خطاب «العهد الجديد» و «وثيقة القيم» يطبعان الكويت 2022 وتعاون السلطتين تحت «الاختبار المرّ»

حجم الخط
0

الكويت ـ «القدس العربي». في الثاني والعشرين من حزيران/يونيو، وجَّه ولي العهد الكويتي الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح نيابة عن أمير البلاد الأمير نواف الأحمد الجابر الصباح خطاباً إلى الكويتيين بعد أشهر من حالة تأزم العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، التي أضحت سمة تُلازم الحياة السياسية الكويتية ومعضلة التجربة الديمقراطية التي كان هذا البلد الخليجي يتغنى بتمايزه بها عن محيطه، فكان خطاب “العهد الجديد”.
في التوصيف، “المشهد السياسي تُمزّقه الاختلافات وتُدمّره الصراعات وتسيّره المصالح والأهواء الشخصية على حساب استقرار الوطن، وتقدمه، وازدهاره، ورفاهية شعبه، بسبب تصدّع العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وتدخُّل التشريعية في عمل التنفيذية، وتخلّي التنفيذية عن القيام بدورها المطلوب منها بالشكل الصحيح، وعدم التزام البعض بالقَسَم العظيم الذي تعهد به على نفسه بالعمل على تحقيق الاستقرار السياسي وتكريس خدمته للوطن والمواطنين” حسب الخطاب.
كانت البلاد مع بداية عام 2022 تعيشُ على وقع اشتباك بين حكومة الشيخ صباح الخالد الصباح والمعارضة النيابية التي لجأت، كما دائماً، إلى “سلاح الاستجوابات” في وجه رئيس الوزراء والوزراء، بحيث تحوَّل هذا “السلاح” إلى أداة تعطيل لأعمال السلطة التنفيذية، وسياسة مناكفة لـ”تحالف” صباح الخالد – مرزوق الغانم رئيس مجلس الأمة المؤيد وكتلة من النواب للحكومة، الذي تخوض ضده المعارضة منذ انتخابات 2020 حملة لـ”رحيل الرئيسين”.
اشتدَّ الصراع بعد استقالة حكومة صباح الخالد الصباح في الخامس من نيسان/أبريل عشية جلسة استجواب لرئيس الحكومة والتصويت على قرار طلب “عدم التعاون مع الحكومة” وتفاقم بعد اعتصام بدأه 17 نائباً في البرلمان في 15 حزيران/يونيو ومبيتهم داخله في عملية ضغط لتأليف حكومة جديدة. جاء خطاب “العهد الجديد” ليرسم “خريطة طريق” للخروج من الانسداد الحاصل، ارتكزت على: حل مجلس الأمة، وإجراء انتخابات، ودعوة الشعب لتحمّل مسؤوليته في عملية تصحيح مسار المشهد السياسي باختيار التمثيل الصحيح لتحقيق المصلحة العليا، وإعلان القيادة العليا أنها لن تتدخل في اختيارات الشعب لممثليه ولا في اختيارات مجلس الأمة المقبل لرئيسه أو لجانه المختلفة ليكون سيّد قراراته ولا بدعم فئة على حساب فئة أخرى، بل ستقف من الجميع على مسافة واحدة.
توالت الخطوات لطي صفحة الأزمة، فكان في 24 تموز/يوليو تعيين الشيخ أحمد نواف الأحمد الصباح الابن البكر للأمير رئيساً لمجلس الوزراء خلفاً لصباح الخالد. مضى أسبوع، فصدر مرسوم حل مجلس الأمة، وتلاه تعيين موعد الانتخابات في التاسع والعشرين من أيلول/سبتمبر التي حملت شعار “تصحيح المسار”. كان أبرز ما طبع انتخابات “أمة 2022″ عدم ترشّح رئيس المجلس المنحلّ مرزوق الغانم، وترشّح الرئيس الأسبق أحمد السعدون الذي سبق أن اعتكف عن الترشّح سابقاً رفضاً لـ”قانون الصوت الواحد” وهو القانون نفسه الذي استظلته الانتخابات الأخيرة بدوائره الخمس مع تعديلين اتُخذا بـ”مرسومي ضرورة” ساهما في جانب منهما بخلط أوراق العملية الانتخابية. الأول، اعتماد التصويت للمرة الأولى، وفق عنوان السكن المقيَّد في البطاقة المدنية في تعديل اتخذ بـ”مرسوم ضرورة” تعزيزاً وتأكيداً لـ”المشاركة الإيجابية” وهو مصطلح يهدف في خلفيته إلى التصدي لنقل القيود من دائرة إلى أخرى وعملية شراء الأصوات، ومكافحة ما يُعرف في المجتمع الكويتي بـ”الفرعيات والتشاوريات” السائدة قبلياً أو عشائرياً أو طائفياً، وتُشكّل مرحلة أولية تحسم وجهة التصويت قبل يوم الانتخابات. أما التعديل الثاني، فإضافة مناطق جديدة إلى الدوائر الانتخابية.
