خطر «لا هوية الدولة» على هوية الوطن ونسق تطور المجتمع

حجم الخط
1

إذا كنا قد ألفنا رؤية أن تقوم نخب الفقه الديني المحافظة منتفضة عند كل تعد على أي عنصر نصي مرجعي مؤسس للخطاب الديني، باعتباره كفرا يتوجب التصدي له حفاظا على نسق المعنى المسطور، كثابت للدين، أو كما يتبدى لها هي، فإن الأمر لدى نخبنا السياسية وفقهاء التاريخ، لا يرقى إلى ذلك المستوى من الحس والتوجس بالمرة، فالتاريخ بلا فرز ولا تخصيص في ما يبدو لديها جزءا من العملية السياسية ذات البعد التكتيكي، قابلا للاستعمال على طاولة المساومات والحسابات الآنية، ولا أبدا يرقى إلى حد الثوابت التي يعد المس بها مسا بأساس قيام الوجود الوطني، الذي قد يعرض المجتمع والدولة معا إلى التحلل الذي قد يسبب الانهيار، مثلما حدث في أكثر من تجربة وطنية تسببت فيها إصلاحات، وفوقية مع جذور التاريخ ونبض المجتمع المتمسك بتلك الأصول، بوصفها حبله السري في التاريخ.
ليست دعوة أحمد أويحيى بفتح المجال للاستثمار الاقتصادي في الجزائر، أمام “الحركي” والأقدام السوداء، ممن خانوا الوطن والوطنية وساروا عكس تيار الإجماع الوطني وحركة التاريخ، بتأييدهم المعنوي والعملي لمقول الجزائر الفرنسية وقتالهم الجزائريين من أجل تلكم القناعة الكفرية بالمفهوم الوطني للحالة، بل سبقتها دعوات أكبر وأخطر، منها ما جاء في مذكرة نزار الأولى بنهاية المقولة البومدينية نحن مع “الثورة الفلسطينية ظالمة أو مظلومة” ثم الثناء الرئاسي في خطاب بوتفليقة في بداية حكمه بقسنطينة على اليهودية بوصفها رافدا حضاريا من جملة الروافد الأخرى، مع أن التاريخ الوطني والمنطقة عموما يفند ذلك جملة وتفصيلا بالموضوعية التاريخية ذاتها! كل ذلك لم يستأثر بحراك النخب التي يُفترض أن لها قدرا كبير من الوعي بأسس القيام الوطني وخطورة أن يحصل ذلك، بمعزل عن حركة التطور والتغير داخل المجتمع، ساكتة بالتالي عن الوصايا الفوقية على الوعي وجريمة توظيفها اقتصادا واجتماعا وسياسة لصالح نخب انتهازية مالية، سواء أكانت داخلية أو خارجية، أو ذات الارتباط بالغول العولمي الذي يتجلى في الشركات متعددة الجنسيات العابرات للقارات والهادمة على النطاق الفعلي لأسس الدولة الحديثة، لكونها استباحتها واستحوذت على سيادتها.
وليس أعظم دلالة على هذا التحول المنحرف في هوية الدولة، حتى تغدو بلا هوية هو الإشارة إلى مواقف سبق أن سجلت أيام كانت الدولة تدار بعقول سياسية حقيقية، مهما قيل عن بعض فصول ومراحل ممارستها، إلا أنها أثبتت أنها كانت تتمتع حقا بثقافة الدولة، منها موقف للراحل عبد الحميد مهري، صبيحة التحول إلى التعددية سنة 1989، في اعتماد حزب الشعب حين أقدم أحد أحفاد مصالي الحاج على طلبه من وزارة الداخلية، حيث رفض ذلك مهري على الطول الخط، معتبرا أن المضي في هذا السبيل الخطير يعد مسا بالتاريخ، وطعنا في حقيقة الذات التأسيسية للوطن والوطنية الجديدة التي على قاعدتها انبثق النداء النوفمبري، الذي قاد المجتمع إلى التحرر وبناء الدولة، وهذه الأخيرة التزمت بوعي ونضال المجتمع وعليه بنت هويتها العملية!
لسنا هنا بصدد الحديث عن صواب موقف مهري من عدمه، بخصوص مسألة أحقية أحفاد وأنصار “حزب الشعب” في العودة للمسار النضالي الوطني الملوث في خطاب تاريخي رسمي، ثبت أنه هو بدوره ملوث بالتزييف والتحريف، وإنما الشاهد في الأمر هو أن أي تمرد فوق القناعات المؤسسة دونما وعي ابتدائي قاعدي جماهيري، يظل وخيم العواقب وينذر بحالة ضياع المعالم الكلية، وهو ما نعانيه اليوم في الجزائر. موقف مهري السياسي المبدئي من حالة نقضية تناقضية في التاريخ الوطني، وفق ما بنيت عليه سرديات الخطاب التاريخي الرسمي، يعكس وعي الدولة ورجالاتها، الذي يأخذ بعين اعتبار حالات قرائية متشابهة في تجارب الدول الأخرى، منها فرنسا بالتحديد. فبعد انتصار الحلفاء وتحرير باريس من النازية، عُد نظام فيشي وقائد الماريشال بيتان، أعداء للوطنية بفرنسا وخائنين لضمير الأمة، وعلى هذا الأساس تم تكفيرهم بالإجماع من خلال الارتسام الهوياتي للأمة الفرنسية في جمهوريتها الرابعة، ولا يزال الأمر كذلك بعد أن رُسخ في الوجدان الوطني كثابت غير قابل للتحويل