باريس- “القدس العربي”:
في مقال رأي نشره بمجلة “لوبوان” الفرنسية، تحت عنوان: “إيران وغزة وازدواجية المعايير الغربية”، قال الدبلوماسي الفرنسي السابق، جيرار آرو، إن الدول الغربية تمنح نفسها، بشكل غير معلن، حق تحديد أين يتوقف القانون الدولي، لكن بقيّة العالم لم تعد مخدوعة.
وكتب هذا الدبلوماسي السابق المخضرم، الذي سبق له أن عمل سفيرا لفرنسا لدى عدة دول منها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وممثل فرنسا الدائم لدى الأمم المتحدة: “المواطن يحبّ السخرية من دبلوماسي يُتهم عادةً بانعدام البوصلة الأخلاقية أو بالعجز عن التصرّف بحزم في وجه الشر. وقد سمحت العمليات العسكرية التي شنتها إسرائيل والولايات المتحدة ضد إيران بإعادة هذه الصور النمطية. فكيف يمكن للمرء ألا يدعم هذا الهجوم الذي تشنه ديمقراطيات ضد بلد لم يتوقف قط عن تشجيع الإرهاب وزعزعة استقرار الشرق الأوسط؟”.
وجد كثيرون أنفسهم يتفقون مع تصريحات المستشار الألماني الذي قال: “إسرائيل تقوم بالعمل القذر نيابةً عنّا”. نعم، اعترف البعض بأن الهجوم الإسرائيلي قد يكون موضع نقاش من الناحية القانونية، لكنه “مشروع” في مواجهة نظام يشنق المعارضين والمثليين ويضطهد النساء. وهكذا يبدو القانون الدولي وكأنه مجرد تعقيدات غير ضرورية لدبلوماسيين بلا عمود فقري. بشكل ضمني، تمنح الدول الغربية نفسها حق تقرير من يستحق حماية القانون الدولي ومن لا يستحقها. ولا أحد يتساءل كيف يرى بقية العالم هذا المنطق؟ يقول جيرار آرو.
وتابع الدبلوماسي الفرنسي السابق القول إنه حين يستند المرء إلى تقارير أجهزة الاستخبارات الغربية للتشكيك في سعي إيران إلى امتلاك السلاح النووي، يُتهم فوراً بالدفاع عن ديكتاتورية أو بمعاداة السامية. وفي الوقت نفسه، يُبدي الجميع إعجابهم بنجاحات الموساد، التي لا شك أنها مدهشة، أو بالقاذفات الأمريكية. وليس من المستغرب أن يتصدر خبر سقوط صاروخ إيراني على مستشفى إسرائيلي دون أن يوقع ضحايا، عناوين جميع وسائل الإعلام طوال اليوم. لكن يبدو من غير اللائق تذكير الناس بثلاثين مستشفى فلسطينياً دمرتها إسرائيل في غزة، ولم تحظَ بأي تعاطف مماثل. وهكذا تتجلى ازدواجية المعايير الغربية بكل براءة، يقول جيرار آرو.
ويتابع أنّه وسط هذا الإجماع، يلتزم الدبلوماسي الصمت، بانتظار أن تسمح له الأحداث بطرح أسئلته التي لا يُسمع لها صوت اليوم. أولاً، سيسأل بلطف: ما هو الهدف من العمليات الإسرائيلية؟ في البداية، كان الحديث عن تدمير البرنامج النووي والباليستي الإيراني. لكن هناك من يذكّر بالمفاوضات التي كانت تقودها الولايات المتحدة حول هذا الموضوع، والتي كان من المقرر أن تُستأنف في جولة سادسة بمسقط يوم 15 يونيو/حزيران الجاري.
ويتساءل هؤلاء إن لم تكن إسرائيل، التي اغتالت فوراً كبير المفاوضين الإيرانيين، قد تدخلت في هذا التوقيت بالذات لإفشال عملية دبلوماسية لم تكن ترغب فيها. ومع ذلك، وبعد أسبوع من بدء العملية، لم تثبت الوسائل العسكرية، رغم طابعها الاستعراضي، فعاليتها، لأنه يتم التلميح إلى أن تدخلاً عسكرياً أمريكياً سيكون ضرورياً لتدمير كل المنشآت النووية الإيرانية.
في كل الأحوال، يواصل الدبلوماسي الفرنسي السابق، يبدو أن إسرائيل، من خلال خطابها وتوسيع أهدافها، تسعى اليوم إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى إضعاف النظام الإيراني وربما إسقاطه. والحماسة التي أبدتها بعض الأوساط في فرنسا تجاه هذا السيناريو لها طابع مألوف. ففي عام 2003، لُعن نظام، كان هو الآخر مروعاً، واتُّهم بحيازة أسلحة دمار شامل، ودُعي إلى “تحرير” شعبه عبر تدخل أجنبي، يُذكِّر جيرار آرو.
الحجج نفسها، تُطرح أحياناً من نفس الأفواه، التي يبدو أنها نسيت نتائج تلك الحملة، مئات الآلاف من القتلى وظهور تنظيم داعش، يشير الدبلوماسي الفرنسي السابق، قائلاً إن هؤلاء لا يُثير قلقهم أن إيران بلد متعدد الأعراق يضم 90 مليون نسمة، بلا معارضة منظمة أو واضحة، حيث القوة الوحيدة القائمة تتمثل في ميليشيات مسلحة ومتعصبة. ولا يقلقهم أيضاً أن الفوضى أو ظهور نظام أكثر تطرفاً قد يكون النتيجة الأكثر ترجيحاً في حال انهيار الجمهورية الإسلامية.
وهنا يُصرّ الدبلوماسي المزعج ( كما يصف جيرار آرو نفسه): ما هو الهدف الاستراتيجي لإسرائيل؟ فالتراكم اللافت للنجاحات التكتيكية لا يُشكل بحد ذاته نصراً. فلا بد من أن تؤدي نهاية المعارك إلى واقع جيوسياسي جديد أكثر استقراراً وملاءمة مما كان عليه الحال من قبل.
فكيف تتصور إسرائيل الشرق الأوسط، ليس فقط في أحلامها، بل في الواقع الذي تسعى إلى فرضه مستندة إلى تفوقها العسكري المطلق وبتواطؤ من الولايات المتحدة ودول الخليج؟ هذا السؤال، رغم أهميته، لا يُطرح في البرامج الحوارية، ولا يبدو أن أحداً يهتم به، ولا يمكن الإجابة عليه لسببين، يقول الدبلوماسي الفرنسي:
الأول، هو رفض إنشاء دولة فلسطينية، بل وربما الرغبة في تنفيذ تطهير عرقي في غزة والضفة الغربية، وهو ما يحول دون اندماج إسرائيل الكامل في المنطقة؛ والثاني، هو الرغبة في حل أزمة البرنامج النووي الإيراني بالقوة، بينما لا يمكن حلها إلا عبر التفاوض، كما أثبت الاتفاق النووي عام 2015، الذي ألغاه دونالد ترامب بناءً على طلب إسرائيل.
واعتبر جيرار آرو أن التقنية لا تختفي تحت القنابل، وسواء وُجدت القاذفات B2 أم لا، ستتمكن طهران عاجلاً أم آجلاً من إعادة بناء قدراتها. عندها فقط، ستكون إسرائيل في مأزق استراتيجي. وهي كذلك في غزة، حيث ما تزال حماس تسيطر على الأرض، وقد تصبح قريباً كذلك أمام إيران. لكن ما زال الوقت مبكراً كي يُصغى لصوت العقل.