خالد خليفة ودفاتره الباردة: حياة بلا حكايا وأبطال

عادة ما تكون الدفاتر واليوميات التي ينشرها بعض الروائيين، بمثابة عوالم جديدة. عوالم تكشف لنا عن تفاصيل أخرى من حياة هؤلاء الكتاب، والطقوس التي يكتبون فيها وقصص بعض رواياتهم وتفاصيل أخرى استطاعوا التقاطها في سياق ما يعيشونه من أحداث وتجارب. وعلى الرغم من أن بطل هذه الدفاتر هو ساردها، إلا أنّ هذا السارد غالبا ما يكشف لنا أيضا من خلال هذه النصوص عن مجموعة من القصص التي تقربنا أكثر من الفترة الزمنية التي عاش فيها. لكن المتأمّل في دفاتر الروائي السوري خالد خليفة «نسر على الطاولة المجاورة» الصادرة عن دار نوفل، ربما سيشعر بحالة من خيبة الأمل، إن تخيّل أنّها ستكون كما وصفناه في بداية كلامنا. ففي هذه الأوراق (الجزء الأول، وهنا أجزاء أخرى) يبدو خليفة مُقّلا في كلامه وكأنه قد خاصم عالم السرد، الذي كان سببا في سطوع نجمه الروائي.
حاول خليفة في العقدين الأخيرين رسم صورة للتحولات التي عاشتها مدينة حلب، من خلال سير بعض العوائل (زهير النابلسي وزوجته المعلمة/ رواية لا سكاكين في مطابخ المدينة). وكانت هذه المدينة قد شكّلت في فترة نهاية القرن التاسع عشر واحدة من أهم مراكز الدولة العثمانية، ولذلك ارتبط ذكرها دوما بالتغيرات والحداثة والانفتاح على العالم. لكن هذا المشهد سيتغير مع انغلاق الحدود أمام المدينة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وتشكل دولتي سوريا وتركيا، إذ ستجبرها الظروف على التحول إلى مدينة مغلقة على ذاتها. ولتغدو المدينة بعد الستينيات والسبعينيات مثالا عن المدينة التقليدية /التراثية، خلافا لصورتها في القرن التاسع عشر. وكأنها بذلك كانت تدافع عن نفسها مع قدوم حزب البعث للسلطة عام 1963. لكن عالم أبطال خليفة لن يقف عند حدود 2005 (وهي اللحظة التي وقف عندها في روايته المذكورة)، بل سنعثر على قصص أشخاص آخرين مع رواية «الموت عمل شاق» التي كتبها في زخم القتال اليومي الذي أخذت تعيشه المدينة السورية بعيد 2011. ومع هؤلاء الأبطال أو لنقل التعساء، كان الموت في حياة السوريين يكتسب معنى جديدا. فالموت، الذي عادة ما يكون نهاية لسيرة شخص أو قصة أو حكاية، أخذ بعد الحرب يكشف لنا عن مواقع التباس جديدة، وفق تعبير جورجيو أغامبين، بين لحظتي إعلان الموت والمثوى الأخير.