أو التغيير، بحسبانه خطيئة يجب عدم معاودة ارتكابها، رغم بعض الكتابات التي حاولت تبييض بادرة الماريشال بيتان، والهدنة التي عقدها مع الحكومة النازية الغازية بقيادة هتلر، مثلما أورده الرائد السابق في الجيش ريموند ماتيي في كتيبه الصغير الشهير “أزمة الوعي في الجيش الفرنسي من 1939- 1962” حيث دافع عن إيجابية تلك الهدنة المطعون تاريخيا فيها في الجانب التاريخي الفرنسي، مستندا في ذلك إلى ما أورده رئيس وزراء انكلترا وقتها ونستون تشرشل في مذكراته الخاصة، حين أشار إلى أن تلكم الهدنة سمحت للحلفاء بدك حصون الألمان، لكن لم تكن مبادرات كهذه معزولة لمعاودة قراءة التاريخ الفرنسي، كافية وكفيلة بالمس بأسس هوية الدولة التي تشكلت وفق معطيات تاريخية خاصة، ارتبطت بوجدان وتضحيات ووعي مجتمعي وظلت بالتالي حكومة فيشي خائنة. من هنا يبرز السؤال الحري بالطرح؛ من خلف هذه الردة؟ هل ضاع المجتمع من الدولة؟ أم أن هذه الأخيرة هي التي ضاعت منه؟
المس بأسس البناء الوطني الأولى التي رسمت هوية الدولة، دونما اعتبار لوعي المجتمع الذي تمت تنشئته على تلكم الأسس بوصفها ثوابت غير قابلة للتحييد أو التشكيك، يعني أن مبدأ التغير والتحول، ولو وفق أسلوب النقائض، يظل حكرا على الدولة ونخبها الحاكمة، دون النخب العارفة والمعارضة، ودونما حساب لصوت الشعب والمجتمع ككل، وهذا اعتراف في حد ذاته بالممارسة المقيتة للوصايا على الشعب التي مارسها النظام السياسي في الجزائر، مذ انقلبت جماعة وجدة على الشرعية، واستحوذت على وعي المجتمع الثوري، واقتادته إلى حيث غياهب التاريخ، أين تختفي حقيقة الدولة الحديثة في جوهرها وشاكلة ممارستها لوظيفتها الطبيعة من خلال فلسفة المؤسسات، ولتظهر بواجهتها الزجاجية الباهرة ليس إلا. كل هذا يبطل ما رُفع زعما، من أن الجزائر بصدد التحول إلى الجمهورية الثانية، لأن التحول العددي في النطاق الجمهوري، يتصاعد نتيجة لنشاط وتطور في الوعي القاعدي الجماهيري بأفراده وجماعته ومنظماته، ليفرض نفسه على الدولة الحاكمة وليس العكس، فكل تجارب التحول من جمهورية إلى أخرى عكست الحالة إلى التغيير، لكن وفق المبادئ المؤسسة لبنية وهوية الجمهورية الأولى، وكل الإملاءات التغيرية النازلة من فوق إلى الأسفل ثبت بطلانها، بل ضررها على المجتمعات والأوطان، كونها زجت بها أو فاقمت من إشكالاتها الكبرى، كما هو الحال معنا في مسألة هوية الوطن داخل النسق الاجتماعي والمجتمعي. وإلا فما معنى الارتباط التسلسلي العددي في العملية، إذا كان المتحول منه منشقا ومنفصلا كلية عن المتحول إليه؟
إن التصحيح الجمهوري تقتضيه شرطية التاريخ وحركة التجديد والتجدد التي تطبع مسيرته على كامل الصعد؛ الاقتصادية السياسية والاجتماعية، لكن العبقرية الوطنية إنما تتجلى في تلك القدرة على التصحيح الجمهوري وتجديده داخل دائرة الثوابت الكبرى المؤسسة للكيان الجمهوري الأول، الذي شكل ورسم هوية الدولة وحاضنتها الكبرى، المجتمع ذائب في التغيير والتطور على نطاقي الوعي والممارسة، في حين الأمر عندنا هو على العكس تماما، فالدولة تتغير وفق نزوات من يسيطرون عليها، مع الحرص على استعمال كل أدوات وقوى الدولة القامعة منها والناعمة، على أن يظل المجتمع بعيدا عن أي إرادة للتغيير والتغير، حتى لا تتصاعد إليها حدة وقوة تلكم الإرادة التغييرية، فينهار ملكها وامتلاكها غير الحق للحقيقة أو حقيقتها المزيفة، التي تحول دونما انتقال المجتمع إلى فضاء السيادة الذي تتيحه له أبجديات الكيان القُطري الحديث، الذي جعل بفلسفته المؤسسية الدولة ناظرة سامعة تابعة لحركية المجتمع ومساق تطوره الشامل وليس العكس، أي مقيدة ومقتادة له، وهو ما يؤجل انطلاقة المجتمع في تسوية الكثير من إشكالاته التاريخية حتى يشرع في الانخراط بكامل قواه الحرة والمتحررة في معركة التاريخ.

*كاتب وصحافي جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مازن كم الماز:

    ماذا لو تحدث الألمان عن هوية ألمانية او الرئيس الأمريكي عن هوية أميركية يسيء لها و يشوهها كل من يحاول ان يدمج فيها الآخر أو أن يجعلها متعددة الثقافات.. ماذا سيفعل مسعود أوزيل عندها

اشترك في قائمتنا البريدية