يحمل الكاتب الجزائري الصديق حاج أحمد الزيواني، منذ عقود، على عاتقه مهمة نبيلة تتمثل في إنتاج سردية محلية تخص الصحراء الجزائرية، خاصة أنه أحد أبنائها الملتصقين برمالها، والذين خبروها قلبا وعقلا، فلازمتهم خطابا وثقافة وسلوكا يوميا، ما جعله يكتب في شأنها جميع أعماله الأدبية. وهو أيضا لم يغفل عن نوع فريد من الكتابة السردية التي تهتم بتسجيل يومياته ورحلاته، كما في كتابه «رحلاتي إلى بلاد السافانا» وكذا كتابه الجديد المعنون بـ»من نوادر واد بوعلي» ملح سردية غارقة في المحلية، الصادر عن دار الوطن اليوم ودار الدواية.
يجمع الزيواني في هذا العمل نماذج من المُلح والنوادر السردية التي عرفت في منطقة قصور وادي بوعلي الأربعة التابعة لبلدية «زاوية كنتة» من ولاية أدرار في الجزائر. وقد جعل الكاتب لنفسه بعد كل رواية يصدرها فسحة. وهو ما يظهر في كتابه «رحلاتي إلى بلاد السافانا» 2019 الذي كتبه بين روايتيه «كماراد» رفيق الحيف والضياع الصادرة عام 2015 و»منا: قيام شتات الصحراء» 2022، التي فصل بينها وبين نصه الروائي المستقبلي بكتابه «من نوادر وادي بوعلي» 2023.
تفتح هذه النوادر أمام القارئ – خاصة المعاصر- فضاء جديدا لم يألف مثله، خاصة إذا كان من غير أهل الصحراء، وما أدراك ما الصحراء. الملهمة لسكانها على مدى الأزمنة الطويلة والغابرة. فـ»نوادر واد بوعلي» تعيد إلينا سردية محلية تخص الإنسان الذي عاش فيها منتجا خطابا ثقافيا يؤسس لمرويات تقف في وجه الأساليب الناعمة للعولمة، التي باتت وجها قبيحا لنظام عالمي جديد يسعى إلى تذويب الثقافات الفرعية في سبيل خلق ثقافة معولمة تزحف نحو القضاء على الخصوصيات المحليّة. يبين الصديق الحاج الزيواني في مقدمة كتابه بواعث وأسباب عمله هذا، ومدى صعوبة جمع النوادر والملح من الرواة، فهذه المهمة صعبة المنال كونها تستند أساسا إلى الذاكرة التي قد تضعف أحيانا، وهو يقول في ذلك «الكتيّب لا يزعم أنه حلب وجمع شتات نوادر وادي بوعلي، فذلك أمر تنصرم دونه الأعمار، بحكم أن الرواة الذين أدركوا الأحداث قد فنوا، وما تبقى منهم فاتر الذاكرة بسبب وتقدم العمر». يعرض الكتاب بعد ذلك نوادر منطقة واد بوعلي وهو المجال المكاني والنطاق الجغرافي والسكاني، متعدد الإثنيات والقبليات، حصل فيه ما يشبه الإشباع الاجتماعي، والثراء اللغوي اللهجي، يملك في سجله حمولة ثقيلة من النوادر والطرائف، مكتنز الخبرات والحكم والتجارب الإنسانية». يقدم الزيواني للقارئ من خلال خبرته ومعرفته الواسعة بتفاصيل الصحراء وتجلياتها – فضاء وثقافة وبنية اجتماعية – نصه هذا، وهو مُلح سردية تنتمي إلى صحرائنا الجزائرية، خاصة ما يخص منطقة توات وقصورها وقصباتها العديدة، إذ تحيل هذه المختارات على حياة المعيش اليومي وأنساق الممارسة الاجتماعية والرمزية، لأهل وساكنة قصور وادي بوعلي الأربعة وهي: بوزقراد وزاوية الشيخ المغيلي، وبوعلي، وأغرماملال.
