دانييل بايبس و«عبء الرجل الصهيوني»

حجم الخط
3

قد يصحّ الافتراض بأنّ دانييل بايبس، الكاتب الأمريكي الليكودي الذي يستحبّ هذه الأيام صفة «مؤرّخ/ محلّل الإسلام» الركيكة والمبتذلة؛ قد تأخّر، كثيراً ربما وليس قليلاً، في الالتحاق بحرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة ضدّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة وسائر فلسطين. فالعجب مشروع إزاء حقيقة تشير إلى أنّ كتابه الأوّل/ وثيقة انضمامه إلى جيش الإبادة الإسرائيلي، بعنوان «انتصار إسرائيل: كيف يفوز الصهاينة بالقبول ويجري تحرير الفلسطينيين»، لم يصدر إلا قرابة 300 يوم على فجر انخراط دولة الاحتلال في ارتكاب أولى جرائم الحرب.
ولا يزول العجب بتأثير إيضاح يسوقه بايبس منذ السطور الأولى في الكتاب، مفاده أنه دفع بالمخطوط إلى المطبعة في أيلول (سبتمبر) 2023، واضطرّ بالتالي إلى سحب النصّ وإعادة كتابته في ضوء وقائع 7 تشرين الأول (أكتوبر) ذلك العام؛ الأمر الذي لم يبدّل الكثير في شعار الكتاب المعلَن: «يتوجب أن تهزمهم، وبعدها يمكن أن تغيّرهم». والـ»هم» هذه تعود على الفلسطينيين، وليس من تعفّف في الحدود الدنيا عند إطلاق النبرة العنصرية البغيضة والاستشراقية الرثّة التي اشتُهر بها بايبس، وثمة الكثير من الغطرسة الفوقية التي تستخدم مقولة «عبء الرجل الأبيض» ملقاة هذه المرّة على عاتق الصهاينة.
وفي يقينه أنّ الفارق الحاسم بين الصهاينة والفلسطينيين كان قد تمثّل في هذه الثنائية: الرفض من جانب الفلسطينيين، وابتداءً من سنة 1886 مع الهجوم على مستوطنة «بتاح تكفا»؛ مقابل التراضي من جانب الصهاينة، الذين لم يتقنوا في أيّ يوم «مهنة الغزاة» وتابعوا مهامّ «تحويل الصحراء إلى جنان وارفة». وتخيلوا أنّ هذا الليكودي العريق يلوم ساسة إسرائيل، أو الصهاينة عموماً كما يحلو له تسميتهم، لأنهم صرفوا السنوات والعقود في مصالحة الفلسطينيين واسترضائهم (نعم: بالحرف!)، ووفّروا لهم أدوات الرفاه والازدهار، وانخرطوا في مفاوضات تقديم التنازلات، وعلى رأسها اتفاقيات أوسلو أو «نكبة إسرائيل» حسب وصفه؛ وكلّ هذا وسواه بدل تحقيق «النصر التامّ» على هؤلاء الفلسطينيين. وحلّ هذه الثنائية يقتضي، في يقين بايبس، أن تتخلى دولة الاحتلال عن روحية المصالحة القديمة الفاشلة، وتعتمد القاعدة الذهبية: «إنهاء النزاع عن طريق انتصار فريق، وهزيمة الفريق الآخر».
ولا يلوح أنّ جعبة بايبس قد امتلأت بأيّ جديد ملموس على الـ800 مادّة سبق أن كتبها حول الصراع العربي ــ الإسرائيلي عموماً، والشطر الفلسطيني منه خصوصاً، ابتداء من العام 1967؛ أو على حصيلة حواراته مع جميع رؤساء الحكومات الإسرائيلية، ما خلا يائير لبيد، خلال السنوات الـ40 المنصرمة؛ وزياراته الأولى منذ 1966 إلى القدس الشرقية والضفة الغربية وغزّة؛ ولقائه مع ياسر عرفات… هذه «أوراق اعتماد» كما يعتبرها، عجزت في المقابل عن توفير أسطوانة أخرى غير مشروخة حول أمين الحسني والنازية، أو نجيب عازوري والتحريض المسيحي ضدّ الصهيونية، أو انقلاب اليسار العالمي ضدّ دولة الاحتلال بعد عقود من التعاطف معها؛ أو… نظرة جيمس فين، القنصل البريطاني في فلسطين سنوات 1845 وحتى 1872، الذي قارن بين الفلسطينيين والجراد: «لا يُبقون على ورقة شجر خضراء واحدة إلا وابتلعوها»!
ولا بأس عنده من الجمع بين محمود درويش وجورج حبش وعلي خامنئي، تحت مقولة واحدة: تدمير اليهود وتقويض دولتهم؛ ولا فارق عنده بين شاعر وطني وقائد سياسي ومرشد أعلى، بل يجوز عند بايبس مساجلتهم (رغم عدم وجود أيّ اقتباس من الثلاثة يخدم تثبيت اتهاماته) عن طريق الرجوع إلى نصوص التوراة وتواريخ الكنعانيين. لا غضاضة، أيضاً في اتهام حفنة من الفلسطينيين المقيمين في الغرب بنشر نزعة الرفض الفلسطينية وإجهاض التسامح الإسرائيلي: إدوارد سعيد في رأس اللائحة بالطبع، وثمة رشيد الخالدي ولندا صرصور ورشيدة طليب وجيجي وبيلا حديد. ولن تكتمل هرطقة بايبس إذا لم يحشر التشدد الإسلامي في قلب المعادلة، فينطوي الرفض عنده على رعاية التيارات الجهادية، وتكريس سلطة الشريعة، وإعلاء مفهوم الاستشهاد.
في المقابل، هل ثمة احتلال واستيطان وجدار فاصل وعنصرية ومنظومات أبارتيد داخل تيارات «التسامح» الإسرائيلي و»استرضاء» الفلسطينيين خضعت وتخضع لقرارات إدانة أممية ومحاكم عدل وجنايات دولية؟ أهناك وزير إسرائيلي، يشغل حقيبة الأمن القومي، يدعي إيتمار بن غفير، مدان قضائياً بالإرهاب في محاكم الولايات المتحدة ذاتها التي يحمل بايبس جنسيتها؟ وهل شهد قطاع غزّة، ويشهد كلّ يوم، شتى صنوف جرائم الحرب والإبادة الأبشع على مدار التاريخ؟ وهل تعمّ شوارع تل أبيب والقدس المحتلة تظاهرات يحتشد فيها عشرات الألوف من الإسرائيليين احتجاجاً على حكومة هي الأشدّ يمينة وفاشية في تاريخ الكيان الصهيوني، تجرّ الكنيست إلى تعديل القضاء وإحالة المحكمة العليا إلى رفوف الشلل والإهمال؟ وأيّ «عبء» يحمله الصهيوني المعاصر، إذْ تتديّن دولته أكثر فأكثر حتى كادت ركائز المواطنة فيها تنحسر إلى شعار الحريديم في «الموت ولا التجنيد»؟
هو في كلّ حال دانييل بايبس القديم الذي يتكرر ولا يكفّ عن تدوير ذاته وأفكاره كلما اقتضت الحال الإسرائيلية في المقام الأوّل؛ ولكن أيضاً من أجل إعادة إنتاج المهمة التمدينية الاستعمارية العتيقة، مُسندة هذه المرّة إلى توحّش إبادي صهيوني أقصى.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتور جمال البدري:

    في روايتي الصادرة في لندن عامّ 2004 باسم: { حارة اليهود } وهي حارة كان يسكنها اليهود في سامراء القديمة؛ حيث جرت أحداثها الأولى لعائلة المعلمة الستّ نجيبة اليهوديّة؛ وصولًا إلى بريطانيا والهند والأرجنتين لاحقًا؛ ترد عبارة فيها مفادها: { نحن اليهود نتوجّه إلى إسرائيل؛ كم يتوجّه المسلمون إلى القبلة في مكة }.وكلّ ما قرأت عن اليهود وإسرائيل والصهيونيّة طوال سنين؛ لا يخرج عن مفهوم هذه العبارة العابرة لعبرانيّ؛ سواء أكان دانييل بايبس أو يستحاق شاس.

  2. يقول إلى جهاز التحرير:

    منذ بدء حرب الإبادة الهمجية والبربرية التي يشنها قطعان الصهاينة ضد قطاع غزة
    ورأي دانييل بايبس لم يتغير من حيث المبدأ ويمكن استشفاف ذلك في تقاريره في MEF –
    بأن حماس تسعى إلى النصر من خلال استقطاب الدعم الإقليمي والدعم العالمي
    بينما الكيان الصهيوني الفاشي والإجرامي الغاشم يسعى إلى إبادة حماس عن بكرة أبيها
    *
    MEF اختصارا لـ Middle East Forum

  3. يقول إلى جهاز التحرير:

    تحرير
    يرج نشر النسخة المعدلة
    وشكرا

اشترك في قائمتنا البريدية