الناصرة – “القدس العربي”: تعتبر وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني واحدة من سياسيين قلائل جدا، ممن ما زالوا يرددون كلمة ” احتلال”، وتؤمن بكون حل الدولتين وسيلة لإنقاذ إسرائيل، ما أدى لانحسار قوتها وإعلان انسحابها من الحلبة الانتخابية في ظل هيمنة مد يميني عنصري في الشارع الإسرائيلي.
وفي ظل غياب شبه كامل للاحتلال ولضحاياه الفلسطينيين عن المشهد السياسي الانتخابي العام داخل دولة الاحتلال، تزعم دراسة إسرائيلية جديدة تولى ترجمتها المركز الفلسطيني للشؤون الإسرائيلية (مدار)، أن انسحاب الاحتلال حتى من المناطق المصنفة “ج” يعرض إسرائيل للخطر الوجودي.
وحسب دراسة صادرة عن الجنرال (احتياط) غرشون هكوهين، الباحث في “مركز بيغن ـ السادات للدراسات الاستراتيجية”، فإن الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية المحتلة على أساس حدود الرابع من حزيران 1967، حتى لو كان مع بعض التعديلات في الكتل الاستيطانية الكبيرة، قد يعرّض إسرائيل إلى خطر وجوديّ”.
دراسة استراتيجية
ويستدل من مراجعة ” مدار ” حول هذه الدراسة أن الادعاء المركزي الذي تطرحه، ويوصل بالضرورة إلى الاستنتاج المذكور، هو أن انسحاب القوات الإسرائيلية الشامل من مناطق الضفة الغربية (وهو ما تسميه الدراسة “الانفصال عن الفلسطينيين في يهودا والسامرة على أساس حدود 1967”) لن يؤدي إلى محاصرة إسرائيل في حدود لا يمكن الدفاع عنها فقط، وإنما سيؤدي أيضا إلى نشوء “كيان إرهابي” كما حصل في قطاع غزة إبان عملية أوسلو، مع فارق جوهري وحاسم هو: أن قرب مناطق الضفة الغربية من الموارد والمنشآت الأساسية الحيوية الإسرائيلية، على طول سواحل البحر المتوسط، يزيد حجم الخطر الذي ينطوي عليه هذا الانسحاب، أضعافاً مضاعفة.
وتكشف قراءة الدراسة حسب ” مدار ” عن أن إعدادها لم يكن صدفة وإنما جاء لطرح “مسار بديل” عن مسارين آخرين سبق أن طُرحا، ضمن مقترحين سابقين مؤخرا: الأول، أصدره “معهد أبحاث الأمن القومي” بعنوان “مسار عمل استراتيجي للجبهة الإسرائيلية ـ الفلسطينية” والذي “لم يتجاهل هذا الخطر (الوجودي)، لكنه قدم له حلاً مؤقتا وجزئياً”؛ والثاني، المسار الذي تطرحه منظمة “قادة عسكريون من أجل أمن إسرائيل”.
وتدعي الدراسة الإسرائيلية بأن المقترحين المذكورين لم يناقشا بصورة نقدية التغيرات الدولية التي حصلت خلال العقدين الأخيرين في كل ما يتعلق بـ”ظاهرة الحرب”، وانطلقا من “تقديرات مبالغ فيها” بشأن قدرات الجيش الإسرائيلي في مدى الفاعلية والأهمية حيال التهديدات. وخلافاً للاعتقاد السائد، مثلا، فإن كتلة الاستيطان المدني في كامل الحيز الجغرافي “أصبحت أكثر مركزية، بل شرطاً ضروريا لضمان نجاعة العمل الأمني والعسكري “.
مسوغات مختلفة
تشير الدراسة إلى أن مؤيدي “حل الدولتين” يؤسسون موقفهم هذا على مجموعتين من المسوغات المتوازية: سياسية ـ إيديولوجية، واستراتيجية ـ عسكرية.
في المستوى الأول، يدعي المؤيدون بأن استمرار السيطرة الإسرائيلية على الأرض المحتلة عام 67 يمس بطابع إسرائيل الديمقراطي وبأن حلّ هذه الإشكالية بواسطة ضمها، بما عليها من ملايين السكان الفلسطينيين، سيؤدي إلى القضاء على إسرائيل كدولة يهودية.
ورغم أن هكوهين يحرص على تأكيد ادعائه بأن الدراسة لا تعالج البُعد السياسي ـ الإيديولوجي في حل النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، وإنما هي تعالج أبعاده الاستراتيجية ـ العسكرية فقط، إلا إنه يشدد على أن “إنهاء السيطرة على الفلسطينيين وإقامة دولة فلسطينية في حدود حزيران 1967 لا يجسدان، بالضرورة، الرؤية ذاتها ولا يؤديان إلى حل واحد فقط”.
ويورد لادعائه هذا إسناداً مما كان “في صلب رؤية رئيس حكومة الاحتلال الراحل إسحق رابين بالنسبة لعملية أوسلو”، إذ كان رابين يريد ـ كما يقول هكوهين ـ الفصل بين عنصرين: التمسك بإنهاء السيطرة الإسرائيلية على الفلسطينيين، إلى جانب رفض فكرة أن هذا المسار سيؤدي بالضرورة إلى الانسحاب الإسرائيلي إلى حدود حزيران 1967، ولا إلى إقامة دولة فلسطينية بالطبع”.
