منذ حللت في الديار الرومانية، استرعى انتباهي أمر يتعلق بسيارة «داسيا» التي تصنعها رومانيا بترخيص من شركة «رونو» الفرنسية منذ 1968، فأول سيارة من هذا النوع في هذه الديار، لها تصميم «رينو 8» خرجت من مصنعها الرئيسي قرب «بيتيشت».
هذه السيارة العجيبة التي انتشرت عندنا في المغرب ابتداء من تسعينيات القرن الماضي، كانت تأتي إلينا من رومانيا، لكن ستعرف لاحقا السوق المغربية في مجال تصنيع سيارات داسيا وعرضها انتشارا أوسع، مع إقامة مصنع «رينو» في ملوسة في طنجة، شمال المغرب ولاسيما في صفوف الطبقة المتوسطة، لذلك، وكما يقول العرب: الشيء بالشيء يذكر، فإن سيارات الأجرة في رومانيا معظمها من نوع داسيا، ولولا الاختلاف في الحروف والأرقام بيننا وبينهم لذهب ظننا إلى الإقرار بإننا في المغرب !
فتسمية «داسيا» التي أطلقت على السيارة الاقتصادية عندنا، يرجع أصلها إلى رومانيا، وتحديدا إلى مقاطعة «داسيا» التي شهدت أراضيها حروبا عنيفة بين الرومان والقوط. هناك رواية تاريخية تقول، إن أصل الشعوب الرومانية من منطقة داسيا؛ كما تؤكد المصادر التاريخية أن تطور المجتمع الروماني تحت تأثير الإمبراطورية الرومانية يعود بالأساس إلى السيطرة على أراض في الضفة الجنوبية لنهر الدانوب، بما في ذلك بالطبع رومانا داسيا، التي كانت تعرف بداتشيان القديمة. فمقاطعة داسيا شكلت عبر أزمنة خلت بيت القصيد بالنسبة لشعوب البلقان، ومن ضمنها الإمبراطورية الرومانية. ولعل الإمبراطور الروماني قسطنطين، الذي تسمى باسمه الشوارع في كل ربوع البلاد، وأقيمت له تماثيل في الساحات العمومية، قاد جيوشه عبر نهر الدانوب فسحق القبائل القوطية التي استقرت هناك.
من نافلة القول نضيف، إن نهر الدانوب شكّل على مرّ التاريخ في المنطقة البلقانية التحدي الكبير، وقد أعلن الإمبراطور الروماني غاليريوس في كلمة مشهورة «أن نهر الدانوب هو التحدي الأكبر من بين جميع حدود الامبراطورية». اليوم، يعتمد 20 مليون أوروبي على مياه نهر الدانوب الذي يمتد على مسافة 2860 كلم .
وعود إلى بدء نقول، إن داسيا (المقاطعة الرومانية والسيارة في الآن نفسه) جعلتنا نقيم الحسابات ضمن متوالية تاريخية؛ تنهض على دعائمها الاستعمالات الحديثة لمجال التصنيع وعلاقته بالتاريخ والجغرافيا والثقافات والشعور القومي إلخ؛ وهي كلها عناصر تعطي الانطباع بأن دينامية تاريخ الشعوب تمر من هنا، كما تمر من هناك، وفق جدلية زمنية، تسمح بخلق مثل هذه التوليفات العجيبة على مستوى الجغرافيات، حتى لو كان الأمر يتعلق بالمغرب في شمال افريقيا ودول البلطيق بما في ذلك رومانيا. لكن الحس القومي لدى الآخرين، يبقى اختيارا استراتيجيا مهما عظم دور الاقتصاد وأثره، حتى أكون أقرب إلى حيثيات التشكيلين التاريخي والجغرافي لامتداد حضارة نهر الدانوب، الذي ينطلق من ألمانيا في الغابة السوداء ليمر عبر فيينا في النمسا فسلوفاكيا وهنغاريا ثم كرواتيا وصربيا ورومانيا ومولدافيا فبلغاريا ثم أوكرانيا، لينتهي مصبه عند البحر الأسود في أوروبا الشرقية، لا بد من قراءة الماضي في ضوء الحاضر والعكس صحيح… فجدلية الأشياء تبدأ من الأسماء والمسميات لتنتهي عند نقطة التشكل البدئي للحضارة البشرية.
كاتب من المغرب