حققت المعارضة فوزاً مُعتبراً على حساب تراجع النواب الذين كانوا يدورون في فلك الحكومة ويُشكّلون كتلة برلمانية داعمة لها. زادت حصة التيار الإسلامي (إخوان وسلفيين) والمحافظين القبليين، وكذلك الكتلة الشيعية، واخترقت المرأة بمقعدين من أصل خمسين بعد غياب. نال السعدون النسبة الأعلى من الأصوات النيابية وتُوِّج رئيساً لمجلس الأمة. وجرت انتخابات اللجان بعيداً عن أي تأثير للحكومة التي يُعتبر وزراؤها من غير المنتخبين أعضاء في مجلس الأمة. ويذهب البعض إلى وصف العلاقة بين الحكومة والمجلس بـ”شهر عسل”.
ولكن، في تقييم مراقبين للواقع السياسي الراهن، فإن الحكومة التي أعاد أحمد نواف الأحمد تأليفها ثانية في تشرين الأول/أكتوبر بعد الانتخابات تفتقد، في ظل موازين القوى البرلمانية، إلى سند وغطاء قويين. أولى تجليات ذلك ظهرت في مسارعة رئيس الحكومة إلى الاستجابة للاعتراضات النيابية على بعض أسماء وزراء التشكيلة الأولى الذين خرجوا من المشهد سريعاً وجرى استبدالهم بآخرين تفادياً لانتكاسة سريعة في العلاقة بين السلطتين. مرَّت أشهر ثلاثة على امتحان التعاون. العلاقة بدأت على قدر من التناغم الذي يأخذ راهناً صفة الهدوء، ولا سيما بعد استجواب لوزيرة الأشغال وتجاوزها طرح الثقة. لكن هذا الهدوء، في نظر مراقبين، هو “هدوء مصطنع” لا يستندُ إلى عوامل صلبة ورؤية موحدة. ويرتبط عمره الزمني بمدى تجاوب الحكومة مع اقتراحات قوانين جلُّها شعبية.
يعود هؤلاء إلى خطاب ولي العهد باسم الأمير في افتتاح أعمال مجلس الأمة، والذي قدّمه على أنه خطاب “وثيقة العهد الجديد” وهو بمثابة توجيه، وإرشاد، ومتابعة، ورسالة موجهة من القيادة السياسية إلى الشعب وإلى السلطات في الدولة لما يجب أن يكون عليه العمل في المرحلة المقبلة. فحين توجَّه إلى النواب، شدَّد على ألاَّ تتم المزايدة أو المساومة على القوانين التي تتعلق بمصالح البلاد وأمنها أو القوانين المتعلقة بمصالح المواطنين بهدف الحصول على مكاسب شخصية، ودعاهم إلى ضرورة ترتيب أولوياتهم للمرحلة المقبلة، بحيث لا تكون ملفات المتطاولين، والمخالفين، والخارجين على القانون، من أولوياتهم على حساب خطط التنمية الشاملة للدولة.
لكن ما قُدِّم من اقتراحات قوانين من قبل الكتل البرلمانية، المتناقضة في تكوينها، يعكسُ تسابقاً في ما يبنها على مغازلة الشارع وتلبية مطالب القواعد الشعبية. اقتراحات تبدأ من إسقاط قروض المواطنين الاستهلاكية والشخصية، وتمر بزيادة الرواتب وبتحويل غرفة التجارة والصناعة إلى نقابة، الأمر الذي يراه محللون ضربة للغرفة التي تُشكّل جزءاً لا يتجزأ من تركيبة دولة الكويت. ولا تنتهي تلك الاقتراحات عند اقتراح إعلان العفو الشامل عن المعارضين، ولا سيما المعارضين في الخارج. والاعتقاد السائد أن مصير هذه الاقتراحات – المطالب لن يكون وردياً بل تعثُريّا مع اتجاه السلطة التنفيذية إلى عدم إرهاق خزينة الدولة عبر التجاوب مع مشاريع تزيد المديونية العامة وتكون لها انعكاسات سياسية سلبية. سينقلب الهدوء إلى توتر بين السلطتين. ويضرب أحد المحللين موعداً لتبدّل خريطة التحالفات والسياسات الراهنة بعد انتهاء البت بملف الطعون.