وهذا ما نراه في قصة الأخوة الثلاثة الذين قرروا تنفيذ وصية والدهم بدفنه في إحدى قرى حلب، لكن الطريق الذي كان يستغرق خمس ساعات بين منزله الواقع في دمشق وقريته، تحوّل بعد الحرب إلى عالم مليء بقطاع الطرق والحواجز الأمنية (النظام، كتائب إسلامية) التي يُكتب للإنسان فيها عمر جديد، إذا تجاوزها دون مضايقات وأسئلة او طلب رشوة.
وفي خضم هذه الظروف، استطاع خليفة أن يحول بأسلوبه السردي جسد الوالد المتوفى إلى بطل روايته الأساسي، ليروي لنا هذا الجسد ما أخذت تعيشه سوريا بعيد الحرب، فالحرب السورية استطاعت أيضا أن تفرض من خلال مقاتلي الدولة والمعارضة إعادة صنع وإنتاج الأجساد الميتة قبل الأجسام الحية. وبالعودة لدفاتر خالد خليفة المنشورة، نراه في بداياتها يكتب لنا خلاصات صغيرة عن فن الكتابة وأشياء متناثرة عن المدينة والحياة، مع ذلك تبدو أحيانا بعض العبارات لا تناسب عالمه السردي. يظهر في بعض العبارات واللوحات كشاب يقتبس من كتاب كبار عبارات واسعة لينشرها على صفحته الشخصية.. يقدم لنا نصائح ويكتب عن حكم وخلاصات وأفكار، لكنه، ليسمح لنا، يفشل في رسائله، إذ أنّ أبطال وقرّاء خليفة هم الذين يخسرون في هذه اليوميات، فكلما حاولوا الاقتراب أكثر من زمنه وعالمه، سرعان ما تصدمهم بعض العبارات الباردة والجافة. وربما هذا الشعور بالبرودة كون خليفة بعالمه السردي كان يوفر لنا ملاذا للبحث عن فهم ما جرى ويجري. لماذا حلّ كل هذا الدمار بنا، وقد يكون ردّ خليفة أنّ مهمة الروائي لا تكمن في أن يتحول إلى مؤرخ أو صحافي، فالروائي الحقيقي لا يعكس الواقع بالضرورة، ولذلك فهو لا يرغب ربما بعرض مزيد من الأحداث والتفاصيل في يومياته، لكن هذا لا يعني في المقابل أن يتخلّى الروائي أينما رحل عن مهامه الأساسية، وفي مقدمتها قص الحكايات. فالروائي دون حكايات وأشخاص ونصوص هو شخص يخون قراءه، خاصة أولئك الذين يجدون في نصوصه مصدرا يساهم في تشكيل حياتهم.
هذا الغياب للقص، لا يعني أنّ بعض العبارات لدى صاحب «دفاتر القرباط» لم تحمل دلالات غنية. فمثلا يقول لنا «أعرف أنّ كتابة دون خيال هي كتابة معينة.. تسير خطوات قليلة ثم تلفظ أنفاسها». ويعود في اللوحة 60 ليؤكد أنّ الخيال حذاء، كل يوم يفقد الكاتب جزءا منه، وبعد سنوات من الاستخدام يصاب بالاهتراء، ولذلك يجب ترميمه بأناقة بشكل دائم. ولكن كيف يجري ذلك؟ وماذا عن دور القراءة في إعادة ترميم الخيال في حياة خليفة؟ وغيرها من التفاصيل، تبقى غير قادرة على البوح عن نفسها في هذه الأوراق.

لماذا يصمت الروائي؟

يكتب لنا خليفة في بعض الصفحات عبارة أو عبارتين، ويترك باقي الصفحة فارغا. وهنا قد يطرح القارئ تساؤلا، هل غدا خليفة عاجزا عن الكتابة؟ أم هي ثقة الشهرة، التي قد تجعله ينشر أي شيء ظنا منه أنّ القارئ لن يحاسبه؟ أم هي نزوة سردية جديدة يحاول الخوض فيها. في مقابلة أخيرة، يقول خليفة: أحلم أن أصبح رساما، في إشارة ربما أيضا لشعوره بالعجز عن الكتابة، أو رغبته بتجريب أشياء جديدة تحرك عنده الخيال مرة أخرى. ولعل هذه الرغبة بالبحث عن الرمزي قد انعكست خلال اللجوء للصمت الرمزي (كتابة بلا حكايا) هذه المرة. وهو صمت عبّر عن نفسه في دفاتره وهوامشه اليومية، بينما لا يسمح عالم الروايات وطقوسه بهذه الانتهاكات. يقول خالد في اللوحة 49 «لم يعد يعنيني أي شيء كعجوز أمشي إلى زاويتي المعتمة، سأطلب من أصدقائي كيف يحتفلون بذكرى موتي». ولعل هذه العبارة توحي بحالة العجز والعزلة التي يعيشها خليفة، لكن ما نخشاه حقيقة أنه بهذه الرؤية يحكم على نفسه بالموت من الآن، إذا استسلم لعالم الكلام المتقشف، ولم يقرر العودة في الأجزاء الأخرى من يومياته للحكايا، خاصة إذا علم أن أصدقاءه لن يحتفلوا على طريقته عند موته، بل سيندبونه ربما لأنه لم يقص عليهم حكايا أخرى، توفر لهم فرصة للعبور نحو فهم واقعهم اللامعقول.

