الجزائر ـ «القدس العربي»: باتت دراما رمضان في الجزائر تثير جدلا كبيرا، بكسرها تابوهات اجتماعية غير مألوفة في المجتمع الجزائري المحافظ عموما. وبقدر ما تستهوي هذه الأعمال جمهورا واسعا، بقدر ما تجلب عليها سخطا كبيرا، بسبب مشاهد خادشة أو عنيفة أو صادمة للذوق العام، الأمر الذي يستدعي في كل مرة تدخل السلطات لتوجيه القنوات، وهو إجراء لا يخلو أيضا من نقد للذين يدافعون عن حرية الإبداع والإفلات من الرقابة.
لم يكن رمضان هذه السنة استثناء، بل لعله كان الأكثر سخونة على الشاشة الصغيرة، حيث اجتمعت كل مقادير إثارة الصخب الإعلامي في عدد من الأعمال التي زادت فيها جرعة التناول عن الحدود المتعارف عليها، فتحولت مشاهدها إلى حديث مواقع التواصل الاجتماعي وامتد ذلك إلى الصحف التي فتحت حولها النقاش ووصل الأمر إلى السياسيين وإلى السلطات الوصية على قطاع الإعلام التي سارعت بالتدخل.
مشاهد عنف
ومخدرات وسخرية
ومن هذه الأعمال المثيرة للجدل، مسلسل «البراني» للمخرج يحيى مزاحم الذي يبث عبر قناة «الشروق» وهو من بطولة عدد من الأسماء كمصطفى لعريبي ومينة لشطر وعايدة عبابسة، بينما السيناريو من تأليف يسرى مولوة.
تدور أحداث المسلسل، حول عائلة «البراني» المكونة من أربعة إخوة: سيد علي، عمار، ومحمد والأخت فاطمة، وسبب تسمية المسلسل بـ«البراني» لأن أحد الأولاد متبنى وليس ابن العائلة. لكل واحد من هؤلاء الإخوة، مساره الخاص في الحياة، ما يخلق صراعات وتوترات داخل العائلة. يعيش الأب لوحده في بيت متواضع في حي شعبي بينما تسكن باقي العائلة في فيلا فخمة، بسبب مبادئ الأب الذي يرفض مصادر دخل أولاده نتيجة التجارة في الممنوعات ويعتبرها مالا حراما.
يُظهر المسلسل بعض جوانب المجتمع الجزائري المظلمة، مثل الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة والفرق بين الطبقات الاجتماعية والجريمة المنظمة وتصادم القيم والتقاليد مع طموحات الأشخاص. ويثير بين ثناياه تساؤلات حول ما إذا كانت هذه القصص فعلا موجودة في الواقع أم أنها محض خيال يحاكي ما يحدث في عوالم الجريمة في دول أخرى.
وفي الأيام الأولى من رمضان، واجه المسلسل نقدا لاذعا بسبب مشهد اقتياد بطل المسلسل الممثل كريم دراجي، للممثلة نورين حايد، التي تلعب دور منال، في نزهة إلى الغابة بسيارته، وتلقينها كيفية تناول المخدرات، بتفاصيل بدت صادمة، إلى الدرجة التي طالب فيها البعض بوقف بث المسلسل، باعتباره يحرض على العنف وتعاطي المخدرات والكحول، ولا يعكس حقيقة المجتمع الجزائري.
وإثر ذلك، وجهت وزارة الاتصال استدعاء للمدير العام لمجمع الشروق من أجل تقديم توضيحات بخصوص بعض لقطات المسلسل، والتي لا تتناسب مع خصوصية الشهر الفضيل، وفق لجنة اليقظة التي نصبتها الوزارة لمتابعة ما يبث في شهر رمضان.
