كلما تفجرت قضية إنسانية أو إجتماعية أو سياسية عاد المثقفون الغربيون إلى قضية (دريفوس) الشهيرة. باعتبارها محطة التأريخ الفعلي لظهور المثقفين وإعلان وجودهم كقوة رمزية ذات أثر. أو ما يسميها جاك جوليار بالحقبة المجيدة.
حيث تحققت حينها فكرة الإنتصار للحقيقة والعدالة. فيما يفتقر المثقفون العرب إلى مرجعية بذات المعايير والفاعلية. ولذلك يتم التذكير الرثائي عند كل مأزق بمآل الحلاج، ونكبة ابن رشد، ومحنة أحمد بن حنبل، ومأساة التوحيدي، ومقتل السهروردي، واغتيال فرج فودة إلى آخر قائمة شهداء الرأي. بدون أن يتشكل أي تيار فكروي مستقل ينتصر لمفهوم الحرية.
في قضية دريفوس، اقتحم المثقفون الغربيون الشأن العام، واعتبروه فضاءً لهم. من خلال خطاب إميل زولا التاريخي (إني أتهم ). وبذلك سجلوا حضورهم كفئة إشكالية، تقع عليها مهمة أداء وظيفة ذهنية، ذات طابع سياسي وإجتماعي وثقافي. كما أفردوا لأنفسهم مكانة، هي مزيج من الأداء العقلي والموقع المؤسساتي والتحرُّر الفردي. وقد أوكلوا لأنفسهم إنتاج خطابات للتعليق على الأحداث وتحليلها وتوجيهها. وهي خطابات دنيوية بالضرورة، تفارق كل ما هو كهنوتي. لتحرير الإنسان من كل مفاعيل السلطة بكل أشكالها الدينية والسياسية والإجتماعية.
ومنذ تلك اللحظة وهم يؤسسون لعصر أنوار متجدّد. يقوم على تفكيك العقل اللاهوتي. حيث يقدمون طروحاتهم ويسجلون مواقفهم إزاء أي حدث ذي شأن. إيماناً بأهمية الثقافة ودورها ووظيفتها. وتواصلاً مع كل ما يمت لها بصلة على المستوى المعرفي أو التاريخي أو الإجتماعي أو السياسي. فالثقافة بالنسبة لهم هي الهدير القادم من أعماق التاريخ، حسب تعبير ريجيس دوبريه. وهذا هو ما يفسر اصطفافهم في خانة النقاد والمعارضين والمنشقين والمستقلين، الذين يحاربون التقاليد والأعراف والمؤسسات.
عند ذلك المفصل التاريخي أصبح للمثقف حضوره السجالي النضالي الذي يحسب له حساب. وهذا ليس في فرنسا وحسب، بل في مواقع أخرى من العالم. حيث كانت روسيا آنذاك تبتكر مفهوم (الانتلجنسيا). أو كما سماهم هربرت ماركوز رجال الرفض الكبار. فيما يبدو استكمالاً لأدوار ثقافية كبرى أداها بناة الحضارة على مر التاريخ في اليونان وما بين النهرين وغيرها من العواصم الحضارية التاريخية. وهذا لا يعني بطبيعة الحال طهرانية المثقفين بالجملة. فهناك فجوة واسعة بين الخطابات والأفعال، كما لاحظها بير بورديو، الذي سجل على بعضهم أيضاً تحالفاتهم مع السلطة والمبالغة في ادعاء التمثيل المعرفي والسياسي للشعب.
لقد ترافق مع بيان إميل زولا طرح عريضة موقعة من قبل أسماء كبيرة اشترك فيها طابور طويل من المثقفين كأناتول فرانس إلى جانب الشاب- حينها- مارسيل بروست. مع إصرار من المثقفين على تقديم قراءات ومواقف تحف بكل حدث. وصولاً إلى ما عُرف عند سارتر بالأدب الملتزم. حيث اعتبر الأدب بمثابة معركة ثقافية. بمعنى أن تلك اللحظة هي التي وحدت ما بين الأثر الأدبي وتوقيع البيانات. وهذا هو ميدان المعركة المقصود. فالعريضة بقدر ما هي إلتزام، هي موقف ورأي، بل حالة تفاوضية. لدرجة أن الحقب كانت تسمى باسم المثقف الأبرز الذي يقود حملات الرأي والتوقيع. حيث تم تسمية حقبة بعنوان (سنوات فوكو) وهكذا.
هكذا صار التوقيع على العرائض تقليداً ثقافياً من وظائف المثقف. وهو الفرض الذي بات مثففو العالم العربي يؤدونه كلما واجهتهم كارثة. ولكن بمضامين لا تتناسب مع طبيعة الحدث وفداحته. حيث يغلب على البيانات سمة التراضي بين مختلف التيارات الثقافية أو الإنحياز لقوة استبدادية غالبة. وترديد أوهام المؤامرة، بالإضافة إلى عبارات خطابية رنّانة لا تشرح راهن الحدث ولا تستشرف مدياته. حيث يحتفظ التاريخ بسجل من الإنقسامات والتأثيم والتخوين ما بين المثقفين، أو ما يمكن اعتباره حرب بيانات ثقافية، سواء في حروب المواجهة ضد إسرائيل. أو إبان الغزو العراقي للكويت وما تلاه من عدوان أمريكي. وصولاً إلى مجريات ما يسمى بالربيع العربي.