كما يوظف الكاتب خبرته الطويلة ومعايشته لأهل هذه القصور، لاسيما وقد ولد وترعرع في قصر زاوية الشيخ المغيلي المجاور غرب قصر بوعلي، حيث كان بيت والده البرّاني، ملتصقا جدا بهذا القصر الأخير، وهو آخر بيوتات الزاوية الأقرب لبوعلي على الإطلاق. ويأتي الزيواني بعد ذلك على وصف الرسم الجغرافي للمنطقة، كونها هي المجال الذي تجمع النوادر والملح السردية،.. وتقع هذه «القصور» وأنت تولي ظهرك لأدرار المركز، وتتوغل جنوبا نحو رقّان في الطريق الوطني رقم 06 على قدر 80 كلم، حينما لا تتردد أو تلتفت إلى ريشات رأسك دعكا خفيفا، من أنك على مشارف هذا الوادي المهول بصناعة الكلام.. ترتبط سردية النوادر بمجالس خاصة تنتشر في قصور توات تحت رعاية شخصيات فاعلة وذات مكانة مرموقة وسمعة طيبة وحضور قوي، وهي تقوم على هذه المجالس، الأمر الذي يجعل هذه المجالس بمثابة مؤسسة ثقافية تسهر على إعادة إنتاج السلوكات والنوادر في شكل خطاب سردي، تتناقله الأفواه من مكان إلى آخر. ويذكر الزيواني مجموعة من الشخصيات أهمها: مولاي السعيد، وأحمادو البرمكي والسي حمد ولد الصديق ومولاي جلول الهوصاوي الحساني، والشريف سيدي الهيب وغيرهم.. ويتبع الصديق حاج أحمد الزيواني في سرد «نوادر واد بوعلي» منهجا خاصا اعتمده لنفسه، يتأسس على الجمع بين الأسلوب الفصيح وأساليب اللهجة التواتية.. أما عن وادي بوعلي أو واد العجب، أو «واد لكلام» فهو بمثابة خزان للذكريات التي تتحول إلى نوادر يمكنها التأريخ لأبناء المنطقة ماضيا وحاضرا، وحتى مستقبلا. ففي ربوع هذا الفضاء خلق الإنسان لنفسه ولمجتمعه حكايات يومية قد تتسم بالبساطة، لكنها تتصف بالعمق وبالتكثيف «ثقافيا وأنثروبولوجيا».
لا يسرد الكاتب ما تذكره من نوادر فقط، بل يقدم أيضا وصفا دقيقا لقصور توات ولأهم معالمها خاصة الواقعة في واد بوعلي، ذاكرا طرق تقديم الطعام والمشروبات في كل قصر، أو عند كل شخصية زارها رفقة الجماعة.
لا يسرد الكاتب ما تذكره من نوادر فقط، بل يقدم أيضا وصفا دقيقا لقصور توات ولأهم معالمها خاصة الواقعة في واد بوعلي، ذاكرا طرق تقديم الطعام والمشروبات في كل قصر، أو عند كل شخصية زارها رفقة الجماعة. ولما كانت هذه المدونة ذات سمات ثقافية محلية فإنها تحتاج إلى مقاربة عبر تخصصية تستند أساسا إلى أدوات الأنثروبولوجيا الثقافية، خاصة في جوانبها الرمزية. ويمكن الاستئناس برؤية كليفورد غيرتز أستاذ العلوم الاجتماعية في معهد الدراسات المتقدمة في و.م.أ وأحد أقطاب علم الإنسان الثقافي. ومفهومه الخاص للثقافة، كونها علامة سميائية. وهذا ما يثبته في قوله: «إن مفهوم الثقافة الذي أعتنقه هو بالأساس مفهوم سميائي. وأنا مقتنع مع ماكس فيبر، أن الإنسان هو حيوان عالق في شبكات رمزية، نسجها بنفسه على نفسه، وبالتالي أنا أنظر إلى الثقافة على أنها هذه الشبكات وأرى أن تحليلها يجب أن لا يكون علما تجريبيا يبحث عن قانون بل علما تأويليا يبحث عن معنى» (تأويل الثقافات). وبناء على هذا المفهوم يمكننا أن نقارب نوادر وادي بوعلي مقاربة ثقافية والكشف عن أنساق ودلالة خطاب هذه النوادر، لاسيما وقد استند الكاتب إلى «الذاكرة» ليعمل في سردها على تكثيف الأحداث والذوات والأمكنة المرتبطة أساسا بالواقعي وبالتاريخي وحتى بالتخييل الذاتي. ودائما من منظور التأويل الثقافي فرغم أن «النادرة» تظهر هي الموضوع الأساسي في كتاب الزيواني، لكنها تحيل أيضا على حكاية أخرى مجاورة يصف من خلالها الكاتب طقوس الضيافة وثقافة الأكل ورمزية المكان والقصر والمجالس التي تروى فيها القصص والملح والنوادر وتتشابك في ما بينها.