ولم يلبث أن واجه المسلسل من جديد، هجوما قويا، بعد لقطة بدت مجانية تعرضت فيها ممثلة بالانتقاص لعالم الاجتماع المغاربي ابن خلدون. وفي تفاصيل هذا المشهد، كانت الممثلة عايدة عبابسة ترد على مقولة لابن خلدون استشهدت بها الممثلة يامنة، قائلة: «لو كان جا راجل ما يسميش روحو على باباه» (بمعنى لو كان رجلا لما سمى نفسه باسم والده) وهو كلام اعتبره الكثيرون غير لائق ولا يصح في حق شخصية كبيرة مثل ابن خلدون، في حين حاول آخرون التقليل من الأمر معتبرين أن الكلام كان في سياق كوميدي ولا يستحق كل هذه الضجة.
أما المسلسل الآخر الذي يسجل حضوره القوي، فهو «الرهان» الذي تبثه قناة «النهار» ويعرض أيضا على منصة عربية لعرض المسلسلات، وهو عمل من إخراج محمود كمال من مصر وسيناريو رفيقة بوجدي، بمشاركة ممثلين من قبيل عباس رحماني وجميلة عراس.
تدور أحداث مسلسل «الرهان» في سياق تشويقي حول البطل عيسى زياني الذي يُسجن ظلماً لمدة 5 سنوات بعد إبلاغه عن وقائع فساد في نطاق عمله بإحدى الشركات الكبرى في سنة 2014.
تتطور أحداث المسلسل بخروج عيسى من السجن بنية الانتقام وردّ الاعتبار لنفسه، وكرامته وكرامة عائلته. ويواجه في رحلته، عزيز رجل الأعمال الفاسد الذي تسبب في حبسه، ويدخل في صراع مرير معه. ويتعرف على أحلام المحققة التي تتخفى في دور العاملة في متجر القماش الذي يملكه أب عيسى وتتطور العلاقة بينهما.
وفي سرده للأحداث، يُسلط المسلسل الضوء على قضايا هامة مثل الفساد في المجتمع والظلم والانتقام. ورغم أن الانتقادات لم تكن بحدة «البراني» إلا أن المسلسل لم يخل من مشاهد أثارت حفيظة البعض. كذلك، طبعت نفس الملاحظات، الجزء الثاني لسلسلة «البطحة» للمخرج وليد بوشباح، وهي من بطولة نبيل عسلي، ياسمينة عبد المومن ونسيم حدوش.
تدخل الوزارة
وأمام حدة المشاهد وتنافرها مع طبيعة شهر رمضان والضغط العام على مواقع التواصل، وجدت السلطات نفسها مضطرة للتدخل، لإعادة ضبط المشهد. وفي لقائه مع مدراء القنوات العمومية والخاصة، أكد وزير الاتصال، محمد لعقاب، على ضرورة مراعاة قيم وعادات المجتمع الجزائري في الشبكة البرامجية التي تبث خلال شهر رمضان الفضيل مع احترام المعايير المتعلقة بفترات بث الومضات الإشهارية.
وشدد لعقاب، وفق ما نقلت عنه الوزارة، على ضرورة مراعاة حرمة الشهر الفضيل وقيم المجتمع الجزائري خلال بث مختلف البرامج، مشيرا إلى أن تحرك الوصاية جاء «بناء على التجاوزات العديدة التي وقفت عليها لجنة اليقظة التي تم تنصيبها لمتابعة البرامج الرمضانية منذ حلول الشهر الكريم».
ومن أهم ما تم تسجيله -وفق الوزير- أن «بعض المسلسلات تضمنت لقطات غير مبررة لا تتناسب مع حرمة شهر رمضان وعادات المجتمع الجزائري وكان بالإمكان حذفها دون أن يكون لذلك تأثير على سير الإنتاج ككل».
واعتبر لعقاب أن الأمر «لا يتعلق بالمواضيع التي تدور حولها هذه المسلسلات، بل بطريقة معالجتها التي غاب عنها الإبداع» لافتا إلى أن «طريقة العرض توحي أحيانا بأن هذه المسلسلات تشجع على الانحرافات والآفات الاجتماعية كالمخدرات بدل التوعية بخطورتها».