سيطرة إسرائيلية
ويضيف هكوهين زاعماً بأن “سعي رابين إلى إنهاء السيطرة الإسرائيلية على الفلسطينيين قد تحقق بالكامل”، وذلك بعد اغتياله، “حيث أصبح ما يزيد عن 90% من السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية تحت سيطرة فلسطينية وليس تحت احتلال إسرائيلي”.
ويزعم الباحث الإسرائيلي أن الخلاف بين إسرائيل والفلسطينيين “لم يعد يدور حول طريقة إنهاء الاحتلال وإنما حول مستقبل المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، معسكرات الجيش الإسرائيلي، الطرق الرئيسية، المناطق الحيوية والفضاء المفتوح على مشارف غور الأردن وحول مدى الضرورة الأمنية لمواصلة السيطرة الإسرائيلية على هذا الفضاء”.
فرضيات مركزية
ويعرض الكاتب “الفرضيات المركزية الأربع” التي يؤسس عليها مؤيدو “الانسحاب وحل الدولتين” موقفهم، وفي مقدمتهم أيضا كبار المسؤولين الأمنيين السابقين، وهي: الانفصال، بما يشمله من إخلاء واسع لمستوطنات يهودية، سيقرر الحدود، يقلص مساحات التماس والاحتكاك ويخلق واقعاً جديداً يقود نحو الاستقرار، في حال زعزعة الاستقرار إلى درجة تشكيل تهديد أمني غير محتمل، سيكون بإمكان الحكومة الإسرائيلية اتخاذ القرار اللازم وإرسال الجيش لشنّ هجوم ينهي التهديد الصادر من مناطق الدولة الفلسطينية؛ الجيش الإسرائيلي، بتفوقه العسكري الدائم والثابت، سيكون قادرا على إزالة أي تهديد أمني في غضون أيام قليلة. وأخيرا الانسحاب من الضفة الغربية وإنهاء الاحتلال سيضمن دعماً دوليا واسعا لأي عملية عسكرية كهذه تقدم عليها. ويؤكد الكاتب رفضه لهذه الفرضيات الأربع كلها “من وجهة النظر العسكرية ـ الاستراتيجية”، بادعاء مركزي هو أنه “إزاء التغيرات الجوهرية في طابع الحروب والمجتمع الدولي (بما في ذلك الثورة في مجال الاتصالات) خلال القرن الحالي، فمن المؤكد أن يؤدي الانسحاب وإقامة دولة فلسطينية إلى وضع دولة إسرائيل أمام تهديد أمني ـ استراتيجي غير مسبوق”.
تعليل الرفض
في تعليل رفضه لهذه الفرضيات، يطرح معد الدراسة ان منطق الحرب مع “حزب الله” الذي تبنته حركة “حماس”، مع التعديلات اللازمة في غزة، والذي سيتم تبنيه بالتأكيد في الضفة الغربية عقب الانسحاب الإسرائيلي، يرسم خطوطا عريضة للسيناريو الأمني الأكثر خطورة الذي قد يتطور في داخل مناطق الدولة الفلسطينية الواقعة في قلب مناطق جبلية تشرف على المناطق الساحلية في إسرائيل، والقريبة جدا من التجمعات السكنية المركزية فيها، كما تشرف على جميع الموارد والمنشآت الاستراتيجية الموجودة في المنطقة. وبرأيه سيتعاظم هذا الخطر بدرجة كبيرة في حال نشوب قتال متواز في الوقت ذاته على جبهات مختلفة، في غزة، وفي لبنان وربما في سوريا أيضا.
دبابات وطائرات
وبحسب مزاعمه أصبح سيناريو القتال المتزامن في غزة ولبنان يعتبر، منذ الآن، احتمالا وارداً، فاذا لو أصبح القطاع جزءا من الدولة الفلسطينية التي ستقام؟
مثل هذا السيناريو سيضع إمكانيات الرد من جانب الجيش الإسرائيلي في مأزق صعب، وبالأساس مأزق استراتيجي ـ عملياتي قد يحول، جراء اعتبارات داخلية وعالمية، دون تركيز الجهود الكافية على الضفة الغربية، مما سيزيد من صعوبة إعادة احتلالها من جديد، بدرجة كبيرة.
كما يدعي أن نزع سلاح الدولة الفلسطينية المستقبلية (وهو شرط أساس لإقامتها حتى في منظور مؤيدي هذا الخيار، من اليمين ومن اليسار على حد سواء)غير قابل للتحقيق، حيث أثبت، بصورة قاطعة، الفشل المدوي في نزع السلاح في غزة في إطار اتفاقيات أوسلو، بالرغم من تعهد منظمة التحرير الفلسطينية بهذا الإجراء، في عدد من الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها.
كما يدعي الباحث الإسرائيلي أن غياب التواجد والسيطرة الإسرائيليين في غور الأردن سيؤدي إلى نشوء اتصال جغرافي، على الأرض، بين الدولة الفلسطينية والعالم العربي الإسلامي في شرق الأردن (وهو الاحتمال الذي أثار قلق بن غوريون منذ العام 1948) وسيزيد كثيرا من صعوبة منع التسليح في تلك المناطق. زاعما أيضا أن الإخلاء الواسع للمستوطنات لن يؤدي إلى تخفيف حدة الصراع، كما يدعي مؤيدو الانفصال، كما يمكن الاستنتاج من سير العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين منذ بداية عملية أوسلو، وخاصة بعد الانفصال عن غزة.