وهذا ما يظهر عندما تحيل كل نادرة على عناصر أخرى، تعد بمثابة حكاية إطار، بمعنى إن الزيواني عندما يقوم بسرد «نادرة ما» فسرعان ما نجد لها مؤشرات تحيل على سياقها المرجعي، أي الظروف التي أنتجت داخلها. لا تقدم نوادر واد بوعلي باعتبارها يوميات وقصص تروي حياة الإنسان الصحراوي ممثلا في الكاتب وأبناء منطقته، بقدر ما هي مدونة خصبة وثرية للدارسين من تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية واللسانيات وفلسفة التاريخ وغيرها، ويبدو أن هذا هو هدف الزيواني، الظاهر في قوله: «إنها نوادر حدثت عفوية غير متكلفة في سياقها التاريخي يومئذ؛ لكنها مهمة جدا عند دارسي فلسفة التاريخ واللسانيات والأدب والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، بحكم أنها تكشف عن رؤية فردية وجمعية، في تعاطي هذه الجماعة البشرية للأحداث وموقفها من الحياة والوجود، إبان تلك الوقائع».
يلاحظ قارئ نوادر «وادي بوعلي» أنها غارقة في المحلية، لكنها في الوقت ذاته تساهم في التعريف بحياة الإنسان الجزائري في الصحراء، وكذا ثقافته المحلية، التي ترفض أن تلتهمها سرديات العولمة وما بعد الحداثة، حيث إن هذه المدونة كفيلة بجعلنا نفهم تاريخنا الثقافي ونحقق بواسطته مناعة اجتماعية وأمنا ثقافيا. ولكي لا يكون حديثنا هذا مجردا ونظريا نورد نادرة من نوادر وادي بوعلي التي يقول فيها أحمد الزيواني: «خلال ارتشافنا السريع لكؤوس الشاي الثلاثة، أبحر بنا مولاي أمحمد المستشار، ابن أخ سيد الهيب، في جملة من نوادر عمّه فقال: في الحقيقة، نوادر عمي سيد الهيب، تفوق الوصف ولا تتسع هذه السويعة من العشية، في سردها وقصها كاملة، غير أني سأصطفي لكم بعضها. وقعت بقصر أظوى المجاور أيضا، حيث زار عمي سيد الهيب ذات مرة، هذا القصر، فطفق أهل أظوى يتعاورون على ضيافته، طمعا في مفاكهاته ومسامراته النادرة، فتأخر أحد الشرفاء عن الضيافة، وكان من عليّة القوم وقتها، ولما سمع الشريف أن القوم تزاحموا على ضيافة سيد الهيب، ولم يبق إلا هو طلب ضيافته في تأخر فاضح.. فقال سيد الهيب، (الشريف الفولاني مثل نخل المسعودي، يحمر قبل النخيل، لكنه لا يجود بتمره إلا بعدهم)».
كاتب جزائري
جميل جدا صديقي د.طارق على هذا السفر الممتع في سردية النوادر المتعلقة بقصور أدرار وتوات على العموم، والأهم في قرءتك أهك وقفت على الدوافع وراء انجاز هذه الدراسة، فاهتمامك بوصف القصور وتقافة الطعام وتقديمه، لا يمثل هذا فقط الشكل بل إنه الدافع إلى إنتاج السردية، لأنّ الكتابة هي مؤانسة بالدرجة الأولى ثم مدارسة،،
شكرا صديقي طارق.