على هذا الأساس يمكن النظر إلى بيان الـ (250) مثقفا الذي أعلن عنه في منتصف تموز/ يوليو الماضي، تحت عنوان (بيان ضد الإستبداد الديني والديكتاتورية). وهو بيان أقل ما يقال عنه أنه معقّم على مستوى الأفكار واللغة، لئلا يثير حفيظة دول وجهات بعينها. فهو يفتقر إلى القراءة العميقة الشاملة للحدث المتمثل في ظهور (داعش) كتتويج للحركات الإرهابية المتطرفة. كما يعتمد لغة مراوغة لا تتناسب مع مستوجبات اللحظة التاريخية. بالإضافة إلى كونه يشير إلى جهات يسميها بالإسم، ويحملها جريرة التطرف والردة التاريخية، فيما يجبن عن تسمية جهات لأسباب ذات مغزى. الأمر الذي أفقد الموقعين صدقيتهم واستقلاليتهم. كما كان عرضة لجملة من الإنسحابات والإنتقادات.
إلى جانب هذا البيان وما يدور في فلكه من عرائض طائفية ومؤسساتية مموهة، لا توجد قراءات يُعتد بها لطبيعة الحدث الكبير المعنون باسم الربيع العربي. حيث ظهرت متوالية من البيانات كبيان ربيع الديمقراطية الذي ظهر مع انطلاقة الثورات العربية. بالإضافة إلى بيانات فئوية تعلن التعاطف مع شعب ليبيا وسوريا، وصولاً إلى بيان الإنتصار لرمز ديني ضد طائفة من مذهب مغاير إلى آخر قائمة البيانات المجانية.
وهكذا صار المشهد العربي على موعد مع عريضة بين آونة وأخرى، يُراد منها إبراء ذمة المثقفين وتطهيرهم الصوري من ارتكابات مفاعيل السلطة السياسية والدينية والإجتماعية. وقد كان التشرذم هو سيد الموقف، بالنظر إلى تفتُّت الحسّ القومي كمرجعية. وارتداد كل فئة إلى حواضنها الطائفية والفئوية. ورهان معظم المثقفين على الحضور الوجاهي. وامتناع معظم المثقفين عن التعاطف مع بعيداً عن الإنتماءات الحزبية والطائفية.
مقابل ذلك التدفق للبيانات لم تظهر قراءات ثقافية وازنة بمنظور عربي، تشرح حقيقة ما يُسمى بالربيع العربي. وكأن المثقف العربي ينتظر ما تطرحه دوائر الآخر في هذا الشأن ليعِّربها ويتبنى مضامينها. على الرغم من كون الحدث يأخذ موقعه الجغرافي والتاريخي والفكري في الأرض العربية. فقد كان المثقف العربي يتابع السجالات التحليلية الساخنة لجاك دريدا، وجان بودريارد، وامبرتو إيكو، وتشومسكي وغيرهم حول حدث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر. عندما كانوا يفككون الذهنية التي أنتجت الإرهاب، ويعرون لا أخلاقية الحرب العادلة، كما يفضحون جنايات الحرب الإلهية التي يؤدي فروضها المحافظون الجدد. وذلك من خلال رسائل موجهة للمثقفين الأمريكيين تحاول عقلنة النزعة المعادية لأمريكا. تماماً كما رصد المثقف العربي في وقت سابق جدالات ميشيل فوكو وجيل دولوز، إثر انتصار الثورة الإسلامية في إيران وصعود الروحانية السياسية. حيث كانت الحوارات تنطرح على طاولة تنويرية صلبة. وكما تتلمذ كثيرون على طروحات روجيه غارودي حول نشوء الأصوليات.
أما من يتأمل خارطة الولاء الثقافي في العالم العربي فسيلاحظ التبعثر الحاصل بسهولة. فهناك من المثقفين من يقف مع الديكتاتورية في ذات الخندق. وهناك من أبرم حلفه اللا مقدس مع الحركات الأصولية والسلفية المتشدّدة. وهناك من آثر العودة إلى خط دفاعه الطائفي. وهناك من استمرأ النوم في أحضان الغرب. فالتشتُّت الثقافي هو سيد الموقف، بالنظر إلى تفتُّت الحسّ القومي كمرجعية. وهو ما يفسر ارتداد كل فئة إلى حضاناتها الطائفية والفئوية. ورهان معظم المثقفين على وجاهة الحضور في البيانات. إذ لا توجد مرجعية ذات أبعاد فكرية ومرتكزات أخلاقية، بقدر ما يحتكم المثقف إلى الولاءات.
الكلام عن (داعش) وأخواتها من الحركات البربرية التي ترسم ملامح طقس البؤس والتخلف والرجعية في كل مناحي الحياة العربية، يستلزم بالضرورة الإشارة إلى المختبر الذي أنتجها، ورعاها، وأطلقها لتهدم كل ماهو حضاري. وبالتالي فإن أي بيان للمثقفين العرب يمالىء أي جهة لها صلة بهذا المسخ لا يُعتد به. فالبيانات هي إمتداد طبيعي لأفكار المثقفين ومواقفهم ووجهات نظرهم، وليست مجرد لافتات إدانة مجانية. وهو ما يعني أن المثقفين العرب بحاجة إلى مرجعية كتلك التي تولّدت إثر حادثة دريفوس. يحلّق بموجبها المثقفون الأحرار فوق العقائد والمذاهب والأيدلوجيات.
ذلك يعني أيضاً أن القراءة الثقافية للظواهر الداعشية مهمة عربية في المقام الأول. لا لأن المثقف الغربي لم يتقدم حتى الآن خطوة لقراءة ما يسمى بالربيع العربي. فهو أمر لم يعد يعنيه كما يبدو نتيجة لجُملة من التحولات الموضوعية. إنما لأن هذا الحدث وتوابعه هو شأن عربي بالدرجة الأولى. ولا بد من مقاربته بعمق وشمولية وجدية من هذه الناحية. فهذا هو الكفيل بتأسيس مرجعية ذات استقلالية ومعرفية.
* كاتب من السعودية
محمد العباس