لعل قارئ المستقبل سيبدو محتارا بعض الشي، فالدفاتر بقيت بلا تواريخ واضحة. ولعل المعلومة الوحيدة عنها هي التي يذكرها خليفة في الصفحة الأخيرة عندما يشير إلى أنه كتبها بين الفترة الواقعة 2001 ـ 2015 في اللاذقية ـ دمشق ـ أيواـ الولايات المتحدة ـ أمكنة مختلفة من العالم.

الاستثناء الوحيد.. الكتابة حرفة

ربما من بين الاستثناءات الحارة في دفاتر مؤلفنا الباردة، لقطتان تجدر الإشارة إليهما. تتعلّق الأولى بطقوسه في الكتابة، وتعريفه للكتابة، وكيف يكتب الروائي نصا جيدا؟ يتساءل كثيرون عن سبب نجاح خليفة مقارنة بالألف روائي وروائي الذين عرفتهم سوريا في السنوات الأخيرة. يذكر لنا هنا أنه يعمل كالعامل (اللوحة 31) يكتب يوميا بعد استيقاظه فورا، وغالبا ما يكون وقت الظهيرة. يجلس إلى الطاولة لساعات طويلة وبشكل يومي منذ ثلاثة عقود على الأقل، كأي عامل في المصنع، على حد تعبير أرنست همنغواي. ولعل ما يستخلصه القارئ لهذه اللوحة ولبعض اللوحات الأخرى، أنّ الكتابة في حياة هذا الروائي حرفة وليست فقط إطلاقا للأفكار. وأنّ الإخلاص للأفكار لا يكون دون تحويل الأمر إلى مهنة، ودون السير وراءها واللحاق بحياتها. وأنّ على الكاتب أن يكتب يوميا، مما يحفظ للسرد مكانته. فالكتابة اليومية تسمح للخيال وللأشخاص وللناس بالحضور، وهي التي تسمح بكل ما يحيط بنا من التسرّب إلى النصوص. ومن دون الكتابة اليومية لن يتمكن الواقع من التعبير عن نفسه ومن الإحساس به.. ولذلك فإنّ ما يُحسب لخليفة في أوراقه المنشورة، دعوته القراء والجيل الشاب إلى الكتابة عن يومياتهم، فكثيرون منهم قد توقفوا عن الكتابة وعن إكمال مشاريعهم ولجؤوا ولهثوا وراء العمل في مؤسسات ثقافية وإعلامية فاشلة، ولذلك تشكّل دعوته هنا فرصة للقراء والكتاب ليتجرؤوا على الجلوس إلى الطاولة والكتابة يوميا. فهو الطقس الوحيد الذي يمنح سعادة أبدية كما يقول، خاصة أنّ اللجوء إلى طاولة المؤسسات الإعلامية والثقافية الرسمية لم تمنح للكثيرين سوى قلة الخيال والكثير من الأعداء.