ومن التوترات المرشَّحة لأن تكون عنواناً في المرحلة المقبلة، محاولة الإسلاميين – الذين يُشكّلون مع المحافظين نحو ثلث المجلس – الدفع نحو إجراءات دستورية تهدف إلى “أَسلمة الدولة” وإلى تشريع قوانين تُضفي مناخاً من التشدُّد الديني والانغلاق في المجتمع. ففي خضم الحملة الانتخابية، أطلق متشددون ما عُرف بـ”وثيقة القيم الإسلامية” ووقعها مُرشّحون، مُعلنين الالتزام بها في حال وصولهم إلى البرلمان. بدأ الأمر بمحاربة الاختلاط في الجامعة، ومنع “الماراثون” ورياضة “اليوغا” والحفلات المختلطة، ووصلت إلى فرض تدريس القرآن في رياض الأطفال. قبل أسابيع، خرج النائب هايف المطيري، أحد الموقعين على “وثيقة القيم” للإعلان عن توقيع 27 نائباً على طلب تعديل المادة 79 من الدستور بإضافة جملة: “وكان موافقاً للشريعة الإسلامية” في نهاية المادة التي تنصُّ على أنه “لا يصدر قانون إلا إذا أقرّه مجلس الأمّة وصدّق عليه الأمير”.
ثمّة مَن يتخوَّف مِن أن تكون السلطة تعيش حالة إنكار لقدرة ودوافع ومرامي المحرّكين والدافعين لـ”وثيقة القيم” التي تهدف، حسب شرائح واسعة من القوى الليبرالية والتقدمية، إلى ضرب مدنية الدولة وتحويلها إلى دينية، والعبث بالدستور، والاعتداء على الحريات، وفرض أنماط محددة من الحياة على المجتمع. يُشبِّه محللون كويتيون ما يقوم به “التيار الإسلامي والمتشدّد” بمحاولة خلق “طورا بورا” في الكويت، أو تحويل الكويت إلى “أفغانستان الخليج” ويرون أن مضي هؤلاء بمشروعهم قد يُحرج السلطة في الكويت إزاء شقيقاتها في دول الخليج التي شقّت طريقها نحو خطوات متسارعة من التنمية الاقتصادية ومن سياسات الانفتاح بعدما غادرت زمن الانغلاق والتشدّد الديني. والحَرَجُ سيزداد مع الدول الخليجية التي وقعت “الاتفاق الإبراهيمي” حين يلتقي التشدّد الإسلامي السُّني مع نظيره الشيعي في موضوع تجريم التطبيع مع إسرائيل في مجلس أمة يرأسه قومي عربي وغالبية نيابية تؤيد التشدّد في قانون التجريم، خصوصاً إذا تحقّق ما يريده نواب الإخوان المسلمين من مقاطعة وتجريم التعامل مع شركات خليجية لديها علاقات مع شركات إسرائيلية.
هي الكويت التي دائماً تركن إلى حكمة قيادتها السياسية في إدارة الأزمات في البلاد. على أن ما يلفتُ المراقبين أن كلاماً بدأ يسري في مجالس سياسية عن أن القيادة السياسية العليا قدمت كل شيء للقوى المعارضة ولكن هذه القوى لم تُقابل اليد الممدودة بمثلها. لا وهمَ لدى القارئين في المشهد الكويتي أن الصراع السياسي بين الحكومة ومجلس الأمة سيختفي بين ليلة وضحاها. سيظل موجوداً ومُعبَّراً عنه بأشكال مختلفة وسط شكوك في أن يبقى مضبوطاً تحت السقف الذي رسمه خطاب “العهد الجديد”، والذي تضمن تحذيراً من أن “عودة المشهد السياسي بكل ما فيه من عدم توافق وعدم تعاون، واختلافات وصراعات وتغليب المصالح الشخصية، وعدم قبول البعض للبعض الآخر، وممارسات وتصرفات تهدد الوحدة الوطنية، سيؤول إلى إجراءات أخرى ثقيلة الوقع والحدث.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية