خمسون «الحركة التصحيحية»: زروع الماضي وخرائب الحاضر

حجم الخط
11

مسمّى «الحركة التصحيحية» الذي أطلقه الفريق حافظ الأسد (1930- 2000) على انقلابه العسكري ضدّ رفاقه في حزب البعث، يوم 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، تقصّد جرّ اليقين الشعبي العامّ في سوريا آنذاك نحو استيهام حدوث التغيير على مستويات شتى، ذات طابع «انفتاحي»؛ يوحي بمناقضة طابع «الانغلاق» الذي قيل إنه سمة سياسات ما سُمّي بـ«الجناح اليساري» في قيادة انقلاب 23 شباط (فبراير) 1966، أي أمثال صلاح جديد ويوسف زعين ونور الدين الأتاسي وإبراهيم ماخوس. وبقدر ما كان توجّه الأسد زائفاً من حيث مبادلة الانغلاق بالانفتاح، إذْ كان النهج الفعلي دكتاتورياً وشمولياً وطائفياً يبني على عدد من الركائز القائمة لتوّها؛ بقدر ما كانت «يسارية» المنقلّب عليهم ليست أقلّ زيفاً من حيث معمار السلطة (ذاتها التي سمحت للأسد بالصعود والتمكّن) والبرامج الاجتماعية (التي سهّلت مرور انقلاب 16 تشرين الثاني من دون مقاومة تُذكر) والعقائدية التي تخصّ الحزب (المأساة هنا اختلطت بالمهزلة في السرعة القياسية التي تبدى عليها استعداد الرفاق لقلب المعاطف).
وقد يكون أكثر جدوى، منهجياً، تقسيم تلك «التصحيحيات» إلى طرازّين، لا يتعارض أحدهما مع الآخر من حيث الجوهر وإنْ كانت الوظيفة تختلف، على نحو حاسم أحياناً: طراز معلّن، سياسي واقتصادي وحزبي وبيروقراطي ومؤسساتي، تقصد الأسد كشف ميادينه لأغراض استيهام التغيير إياه في فضاء الاستقبال الجماهيري العريض؛ وطراز غير معلّن، أمني وعسكري وطائفي، مخفيّ لأنّ ديناميات اشتغاله تتطلب عدم ظهوره في الخطاب الرسمي أو حتى في مستوى المعلومات العامة. وكانت مقاربة الأسد لدور حزب البعث في بنيان السلطة أولى «التصحيحات» ضمن الطراز الأوّل، إذْ وجّه بضرورة تسهيل الانتساب إلى الحزب عن طريق طيّ نهج سابق اشترط توفّر «المنبت الطبقي» وتفضيل الفئات «الكادحة» واستبعاد أبناء الأغنياء من الإقطاعيين والبرجوازيين. والأسد فتح باب الحزب على مصراعيه أمام الجميع، بقصد تمييع التركيب الطبقي، بل جعل الانتساب اليه شرطاً ضمنياً لا غنى عنه من أجل ضمان دخول المعاهد والجامعات، والحصول على الوظيفة. النتيجة التالية، التي سعى إليها الأسد، هي تحويل فروع الحزب إلى مؤسسات انتهازية خاضعة لسلطة الأجهزة الاستخباراتية، بحيث باتت كتابة التقارير الأمنية واجباً تنظيمياً أمام أعضاء الحزب، فدانوا بالطاعة لرئيس فرع المخابرات في المقام الأوّل.
تصحيح ثانٍ، لعله الأكثر دهاء وخبثاً، كان الاقتداء بنموذج كيم إيل سونغ في كوريا الشمالية، واستحداث منظمة «طلائع البعث» التي تتولى الإشراف على التربية السياسية للأطفال بين سنّ 6 إلى 11 سنة؛ حيث يكون الانتساب إجبارياً، ولا ينفصل عن مناهج التعليم في المرحلة الابتدائية. وهكذا شبّت أجيال، طيلة 50 سنة الآن، على عبارة «بالروح! بالدم! نفديك يا حافظ!» وكان مبدأ عبادة الفرد يُزرع قسراً في نفوس الأطفال كمبدأ وطني وتربوي طبيعي، فيستقرّ الأسد في صورة «الأب القائد» والوحيد القادر على حكم الأهل والمجتمع والوطن. ولأن 49% من سكان سوريا كانوا فتياناً أقل من 15 سنة، فإنّ منظمة «طلائع البعث» لعبت دوراً تخريبياً قاتلاً في تنشئة الأجيال الجديدة على قائد واحد وسياسة واحدة؛ كما زرعت في نفوس الصغار حسّ الطاعة العسكرية والولاء الأعمى للقائد، وجهدت السلطة أن تكون هذه «التربية» بمثابة لقاح مبكر يحول بين الناشئة وبين السياسة حين ينتقلون من مرحلة الى أخرى في الدراسة والعمر والوعي

لم تكن مفارقة أنّ البذور الأسدية كانت فاسدة وخبيثة أصلاً، فخلّفت حزباً شائهاً وجيشاً أقرب إلى ميليشيا طائفية وعشائرية، وسلطة تابعة مرتهنة، وبلداً تحتله خمسة جيوش أجنبية.

ضمن الطراز الثاني، وعلى مستوى الجيش، عمد الأسد إلى إعادة ترتيب الفرق الـ13 التي كان الجيش السوري يتألف منها، فوزّع تسعاً منها على ثلاثة فيالق تتبع لرئاسة الأركان، وأبقى أربعة منها خارج هذا الترتيب، فتشكلت بذلك: 1) سرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد، وتألفت من ثمانية ألوية مشاة ومظليين، وأسلحة ثقيلة تشمل الدبابات والحوامات والمدفعية الثقيلة، وامتيازات خاصة في الراتب والسكن والترفيع، ولعبت دوراً بارزاً في الدفاع عن النظام أثناء سنوات الصراع مع الإخوان المسلمين، 1979 ـ 1983، كما اشتُهرت بارتكاب العديد من الفظائع وبينها مجزرة سجن تدمر الصحراوي في حزيران (يونيو) 1980؛ 2) الوحدات الخاصة: وكانت إحدى أبرز التشكيلات العسكرية المكلفة بالدفاع عن أمن النظام، خاصة خلال حصار مدينة حماة واقتحامها وتدميرها سنة 1982. ولقد حرص قائدها، اللواء علي حيدر، على أن تكون أغلبية عناصرها من أبناء الطائفة العلوية، مطعمة ببعض الأقليات البدوية من ريف محافظة دير الزور (أو الـ«شوايا» في التعبير الشائع)؛ 3) الحرس الجمهوري: وكان الهدف من تأسيسه هو حماية المقرات والمواكب الرئاسية، وأُسندت قيادته إلى عدنان مخلوف، ابن عمّ زوجة الأسد، ولا تنتمي الغالبية الساحقة من عناصره إلى الطائفة العلوية فقط، بل يتم انتقاؤهم أساساً من داخل أفخاذ عشائرية محددة، شديدة الولاء للبيت الأسدي وليس للنظام وحده.
على مستوى الأجهزة الأمنية، وضمن الطراز الأوّل دائماً، أدخل الأسد الأب تعديلاً حاسماً على منظومة المخابرات السورية، عن طريق تطوير جهازَين من قلب المؤسسة العسكرية، هما «شعبة المخابرات العسكرية» و«إدارة مخابرات القوى الجوية»؛ وتمكينهما، من حيث الصلاحيات، بما جعل منهما قطبين موازين لـ»إدارة المخابرات العامة» و«إدارة الأمن السياسي». كذلك وجّه قادة الأجهزة، في المخابرات العسكرية والجوية على نحو خاص، إلى تعديل التركيب العشائري (وليس الطائفي فقط!) للضباط والعناصر في فروع الجهاز؛ بما يجعل كلّ جهاز أكثر تمثيلاً لعشيرة محددة، خاصة النميلاتية والخياطية والحدادية، وذلك لإبقاء نسق مختلط من التوازن والتنافس معاً.
تعديل آخر، لجهة الترتيب الهرمي وتوزيع الصلاحيات داخل الجهاز ذاته، تمثّل في «تفكيك» الجهاز الواحد إلى فروع اختصاصية، بحيث يتقاسم رؤساء هذه الفروع ما يتيحه لهم الفرع من نفوذ أولاً؛ ثم يتنافسون فيما بينهم، حتى إذا اقتضى الأمر تجاوز الرئيس المباشر في الجهاز الأمّ تالياً. وهكذا، في شعبة المخابرات العسكرية على مستوى مدينة دمشق مثلاً، تتوفر فروع المنطقة، الجبهة، التحقيق العسكري، سرية المداهمة والاقتحام، شؤون الضباط، الحاسب الآلي، الفرع الخارجي، أمن القوات، فرع فلسطين، الدوريات، اللاسلكي… فإذا كان رئيس الفرع مقرباً من السلطة أكثر من سواه (كما حين كان آصف شوكت، صهر النظام، هو رئيس فرع المداهمة) فإنّ صلاحياته وعلاقته بالقصر الرئاسي لا يمكن أن تُقارَن بأيّ من زملائه في الفروع الأخرى.
ولقد سهر الأسد على إقامة ميزان محسوب بين العناصر التي تُنهض الطرازين معاً، كأنْ يكون عضو القيادة القطرية للحزب، أو هذا الوزير السيادي أو ذاك العادي، أو المدير العام لمؤسسة التبغ والتنباك تارة والمدير العام للمصرف العقاري تارة أخرى (نموذج محمد مخلوف)؛ على صلة وثيقة، تكاملية أو اتباعية، مع رئيس هذا الجهاز الأمني أو ذاك، في مستوى الإدارة المركزية كما في الفروع استطراداً (نموذج علي دوبا في المخابرات العسكرية، ومحمد الخولي في مخابرات القوى الجوية، وقادة الفرق والأفواج والتشكيلات الخاصة ضمن معادلات المحاصصة). وهذا مشهد يتضافر مع تعديلات الأسد في تنشئة شبكات الولاء والفساد والنهب، وتحويل السياسة الخارجية إلى مصدر ابتزاز…
تلك كانت زروع الأسد الأب، خلال السنوات الأولى من تدشين «الحركة التصحيحة ـ 1»؛ هذه التي استنبتت الخرائب سنة بعد أخرى، وعقداً بعد آخر، وصولاً إلى سنة 2000 حين جرى توريث بشار الأسد، ليطلق خرائب «الحركة التصحيحة ـ 2». ولم تكن مفارقة أنّ البذور الأسدية كانت فاسدة وخبيثة أصلاً، فخلّفت حزباً شائهاً وجيشاً أقرب إلى ميليشيا طائفية وعشائرية، وسلطة تابعة مرتهنة، وبلداً تحتله خمسة جيوش أجنبية.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري:

    تشخيص دقيق لنظام المجرم حافظ الاسد
    شكرا عزيزي صبحي

  2. يقول سامي صوفي:

    يسلّم الأيادي يا أستاذ صبحي.
    و لا في يوم من الأيام كان يهمّ حافظ الأسد لا البعث و لا أجنحته. كل «التصحيحيات» الزائفة التي قام بها حافظ الأسد على مستوى الجيش و المخابرات، كانت تهدف لخطف الطائفة العلوية كي تعمل بولاء شديد لشخصه و شخصه فقط. و لا أستغرب بأن خلافه مع صلاح جديد بعد علونة سوريا في شباط ١٩٦٦ كان حول كيفية الخطف لتُخلص لواحد منهما دون الآخر.
    و طبعاً ما كان حافظ الأسد لينجح في حكمه لولا «تدجين» سنّة المدن السورية، و مشاركة رجال أعمالهم بدءاً من الدمشقيين منهم مع الضباط العلويين. و هنا أذكر قصة شاهبندر تجار دمشق: بدر الدين الشلاح الذي جمع تجارها اللذين ثارت حفيظتهم كيف يحكمهم «علوي»، و قال لهم؛ افتحولون بيوتكم و جيوبكم». الأكيد أنه لولا وجود هكذا سنّة، لما حكم العلويون منذ شباط ١٩٦٦!
    يبقى أنه من غرائب هذا التصحيح أن الأسد بدأه بسجن جديد و زيّن و الأتاسي، و تعيين أحمد الخطيب السنّي رئيساً لسوريا. كان «الرئيس» الخطيب ينادي «وزيره» حافظ الأسد ب «سيدي».
    هكذا وصلت سوريا لهذا الوضع الأكثر بؤساً من البؤس، و الأغرب من الخيال.

  3. يقول فريد:

    تسلم الأيادي –
    ماشاء الله . أصبت وأحسنت التعبير !

  4. يقول صليبا:

    النظام السوري هو أسوأ نظام عرفته البشرية.
    هو النظام الوحيد الذي قتل ويقتل شعبه ويعلن الانتصار. الانتصار على من ؟ بئس الانتصار على الشعب .
    نظام منافق لم ينتصر الا على الشعب الأعزل.
    نظام احتيال وغش ونفاق وخيانة وسرقة.
    نظام سرق بمكره وخبثه الوطن والبراءة والمستقبل من مواطنيه .
    نظام فاسد ، افسد الأخلاق والتربية في الوطن .
    نظام مهما كُتب عن فساده وشروره هناك المزيد للكتابة ، لا احد يستطيع ان يحصي مساوئه على البلاد والعباد والجيران من الدول العربية القريبة والبعيدة وعلى العالم .
    فقط هناك دولة واحدة يمكنها ان تفاخر بالفائدة من شر افعاله.
    ” الحركة التصحيحية ” لم تكن الا حركة تخريب وعمالة وفساد لكل ما كان جيدا في الوطن والمواطن .

  5. يقول محمد:

    هل فعل الاسد هذا بذكائة ام هنالك من رتب له ذلك

    1. يقول ابو عادل:

      حافظ الأسد لم يكن ذكيا بقدر اندفاعه وتعطشه للسلطة والذي سمح له بترتيب وحياكة هذه الشبكة المافيوية الإجرامية التي كانت غير خاضعة لأي قانون ولا أعراف إنسانية وتتصرف حسب الغاية تبرر كل الوسائل.
      وجعل منها درع حامي لنظامه مقابل كل المكاسب والانتهاكات والفظائع الممكن ممارستها في بلد تحول إلى غابة مليئة بالمفترسين خاطبي ود المفترس الأول حافظ الأسد.
      هذه البداية دليل على وحشية هذا الرجل المسعور والموبؤ بالسطو والتسلط والاستبداد
      منتهى الفشل والغباء والتخلف هذا الذي اسس له الارهابي حافظ الأسد.
      والذي نقل كل ماهو فيه من هذا الفشل إلى وريث أكثر غباءاً تابع طريق تدمير بلد وشعب .

  6. يقول ابن الاردن:

    لقد قالها العقيد عبرالكريم الجندي عضو اللجنة العسكرية الخماسية ومدير المخابرات العامة ورفيق حافظ الاسد ، قام بتسريب رسالة بخط يده الى جريدة النهار اللبنانية والتي نشرتها في حينه. حيث جاء فيها ان الرفيق حافظ ينفذ مخططا مشبوها لا يعرف الى اين ،، وفد انتحر او قتل بعد نشرها ،،
    ونفاها الاسد واقام له جنازة عسكرية رسمية ،. وبعد شهر اغتيل سائقه الذي هرب الرسالة الى لبنان ،. وبعد عدة اشهر توفيت زوجته بظروف غامضه ،

  7. يقول Sam:

    حافظ الاسد رحمك الله
    انسان عبقري ونابغة سياسية حقيقية
    سوريا بقيت ٢٠٠٠ سنة محتلة بتتابع من قبل الخارج حتى اتى هذا الرجل واصبحت مستقلة وذات هيبة تتدخل بالدول الاخرى

  8. يقول سلمى سعيد:

    في الحقيقة ، مقال الأخ صبحي حديدي أهم وأعمق مقال في زاوية الرأي من هذا العدد ؛
    لكن ، مع الأسف الشديد ، الأغلبية الساحقة من القراء لا تنجذب إلا إلى العادي والسطحي من المكتوب في المقالات الأخرى ؛
    تحية شكر وتقدير خاصة إلى الأخ صبحي حديدي !!!؟؟

  9. يقول آصال أبسال:

    من 1) سرايا الدفاع إلى 2) الوحدات الخاصة إلى 3) الحرس الجمهوري إلى مستوى الأجهزة الأمنية الأخرى، كمثل «شعبة المخابرات العسكرية» و«إدارة مخابرات القوى الجوية»، كقطبين موازين لـ«إدارة المخابرات العامة» و«إدارة الأمن السياسي»، إلى آخره، إلى آخره..
    تلك كانت زروع الأسد الأب، خلال السنوات الأولى من تدشين «الحركة التصحيحة الأولى»، ثم تبعتها «زروع» الأسد الابن خلال السنوات الأخيرة من تدشين «الحركة التصحيحة الثانية»، إذا تجلَّت هتان الحركتان كمرادفين لـ «الحركة التخريبية المزدوجة» بامتياز ليس بعده امتياز..
    ومع ذلك، ورغم كل هذا «الجبروت» الأخطبوطي الهائل الذي كان الأسد الأب يتسلَّح به تمهيدا لتسليح الأسد الابن، فقد اهتز عرش نظامهما الفاشي الإجرامي من مجرَّد صرخات الأطفال والصبية والشبيبة بشعار «الشعب يريد إسقاط النظام» في بدايات الثورة الشعبية في سوريا.. مما حدا بهكذا نظام عميل كاد أن يسقط إلى نهايته بالفعل، لولا استنجاده بأسياده الأجانب الذين تحولوا أخيرا إلى محتلين رسميين بجيوشهم الخمسة تلك.. !!

  10. يقول Jehad Saoud:

    مقال رائع

اشترك في قائمتنا البريدية