع من تعتبرهم أعداءها الوجوديين، دون أن يعني هذا طبعاً أن صراعها معهم مجرّد «مسرحية»؛ كما أنها تراعي، بغض النظر عن خطابها المعلن، مصالح وأهدافاً، ربما تكون «أصغر» مما يتخيّله البعض. ألا يعني هذا أنه قد يمكن إيجاد أنماط أخرى من التعاطي مع مسائل الصراعات الإقليمية، بعيداً عن مجاز النصر والهزيمة الملحمي ذاك؟ لماذا يبدو مؤيدو تلك الدول والحركات «أكثر ملكية من الملك»؟
إنه بالتأكيد مجاز أيديولوجي، ومن النوع الرديء، إذ كلما كانت الأيديولوجيا متعامية عن وقائع واحتماليات أكثر في محيطها، تصبح أكثر ضيقاً، وعبئاً على حامليها؛ وتصبح مساءلة بديهياتها أكثر ضرورة، لكل من تحذفهم من منظوراتها. هؤلاء من يجب أن يسألوا: هل نحن مَنْ هزمنا حقاً؟
معركة أم مأساة؟
تتحوّل اليوم دول بأكملها في المنطقة إلى ميدان للهمجية، وهذا يبدو هزيمة فعلية لكل مشروع وطني فيها، ولكن متى كان البشر في تلك الدول مشاركين في مشاريع الوطنية ومعاركها؟ تتصاعد اليوم في تلك الدول اتهامات من نوع مقلق، بالتقاعس عن دعم المقاومة، وعدم التعاطف مع حروبها، تطال فئات قد تمثّل كتلاً سكانية ضخمة، منها مثلاً المسيحيون في مصر ولبنان، والكُرد في سوريا والعراق. من حق المرء أن يتساءل حقاً عن نوعية «وطنية»، قد تضع أكثر من عشرة في المئة من السكان في موضع الاتهام والتشكيك، وفي ظرف مليء بالسلاح المنفلت، والنازحين، والنفوس الثائرة. ليس هنالك اتفاق على أن ما يُحدث «هزيمة» للجميع، ويجب الاعتراف بهذا، والتفكير بما هو أكثر صدقاً: ما يحدث مأساة، لكل الأطراف، سواء اعتبرت نفسها منتصرة أو مهزومة، مقاومة أو متخاذلة، معنية بالحرب الوجودية أو غير معنية.
رفض مخيلّة الهزيمة، والحديث عن واقع المأساة، لن يغيّر بالضرورة من معادلات القوة على الأرض، ولكنه أمر لا بد من قوله، كي لا نبقى أسرى خطاب واحد، يكرره المنهزمون/المنتصرون، وعلى البقية الخضوع له على سبيل التقية، وهؤلاء ليسوا قلة، ولا يتطابقون مع الطوائف والهويات المُتهمة.
أين المعركة؟
من منظور خارج عن ثقافة الهزيمة، وكذلك النصر، فلا توجد معركة اليوم، هنالك بشر يتعرّضون للإبادة، ويجب التحرّك لحمايتهم، ليس فقط عبر توزيع المساعدات، ولكن ببذل كل جهد سياسي ممكن لإيقاف المأساة. إذا شعرت قطاعات واسعة من المجتمعات المعنيّة بأن هذه هزيمة كبرى لها، فعليها أن تفكّر بشكل أرحب بأسباب الهزيمة: لماذا لم تحقق أهدافها؟ لماذا تخلّى عنها حلفاؤها؟ والأهم: لماذا لم تستطع تحقيق الإجماع حول معاركها؟ لن يكفي بالتأكيد اتهام الناس بالخيانة، ثم محاولة إخراسهم أو إلغائهم. أما من لا يشعرون بالهزيمة، بل بالخوف، والرغبة في استمرار الحياة، فهم خارج هذه الأسئلة أصلاً، وغير معنيين بالإجابة عليها، ولكن ربما عليهم أن يفكروا أكثر بسؤال السلام: ماذا عليهم أن يفعلوا كي لا تطالهم حرب الإبادة، أو يصبحوا هدفاً لانتقام المنتصرين/ المهزومين؟ وما البدائل السياسية والاجتماعية والثقافية، التي يمكن اقتراحها للتوصّل إلى السلم الأهلي والإقليمي؟
لسنا أمة واحدة، لا على المستوى العربي العام، ولا على مستوى كل بلد على حدة. سيكون إنجازاً أن نعترف بتعددية مواقعنا ومصالحنا ومنظوراتنا، عندها قد يمكن التفكير بـ»وطنية» فعلاً، ويا حبذا أن تكون بلا أعداء وجوديين، أي التخفيف من المجاز القومي، والتعامل مع الصراعات بعيداً عن الاستعارات الملحمية، عندها قد يصبح لـ»الوجود» و»التاريخ» و»الأرض» و»الحق» معانٍ قابلة للتحقق.
كاتب سوري
أمة الربع الخالي.
أمة خالية الوفاض
الناس تذبح بالمئات كالخراف وهناك من ينظر على حسابهم ودماءهم وعذابهم، مع او ضد سيان، ثم يبداء الجدال ثم تبداء المشاحنات ويبداء التجريح الشخصي وعمى البصر والبصيرة والحول الفكري واللعن والسب ومع آخر تعليق ننسى الموضوع الأصلي الذي تسبب بالشقاق والنفاق حيث هواية العربان الثانية بعدما حرم الله من نميمة وغيبة حيث هوايتهم الأولى و لا فض فاهي ولا فض جوفي.
شكرا على مقالك.لكن يجب الدفاع ضد ثقافة الهزيمة للحفاظ على هيكلية الأمة.والدفاع يختلف حسب طبيعة القطر العربي ونظام الحكم فيه.ورؤية الداخل غير رؤية الخارج.
“من منظور خارج عن ثقافة الهزيمة، وكذلك النصر، فلا توجد معركة اليوم، هنالك بشر يتعرّضون للإبادة” من الذي يتعرض للابادة؟ نجيب نيابة عن الكاتب: الشعب الفلسطيني في غزة. من الذي يقوم بالابادة؟ الجواب: إسرائيل العنصرية المحتلة المجرمة
فيما لن تمارس المقاومة الابادة اتجاه إسرائيل حتى في ٧ اكتوبر التي قام بها مجموعة من الجرذان والزعران الذين مارسوا الاغتصاب وقتل الابرياء والذين يستحق قائدهم توزيع الحلويات فرحا بمقتله حسب الكاتب في منصات أخرى، ولا يوجد طرف فلسطيني ينوي إبادة اليهود في إسرائيل المصطنعة رغم انه حسب الكاتب كل الكيانات مصطنعة والتفكير في تفكيكها يقود الى الابادة. حتى نسمي الأمور باسمائها ولا نبقى ندور في العموميات
اتفق مع مضمون تعليق السيد احمد الشامي.
مقال يثير اسءلة وأجوبة وتفاعلات.