وأضاف أن «بعض المنتجين قاموا بتغيير السيناريوهات التي تحصلت على رخصة من قبل وزارة الاتصال» وهو ما وصفه بالأمر «المرفوض تماما» محملا مديري القنوات التلفزيونية «المسؤولية الكاملة» فيما يتعلق بمراقبة فحوى البرامج قبل بثها.
أما سلطة ضبط السمعي البصري، وهي هيئة رسمية مختصة في متابعة محتوى البرامج، فأصدرت من جهتها عدة بيانات. ووجهت إنذارات للقنوات خاصة فيما يتعلق بتغليب الجوانب التجارية من خلال التمادي في عرض الفواصل الإشهارية التي فاقت المعقول وفق مختصين، وأصبحت تؤثر على محتوى البرامج المعروضة.
جدل الرقابة
رغم ما يبدو من حرص رسمي على نظافة الشاشة، يرى الباحث في علم الاجتماع نوري دريس أن هناك هوة لا يمكن جبرها بين ما تحاول السلطة فرضه وبين ما تسعى القنوات لتحقيقه.
ويقول في حديثه مع «القدس العربي» إن الإشكال في الجزائر يكمن في عدم وجود قوانين واضحة ترسم حدودا لتدخل السلطة في الإعلام والصحافة. ويشير هنا إلى أن تدخل السلطة في الإعلام نابع من طابعها الذي يحاول مراقبة كل شيء، والتجلي بمظهر «حارس قيم وأخلاق المجتمع» في حين أنه لا يوجد قانون بإمكانه أن يكون واضحا ودقيقا في تحديد مفهوم أخلاق وقيم المجتمع.
أما الإشكال الآخر، فيكمن في كون السلطة لا تتصور الحقل الإعلامي كسوق تتنافس فيه مختلف الشركات لتحقيق أرباح ضمن قواعد يرسمها القانون، حيث أن تصريح الوزير نفسه يعطينا صورة عما تتصوره السلطة عندما قال لأصحاب المؤسسات الإعلامية: «نحن هنا من أجل خدمة المواطن وغاية وجودنا هي خدمة المواطنين والمشاهدين وضمان حقه..».
ويعقب نوري دريس على ذلك بالقول إن «هناك هوة سحيقة بين ما يتصوره الوزير وبين ما يتصوره أصحاب هذه الشركات. ففي النهاية يسعى أصحاب المؤسسات الإعلامية لتحقيق أرباح ولذلك يشترون مسلسلات وينتجونها ويوقعون عقودا اشهارية، أما الوصاية فتعتقد ان الشركات الإعلامية الخاصة يجب أن تكون مجرد امتداد للتلفزيون العمومي ويجب أن يخضع تسييرها لنفس المنطق».
ويضيف: «المشكلة أن السلطة لا تكتفي بالتدخل لفرض احترام الآداب العامة. بل تريد توجيه وظيفة الدراما نفسها، متصورة أن من حق الجزائريين الحصول على إعلام هادف ودراما هادفة.. إنها تنسى أو ترفض أن ترى أن هذه شركات ومؤسسات خاصة تتنافس في السوق وأن المشاهد كذلك حر في المشاهدة من عدمه خاصة وأن القنوات كلها مفتوحة ومجانية. هناك مشكلة في تصور وظيفة الدولة ومهامها ومشكلة في تصور السوق الإعلامي».
وفي العلاقة بين الطرفين، يقول الباحث إن السلطة ترى أنها قدمت مزية للمؤسسات الإعلامية الخاصة بإعطائها ترخيصا للعمل، ومقابل ذلك تنتظر منها أن ترد الجميل بالانخراط في ممارسة الوظيفة المنوطة بالإعلام العمومي، وأن لا تخرج عن الحدود المتعارف عليها، سواء في النقد السياسي، أو في خدش المشاعر كي لا يغضب الجزائريون من السلطة وكي لا تظهر أمامهم عاجزة عن الحفاظ على القيم والأخلاق.