يوميات خالد خليفة عام 2050

اللقطة الثانية التي يدونها خليفة، والتي تستحق الوقوف عندها، اللوحة 69 عند حديثه عن مستقبل المنطقة عام 2050. يكتب خليفة «آمل أنه، في 2050، ستكون حياتنا التي عشناها خمسين سنة في ظل الديكتاتورية قد أصبحت جزءا من الماضي»، هنا يبدو متفائلا إذا ما قارناه مثلا بتجارب روائية شبيهة حاولت السؤال أو تخيل مستقبل مدينة مثل بغداد (العراق +100، تحرير حسن بلاسم). ففي هذه المحاولة لم يتمكن بعض الروائيين المشاركين من تخيل بغداد سوى عبارة عن مدينة مقسمة إلى بوابات، وأمام كل بوابة حراس وكلاب آلية. ولعل الفترة التي يتحدث عنها المؤلف ليست ببعيدة، وربما نكون حاضرين لحظتها لنرى أين غدا واقع العالم العربي، لكن التفكير في هذه اللحظة، ربما قد يطرح سؤالا آخر، وهو كيف سيقرأ قارئ شاب يومياته عام 2050.
لعل قارئ المستقبل سيبدو محتارا بعض الشي، فالدفاتر بقيت بلا تواريخ واضحة. ولعل المعلومة الوحيدة عنها هي التي يذكرها خليفة في الصفحة الأخيرة عندما يشير إلى أنه كتبها بين الفترة الواقعة 2001 ـ 2015 في اللاذقية ـ دمشق ـ أيواـ الولايات المتحدة ـ أمكنة مختلفة من العالم. ولذلك ربما سيذهب القارئ حينها إلى ربط هذه الهوامش بتاريخ نشرها. فالنصوص كما الذاكرة، هي اجتماعية كما أنها بالقدر ذاته انعكاس للتبادلات مع المؤسسة أو الجمهور الحاضر، وليست مرتبطة باللحظات التي كتبت فيها فقط. وانطلاقا من هذه الفكرة، ربما سيقول قارئ الزمن المقبل 2050، أنه لا بد من قراءة هذه الدفاتر انطلاقا من زمن نشرها 2023. وفي تلك اللحظة كانت الحرب في سوريا قد أبادت تفاصيل واسعة من حياة الناس والعمران والذاكرة التي كان يتحرك فيها خليفة، والذي بقي يعيش في سوريا، ومن معه من المعذبين. ولذلك كان من الطبيعي أن تبدو هوامشه شبيهة بواقع هؤلاء المظلومين؛ معزولة، متعبة، باردة في ظل رياح صفراء قارسة، استوطنت ما يسمى بسوريا (لعلها تكون قد اختفت آنذاك). ولذلك ستبدو دفاتر خليفة المقلّة في سرد الحكايا شيئا مفهوما للقارئ المستقبلي؛ الذي ربما يضيف: أوليس من حقه الاعتراف بالهزيمة، أم عليه أن يظل حاملا سيف السرد دون التوقف والهمس قليلا بعبارات عامة، غير مفهومة أحيانا، مبعثرة، لكن ربما لا يدركه قارئ المستقبل أنّ (قارئ خليفة عام 2023، لم يعد يرى من سبيل لاستمرار وجوده في المستقبل إلا من خلال عالم القص والكتابة عن حيوات الناس. فمن خلال هذه السرديات يمكن أن يكون هناك أمل بتشكل خيال آخر، عبر قصة بطل من أبطال العالم الروائي (كما يذهب لذلك ممدوح عزام في إحدى مقالاته الأخيرة). أما الإحجام عن الكلام والسرد البارد، فقد يعبر عما عاشه الملايين من نكبات، لكنه يبقى غير قادر على إتاحة الفرصة لنا للتنفس والخيال مرة أخرى أو أخيرة على أقل تقدير ولذلك ليس أمام خليفة سوى العودة للحكايا والسرد مرة أخرى، ولن نقبل منه كقراء أي شيء آخر.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ميشيل سيروب:

    الأستاذ محمد تركي الربيعو المحترم:
    لقد كنتَ قاسياً جداً على الروائي خالد خليفة، فليس بالضرورة كل عمل روائي يكون على ذات السوية

اشترك في قائمتنا البريدية